معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
قبل أسبوعين، تحدث رئيس الحكومة في الكنيست عن اندلاع معركة "الجرف الصامد" في سنة 2014، خلافاً لنوايا الحكومة وجهودها، وعن بديليّ المعركة: السياسي، غير المرغوب فيه (التسوية مع "حماس") والعسكري، الذي لم يتم اختياره (احتلال غزة). هذا التصريح يكتسب أهمية راهنة حيال التصاعد المتسارع للضغوط في قطاع غزة اليوم، بما يرافقها من احتدام خطر اندلاع مواجهة جديدة أخرى لا ترغب إسرائيل فيها. وفي إطار سياسة إسرائيل الراهنة، يتعين عليها المبادرة السريعة إلى خطوات عملية مكثفة للتخفيف من حدة الضغوط الإنسانية ـ الاقتصادية في قطاع غزة، بغية إبطاء تراكمها الذي يسرّع التصعيد؛ وفي المقابل، عليها الاستعداد لاندلاع المواجهة واحتمالات تطورها حتى إلى احتلال قطاع غزة، سواء بتطوير الجهوزية السياسية - العسكرية، أو بإعداد البدائل المناسبة لتجنب السيطرة الإسرائيلية المجددة والمباشرة على السكان في قطاع غزة.
•شارك رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، يوم 19 نيسان/أبريل الماضي، في جلسة "لجنة رقابة الدولة" البرلمانية التابعة للكنيست، والتي ناقَشَت تقرير مراقب الدولة الخاص بعملية "الجرف الصامد". وبحسب ما ورد في التقارير الإعلامية، قال نتنياهو: "إن نيّتي في ذلك الوقت كانت تتجه نحو تجنب تلك الحرب قدر المستطاع"، غير أنه في أعقاب اختطاف الشبان [المستوطنون اليهود الثلاثة الذين تم اختطافهم ثم قتلهم في منطقة "غوش عتسيون"، إلى الجنوب من القدس، بين بيت لحم والخليل، مساء 12 حزيران/يونيو 2014 ـ المترجم] "أصبحنا على منحدر زلق، ولم يكن في الإمكان الفرملة والتوقف، على الرغم من محاولتنا ذلك." وأضاف إن المجلس الوزاري المصغر قد بحث في خيارين عملانيين هما: التوغل حتى فتحات الأنفاق أو احتلال قطاع غزة، "هذه المعضلة بقيت على حالها... بدون الاحتلال الشامل، لن تحل المشكلة....، وحتى لو اخترتُ الاحتلال، فإن لهذا أثمان... مشكلة الاحتلال لا تكمن في الثمن المتمثل في أرواح جنودنا والمواطنين هناك فحسب، بل في الجهة التي ستجعلها عنواناً هناك، تسلّمها المنطقة وتوكلها مهمة إدارة شؤونها. هل نبحث في هذه الخيارات؟ نعم. هل سنقوم بتنفيذها؟ أمامنا بضعة خيارات... لا أستطيع تطهير الشرق الأوسط من حولي من هذه الأيديولوجيات المتوحشة... لذلك، عليّ بناء قدراتي لصدها، ولردعها، أو لحسم المعركة إذا ما فُرضت علينا. هذه هي استراتيجيتنا... علينا تجديد قوتنا الردعية وتطويرها. لدي سياسة واضحة وهي أنني غير مستعد للقبول بالتقطير" ["التقطير" - المصطلح الإسرائيلي المستخدم لوصف الإطلاق المتقطع لبعض القذائف من قطاع غزة على جنوب إسرائيل - المترجم].
•تجسد أقوال رئيس الحكومة هذه السياسة الإسرائيلية على نحو واضح: التسليم الفعلي بوجود سلطة "حماس" في قطاع غزة، من دون الاعتراف بها رسمياً؛ ردعها عن المس بإسرائيل وإحباط جهودها الرامية إلى ذلك وإلى تعزيز قوتها؛ منعها من السيطرة على يهودا والسامرة (الضفة الغربية). وهي سياسة تسعى، في المدى القصير، لتأجيل المواجهة المقبلة، لكن بثمن ترسُّخ "حماس" وتعزيز قوتها وموقعها، في المديين المتوسط والطويل، كفصيل سياسي وسلطوي مهم في الساحة الفلسطينية يعتمد رؤية إسلاموية ويرفض حق إسرائيل في الوجود. وتحتاج إزالة التوتر بين المدى القريب والمدى البعيد في السياسة الإسرائيلية، على ما فيها من مخاطر وأفضليات، إلى بحث واسع ومنفرد، لكن أقوال رئيس الحكومة المسجلة آنفاً تطرح جملة من التحديات المركزية الماثلة أمام إدارة السياسات القائمة حالياً، وفي مقدمها تأجيل المواجهة المقبلة في قطاع غزة وتحديد أهدافها والاستعداد لخوضها.
•تعكس أقوال رئيس الحكومة، فيما يتعلق بتأجيل المواجهة المقبلة، صعوبة تجنب التصعيد ومنعه، في محاولة للموازنة بين عناصر السياسة ومركباتها المتعددة - تلك التي تسرّع وتيرة التدهور نحو المواجهة من جهة، في مقابل تلك التي تُبطئها من جهة أخرى - وبين الاعتبارات المختلفة التي تشكل أساسا لها. وهي أقوال تجسد الواقع كما كان تجسيداً حقيقياً وصادقاً، حيث أن إسرائيل و"حماس" لم تكونا معنيتين بمواجهة عسكرية واسعة. لكن عامل التصعيد الأساسي نحو "الجرف الصامد" تمثل في الضائقة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بقطاع غزة، والتي لم تتحرك إسرائيل بصورة كافية للتخفيف من حدتها، مثلاً باتفاق تحويل الرواتب من خلال الأمم المتحدة، الذي أحبطته معارضة بعض وزراء المجلس الوزاري المصغر. كما زادت من وتيرة التصعيد نحو المواجهة أيضاً إجراءات إسرائيلية ضد "حماس" في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)، وأنشطة عملانية قامت بها "حماس"، ودينامية ردات الفعل المتبادلة.
•وما يبعث على القلق الشديد، أن البحث في عملية اتخاذ القرارات قبل ثلاث سنوات لا يُترجَم الآن إلى نقاش جماهيري عام يحتّمه الواقع الحالي بين إسرائيل وقطاع غزة: رئيس الحكومة ما زال غير معني بهذه المواجهة لكن عوامل أخرى تتضافر مؤدّاها التصعيد والتسريع نحو مواجهة إضافية أخرى، مثل: ضغوط متزايدة من جانب رئيس السلطة الفلسطينية على "حماس" تتمثل في تقليص رواتب مستخدمي السلطة في قطاع غزة، وفي إعلان وقف تمويل تكاليف الكهرباء في القطاع، وأيضاًَ في تقليص الموارد المخصصة للقطاع والتي يتم توجيهها إليه. ويأتي هذا كله على خلفية تفاقم الضائقة الاقتصادية الخانقة والمستفحلة في قطاع غزة أصلاً: نقص حاد ومتزايد في مياه الشرب؛ تقليص كميات الكهرباء المزودة للقطاع وساعات تزويدها إلى أقل من ثماني ساعات في اليوم بسبب نفاد التمويل الذي رصدته قطر لهذا الغرض؛ البطالة الواسعة، وخصوصاً بين الشباب؛ الترميم الزاحف (البطيء جداً) لأضرار المواجهة السابقة وما خلفته من دمار واسع؛ نشاط بعض الفصائل الأكثر راديكالية، والذي يضع تحدياً جدياً أمام "حماس" ومحاولاتها المتزايدة تنفيذ عمليات في مناطق يهودا والسامرة (الضفة الغربية)؛ تطوير "حماس" مشروعها الخاص بالأنفاق الهجومية ومحاولات الجيش الإسرائيلي المتواصلة لكشفها وتدميرها. ويضاف إلى هذه كلها الصراع الآخذ في الاحتدام بين السلطة الفلسطينية و"حماس"، وخصوصاً قيادتها الجديدة في قطاع غزة التي جاءت من صفوف الذراع العسكرية، وأيام الذكرى والمناسبات القادمة قريباً (ذكرى الاستقلال و"النكبة"، وذكرى حرب الأيام الستة و"النكسة")، وشهر رمضان وعودة فصل الصيف. حيال هذه الأمور كلها، تواصل إسرائيل، بتوصية من الأجهزة الأمنية، الدفع نحو خطوات ترمي إلى التخفيف من حدة الضائقة التي تسرّع التصعيد، لكن ذلك يجري بوتيرة بطيئة جداً جراء مزيج من العقبات السياسية ـ الحزبية والاعتبارات الأمنية التكتيكية. فالردود الإسرائيلية على هجمات "حماس" من غزة، وإن كان هدفها المحافظة على الردع، إلاّ إنها تنطوي، هي أيضا، على احتمال التصعيد. والسطر الأخير الواضح من "ميزان الرعب" هو على النحو التالي: احتمال متزايد لوقوع مواجهة عسكرية أخرى بين إسرائيل وقطاع غزة، ومرة أخرى من دون أن تكون إسرائيل معنية بها، بل ربما من دون رغبة "حماس" أيضاً.
•مثلما انفجرت المواجهة السابقة خلافاً لرغبة الجانبين، قد تنفجر مواجهة أخرى جديدة أيضاً، وربما في وقت قريب جداً، ولن تكون أهداف الجولة المقبلة ومجرياتها رهناً برغبة الحكومة الإسرائيلية وحدها فقط. فتصريحات رئيس الحكومة تعكس فهماً عميقاً لمعاني احتلال قطاع غزة وتداعياته بحيث يستوجب، علاوة على أثمان القتال المباشرة، أثماناً لاحقة باهظة جداً تترتب على السيطرة المباشرة على نحو مليوني فلسطيني آخرين، أي عبء اقتصادي باهظ، وتخصيص قوات من الجيش الإسرائيلي لقطاع غزة حصرياً ولبضع سنوات، وخسارة المنجزات والمكاسب السياسية والاستراتيجية التي تحققت بفضل تنفيذ "خطة الانفصال" عن قطاع غزة - رغم علاتها ونواقصها - بل وفرض أثمان سياسية جديدة على إسرائيل. بيد أن أقوال رئيس الحكومة هذه تضمنت، أيضاً، إشارة إلى إمكان حسم المعركة، إن نشبت. لقد كان وزير الأمن أفيغدور ليبرمان قال قبل تسلمه منصبه الحالي، إن الحرب المقبلة في قطاع غزة يجب أن تكون الحرب الأخيرة التي تشارك فيها حركة "حماس". ومنذ ذلك الحين، صرّح مرات أخرى بأن الحرب المقبلة ستُدار بطريقة "الهجوم بكل القوة المتاحة، وعدم التوقف حتى يصرخ الطرف الآخر مُعلناً الاستسلام." وعلى هذا، فقد تلجأ إسرائيل، بقرار مسبق أو عقب التطورات الميدانية في الحرب، إلى توسيع عملياتها العسكرية إلى حدّ احتلال قطاع غزة و/ أو إسقاط سلطة "حماس".
•تحتم الخطوات المطلوب من إسرائيل اتخاذها لإبطاء وتيرة التدهور والتصعيد نحو مواجهة أخرى، إلى جانب المحافظة على الردع وامتلاك رد شاف على تهديد الأنفاق، إجراءات أخرى حثيثة للتخفيف من حدة الضائقة الاقتصادية الخطرة في قطاع غزة ولمنع حدوث أزمة إنسانية واسعة النطاق هناك، وهو ما يتشكل يومياً أمام أعيننا. وفي هذا الإطار، ينبغي التحرك والعمل سوية مع شركاء إقليميين (دول الخليج، مثلاً) ودوليين من أجل: التخفيف من أزمة الرواتب، إلى جانب تقليص خطر استغلال "حماس" لهذه الأموال لأغراضها ومصالحها هي؛ السماح بتصدير البضائع من قطاع غزة على نحو واسع؛ الدفع السريع، قدر المتاح، نحو حلول جذرية للبنى التحتية في مجالات المياه والطاقة (الكهرباء والغاز) والعمالة والتشغيل (مناطق صناعية) والسكن؛ تسهيل خروج المواطنين، بأعداد أكبر وبطريقة مُراقَبة، من قطاع غزة إلى الخارج عن طريق إسرائيل (بما في ذلك النظر في حلول خاصة بمجال السفر الجوي)، وعن طريق مصر أيضاً، بالتنسيق معها؛ منح تصاريح للعمل في إسرائيل؛ تسريع إقامة معبر إضافي آخر للبضائع (في "معبر إيرز"/معبر بيت حانون)، على خلفية الاكتظاظ الشديد جداً في "معبر كيرم شالوم" [معبر كرم أبو سالم]، وإنشاء بنية تحتية لسكة حديدية لنقل الحمولات إلى هناك من ميناء أسدود (أشدود) بعد التفتيش الأمني. هذه الخطوات تتناقض، حقاً، مع رغبة إسرائيل في إضعاف "حماس" ومع اعتبارات أمنية أخرى (تقليص قدرة سكان قطاع غزة على امتلاك الأسلحة والذخائر ومنع العمليات العسكرية المنطلقة من هناك)، لكن ينبغي النظر فيها بصورة تناسبية وحيال الخطر المتزايد للتدهور والتصعيد نحو مواجهة عسكرية جديدة أخرى تفوق أثمانها، بكثير جداً، أية عملية قد تقع هنا وهناك، كما تفوق إسقاطات ونتائج الجزء الأكبر من محاولات التعاظم العسكري الجارية في قطاع غزة في الظروف الحالية. يتعين على إسرائيل امتلاك زمام المبادرة في هذه المسائل والسعي نحو تحسين الأوضاع في القطاع انطلاقا من اعتباراتها الخاصة بأمنها القومي، وكذلك حيال الصعوبات التي تراكمها السلطة الفلسطينية أمام ذلك، انطلاقاً من اعتبارات لا تخدم إسرائيل، بل وقد يكون فيها ما يدفع نحو مواجهة عسكرية جديدة بينها وبين حركة "حماس".
•فيما يتعلق بالاستعداد للجولة المقبلة، وللوضع العام برمّته، يبدو من الصحيح العودة إلى التذكير بالمطالب الأساسية لإدارة السياسات على المستوى القومي. فسياسة إسرائيل حيال قطاع غزة تستوجب بحثاً في سياق أوسع يشمل سياسة إسرائيل حيال الساحة الفلسطينية بأسرها، في المديين القريب والبعيد، وفي ضوء العلاقات التبادلية بين قطاع غزة ويهودا والسامرة (الضفة الغربية). ويتعين على الاستعدادات الإسرائيلية للجولة المقبلة ألاّ تشمل التحضيرات العسكرية للقتال فحسب، والتي يفترض أن الجيش الإسرائيلي يقوم بها باستمرار وهو في أوجها الآن، بل أيضاً استعداد الحكومة الإسرائيلية العسكري ـ السياسي، وعمليات البحث في المجلس الوزاري المصغر، والمداولات بشأن الاستعدادات المسبقة، ومجمل الفجوات والنواقص الأخرى المعروفة في طريقة عمل المجلس الوزاري المصغر وأدائه. وعلى إسرائيل أن تنظر في الخيارات المختلفة، السياسية والعملانية، وفي التحديات التي تواجه إدارة الحرب، وفي آليات إنهائها. وينبغي التعمق، في وقت مبكر، في السيناريوهات المختلفة التي قد تصدر فيها الحكومة الإسرائيلية أوامرها إلى الجيش باحتلال قطاع غزة و/أو إسقاط سلطة "حماس"، ربما خلافاً لنيتها الأصلية وبما يتعارض مع مصالح دولة إسرائيل القومية. وفي ضوء الدلالات والإسقاطات الخطرة لإعادة فرض السلطة الإسرائيلية المباشرة على قطاع غزة، يتعين على حكومة إسرائيل الدخول منذ الآن في مسار متعدد السنوات، صبور وحذر لكنه حيوي، للمساعدة في بناء قوة فلسطينية معقولة قادرة على الحكم في قطاع غزة، بحيث تكون قادرة على استبدال "حماس" والحلول مكانها عندما تتهيأ الفرصة والظروف لذلك. وحتى هذا الاهتمام البرلماني والجماهيري القليل بما يجري في قطاع غزة، يفضل تركيزه الآن في تطبيق استنتاجات ودروس "الجرف الصامد"، نظرياً وتطبيقياً، حيال التحديات الراهنة: تأجيل المواجهة الجديدة غير المرغوب فيها قدر المستطاع، والاستعداد جيداً لاحتمال اندلاعها، على الرغم من كل شيء.