انسحاب روسي من سورية أو مجرد تغيير في شكل التدخل الروسي؟
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

•في 14 آذار/مارس 2016، أعلن فلاديمير بوتين بشكل مفاجئ سحب الجزء الأكبر من القوات العسكرية الروسية من سورية بعد أن جرى على حد زعمه تحقيق كامل الأهداف المعلنة للقوة الروسية لدى دخولها إلى سورية قبل خمسة أشهر ونصف. وفور إعلان القرار شوهدت على الأقل بعض وحــدات سلاح الجو الروسي تغادر سورية. وطرح قرار سحب القوات أسئلة عديدة من ضمنها: لماذا اختارت موسكو سحب قواتها من سورية الآن تحديداً، ولا سيما أن لها اليد العليا بعد أن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ قبل نحو أسبوعين - بموجب الاتفاق الذي توصلت إليه روسيا مع الولايات المتحدة - وقبل استكمال أهداف التدخل الروسي المعلنة منذ البداية، أو مثلما يفهمونها في الغرب "هزيمة المعارضة السورية"؟   

•وعلى ضوء القرار الروسي المفاجئ وفي غياب تفسير لا لبس فيه لخلفيات هذا القرار، طرحت تفسيرات متعددة لهذا التطور من بينها أن القرار ناجم عن أسباب سياسية داخلية روسية (على خلفية الاستعداد لانتخابات البرلمان الروسي التي ستجري في أيلول/سبتمبر المقبل) وكذلك عن دوافع اقتصادية على صلة بالأزمة الاقتصادية التي تعيشها روسيا؛ وأن القرار يعبر عن إرادة الضغط على الأسد وعلى إيران لحملهما على الموافقة على حل سياسي يضع حداً للحرب الأهلية؛ وأن هذا القرار يمثل رسالة موجهة إلى الولايات المتحدة مفادها أن روسيا تبدي مرونة في الموضوع السوري أملاً في تخفيف العقوبات المفروضة عليها من جراء سياستها في أوكرانيا؛ وأنه يعكس إدراكاً بأن أهداف التدخل غير قابلة للتحقيق، وتبعاً لذلك ينبغي الانسحاب قبل التورط أكثر والوصول إلى نقطة تصبح فيها كلفة التدخل أكبر من فائدته. ويبدو أن كل تفسير من هذه التفسيرات ينطوي على قدر معين من المنطق، وقد يكون القرار الروسي نتيجة هذه الاعتبارات كلها مجتمعة.  

•ولا نعلم إن كانت هذه الخطوة ثمرة تخطيط مسبق، أم أن الأمر يتعلق بالرد على تطورات سلبية من وجهة المصالح الروسية في سورية ومن وجهة علاقات روسيا مع الغرب. وتجدر الإشارة إلى أنه قبل الإعلان الروسي عن سحب القوات العسكرية، أعلنت الولايات المتحدة تمديد وتكثيف العقوبات ضد روسيا خلافاً لتوقعات موسكو برفع العقوبات نتيجة الاتفاق بشأن وقف إطلاق النار في سورية. وأعقب ذلك فوراً إعلان صادر عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف حول دعم تحويل سورية إلى فيدرالية [ملاحظة: "أحد الحلول الممكنة"]. وبالتالي، قد يكون أحد أهداف العملية تحريك مسار تقسيم سورية بشكل رسمي، وفرض تحد أمام الغرب بهذه الطريقة.

•على أي حال، تبين أن الإعلان الروسي عن سحب القوات من سورية لا يعكس انسحاباً تاماً. فقد سحبت روسيا بالفعل على الأقل جزءاً من طائراتها ومقاتلاتها التي شاركت في القتال في الأشهر الأخيرة (أكثر من 50 طائرة مقاتلة، وطائرة اعتراضية، ومروحية)، لكنها أبقت على قواعدها - قاعدتان بحريتان وقاعدتان جويتان مع الوحدات المسؤولة عن تشغيلها وحمايتها، وعلى جهاز القيادة والتحكم والاستخبارات، فضلاً عن البنى التحتية للصيانة المتمركزة في سورية، وكذلك على جهاز المستشارين العسكريين الروس في الجيش السوري. وأعلنت روسيا هذه الوقائع في بيان رسمي رافقه تأكيد الرئيس بوتين أنه يمكن إعادة هذه الطائرات إلى سورية "خلال ساعات معدودة"، وإعلان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن روسيا ستواصل مكافحة الإرهاب في سورية. 

•ومغزى هذه التصريحات أن روسيا لم تنه تدخلها في سورية، وإنما هي بدلت شكله بهدف تقليل المخاطر، والإمساك بأوراق في المفاوضات وإيصال رسائل، مع الاحتفاظ بالقدرة على العودة بسرعة إلى شكل التدخل السابق. وعملياً، أعلنت روسيا تقليص حجم مشاركتها في القتال في سورية، وليس إنهاء تدخلها العسكري في الحرب.

•إن التفسير الرسمي الروسي لتغيير نظام قواتها العسكرية يشير إلى تحقيق أهداف التدخل في سورية، مع أن الهدف المعلن المتمثل في محاربة الإرهاب الإسلامي، أي تنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة"، لا يزال بعيداً عن التحقيق. وفي مقابل ذلك، تحقق الهدف المعلن الثاني- أنقذ نظام الأسد من موقع ضعف عسكري في مواجهة الثوار كان يهدد بسقوطه. وسمح التدخل الروسي، بالإضافة إلى دعم من قوات حزب الله وإيران وميليشيات شيعية، للنظام السوري، بضمان استقرار سيطرته على المنطقة الممتدة من ريف دمشق إلى محافظتي حمص وحلب ومنطقة الساحل. والأولوية الأولى للتدخل العسكري الروسي كانت لهذا المجهود. وسمح النجاح العسكري لروسيا بتحقيق المرحلة الثانية من خطتها التي هي موافقة تنظيمات المعارضة على الدخول في مفاوضات وفق شروط كانت ترفضها سابقاً، حيث يلعب العراب الروسي دوراً رئيسياً. وفي إطار العملية السياسية جرى توقيع تفاهمات حول وقف لإطلاق النار لا يسري على العناصر الجهادية. وفي غضون ذلك صمد وقف إطلاق النار على الرغم من توقعات عديدة حذرت من انهياره.   

•وفي هذه المرحلة من الصعب تقدير ما إذا كان تعزيز نظام الأسد بفعل التدخل العسكري الروسي، سيضمن بالضرورة بقاءه. وحتى الآن، وفي غياب اتفاق بين النظام وقوات المعارضة، هناك احتمال كبير جدا بأن ينهار وقف إطلاق النار. علاوة على ذلك، هناك شك في أن يكون ما بقي من وجود عسكري روسي في سورية كافياً لتمكين الأسد من التصدي لتنظيمي "داعش" و"جبهة النصرة" بنجاح، خصوصا بعد أن قلصت إيران أيضاً حجم تدخلها العسكري المباشر في سورية. وتالياً، تحتفظ موسكو بخيار إعادة قواتها إلى سورية.  

•يتكون انطباع بأن روسيا تسعى للدفع قدماً بفكرة يجري بموجبها تقسيم سورية إلى كيانات سياسية تبقى القدرة على توحيدها في المستقبل غير واضحة. وبالفعل، بواسطة روسيا جرى تعزيز الكيان السياسي الذي يقف على رأسه الأسد أو شخصية علوية أخرى (كيان يحظى بدعم روسيا، بالإضافة إلى دعم جهات التحالف الشيعي بقيادة إيران ضمن دائرة نفوذ روسية). لكن إلى جانب هذا الكيان تشكل منذ الآن في الواقع كيان كردي مستقل على الحدود التركية، والكيان الثالث سيكون سنياً في منطقة خاضعة حالياً بمعظمها لسيطرة "داعش". 

•وفي سياق الحديث عن "داعش" كذلك، يشار إلى أنه من غير الواضح حتى الآن مدى اهتمام روسيا بالمشاركة في محاربتها والوقوف إلى جانب لاعبين آخرين يقودون القتال ضدها - الولايات المتحدة التي تقود تحالفاً دولياً، فضلاً عن تركيا وإيران وحزب الله، والأكراد الساعين لتأسيس كيان خاص بهم في ظل مقاومة تركية نشطة، والمملكة العربية السعودية الساعية لكبح التوسع الإيراني. وهؤلاء اللاعبون الساعون لتعزيز مصالحهم الخاصة معنيون بشكل واضح في استئصال "داعش". وفي الوقت الحاضر، تواصل روسيا العمل في بعض المناطق (في تدمر، على سبيل المثال)، وهي تلمح إلى احتمال دعم تقدم قوات الأسد في مناطق شرق سورية (الرقة) الخاضعة حالياً لسيطرة "داعش".

•وفي هذا الواقع الديناميكي، يتوجب على الولايات المتحدة والتحالف الدولي الذي تقوده ان تواصل الحرب على تنظيم "داعش" من خلال المناورة بين مجمل الأطراف المشاركة، مع السعي للتوصل إلى تفاهمات مع روسيا سواء بشأن محاربة "داعش" أو بشأن العملية السياسية في سورية، بما يخدم أهدافها التي لا تتماثل مع أهداف روسيا، سواء لجهة مستقبل نظام الأسد أم لجهة إبقاء سورية منطقة خاضعة للنفوذ الروسي.

 

•وبالنسبة لانعكاسات هذا الحدث على إسرائيل، فهي تمكنت حتى الآن من الامتناع عن اختيار طرف وعن التدخل المباشر في الأزمة في سورية. وروسيا التي تعتبر إسرائيل لاعباً إقليمياً مهماً، تؤثر رؤيتها الثابتة في سياستها المحايدة تجاه المواجهة في سورية. ويجوز افتراض أن موسكو ستفضل ذلك أيضا في المستقبل عندما قد يطلب من روسيا مواصلة تدخلها في الأزمة الإقليمية. ومن جانب إسرائيل، ففضلاً عن المصلحة الشاملة في إضعاف المحور الشيعي بقيادة إيران، ستبقى المصالح الملموسة لإسرائيل في سورية هي إبعاد تهديد نشاط المحور الشيعي وكذلك خطر الجماعات الجهادية عن المناطق القريبة من حدودها، ومنع نقل وسائل قتالية كاسرة للتوازن العسكري الحالي إلى حزب الله. ويجب أن يكون استمرار حرية العمل والحركة في هذا المجال مضموناً لإسرائيل وشرطاً إسرائيلياً لمواصلة التعاون مع روسيا في المنطقة. وعموماً لا يوجد لإسرائيل سبب يدعوها لمعارضة التحركات الروسية الهادفة إلى تقسيم سورية وتحويلها إلى دولة فيدرالية أو أي إطار سياسي آخر.

 

 

المزيد ضمن العدد 2348