ما وراء التهديدات: ماذا نفهم من تصريحات نصر الله الأخيرة؟
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
المؤلف

 

•كان لأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ظهوران إعلاميان متقاربان في المدة الأخيرة. الأول كان خطاباً مسجلاً   ألقاه في 16 شباط/فبراير 2016 في ذكرى شهداء الحزب، نتذكر منه بصورة خاصة تهديداته بشأن قدرة حزب الله على مهاجمة حاويات الأمونيا في خليج حيفا؛ والثاني كان مقابلة عرضتها قناة الميادين المقربة إلى الحزب في 21 آذار/مارس، تطرق فيها نصر الله إلى تهديد التنظيم الذي يتزعمه لمنشآت حساسة في إسرائيل بينها المنشآت النووية أيضاً.

•كعادته، يتواصل نصر الله في خطاباته مع الحديث السياسي والعام الدائر في إسرائيل، وهذا ما فعله هذه المرة: فكلامه لم يُقل في فراغ بل تطرق إلى مشكلات مطروحة على جدول الأعمال في إسرائيل. لكن على الرغم من توجهه مباشرة إلى إسرائيل وتخصيصه لها جزءاً كبيراً من كلامه (على عكس خطاباته في السنوات الأخيرة التي خصصت أغلبيتها للحرب في سورية) يبدو أن كلامه لم يكن موجهاً إليها فقط بل إلى آذان أخرى: أولاً وقبل كل شيء إلى الجمهور اللبناني، وبعد ذلك إلى العالم العربي كله. وعلى الرغم من الانعكاسات المحتملة الخطيرة لكلام نصر الله فيما يتعلق بالبعد الإسرائيلي، فمن أجل فهم جوهر ظهوره ومغزى تصريحاته في الإطار الأوسع، يجب فحصها على خلفية مجمل التطورات على الصعيد الاستراتيجي، وتفسير كلامه بوصفه موجهاً إلى خصومه المختلفين، وعلى صلة بأربعة أبعاد: الحرب في سورية، خصوم حزب الله، الساحة الداخلية-اللبنانية، وإسرائيل.

•البعد الأول، الذي يؤثر بصورة طبيعية وإلى حد كبير على نصر الله هو الحرب في سورية، ووقوفه في إطارها إلى جانب حلفائه (نظام الأسد، إيران، وروسيا)، وفي مقابل ذلك تحديه لخصومه في هذه الساحة (الولايات المتحدة، والسعودية، تركيا، والمعارضون للأسد بمختلف أنواعهم). لقد جاء الخطاب الأول في ذروة محاولة دولية ضمن إطار محادثات جنيف للتوصل إلى اتفاق لوقف النار في سورية. وكعادته أثنى نصر الله على نظام الأسد وأهمية المحافظة على وحدة سورية، وحاول الضغط على المفاوضين في جنيف من أجل التوصل إلى تفاهمات تضمن مصالح حزب الله في الدولة المجاورة. عند ظهوره في المرة الثانية كانت الصورة الكبرى قد تغيّرت، بعد أن بدأ وقف إطلاق النار، وأعلنت روسيا عن انسحاب (جزئي) لقواتها من سورية، وجرت إعادة قوات إيرانية معيّنة إلى إيران. وأثارت المفاجأة الروسية تساؤلات لدى الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بشأن مستقبل وحجم قتال المحور الشيعي في سورية، وهذا ما استدعى تطرق نصر الله إلى المسألة مدعياً أنه أبلغ مسبقا بالخطوة، مثلما جرى ابلاغه مسبقاً بدخول الروس إلى المعركة. وقد أراد بذلك أن يظهر حصانة ووحدة المحور الذي ينتمي إليه نصر الله ، وبأن ما يجري هو سلسلة خطوات مخطط لها جيداً ومتزامنة بدقة من أجل تحقيق النتائج المرجوة في الحرب في سورية. وفي الوقت عينه كان من المهم بالنسبة إليه أن يشدد على فعالية التدخل الروسي وعلى حقيقة أنه حقق تفوقاً مهماً للأسد وحلفائه على أعدائه، الأمر الذي يصور تدخل حزب الله وكأنه مفيد ويساهم في حماية لبنان.

•البعد الثاني يتركز على نشاط خصوم حزب الله ضده. ووفقاً لنصر الله فإن هؤلاء مرتبطون ببعضهم البعض: الولايات المتحدة، والعالم العربي السني، الذي تقف في مركزه السعودية وتركيا، وكذلك التنظيمات السلفية الجهادية بقيادة تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة. وبالإضافة إلى الاتهامات المعتادة المتعلقة بتآمر السعودية وتركيا ودعمهما للإرهاب، والانتقادات الموجهة إلى الولايات المتحدة كونها لا تفهم أن البديل عن الأسد هو "الدولة الإسلامية" وجبهة النصرة، أضاف نصر الله عنصراً مهماً إلى المعادلة هو سلسلة الخطوات الجديدة التي اتخذتها السعودية ضد حزب الله: قرار الرياض سحب المساعدة المالية للجيش اللبناني، وتهديدها باتخاذ خطوات أخرى في هذا الاتجاه؛ وفرض قيود على مواطني دول الخليج الذين يزورون لبنان؛ وتصنيف الجامعة العربية حزب الله تنظيماً ارهابياً. والغرض من هذه الخطوات معاقبة لبنان على عجزه عن الوقوف إلى جانب السعودية، أي تحوله، في نظر السعودية، إلى دولة يسيطر عليها حزب الله عسكرياً وسياسياً. ومن المعلوم أن للمال السعودي أهمية كبيرة في الاقتصاد اللبناني، وبالنسبة إلى أصحاب الأموال السنّة المحليين المدعومين من المملكة. ويشكل تقليص الدعم خطوة دراماتيكية تفرض على نصر الله الذي يوجه إليه أصبع الاتهام الرد على الانتقادات الداخلية. 

•البعد الثالث، المرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبعدين الأول الثاني هو البعد الداخلي- اللبناني. على الرغم من سيطرة حزب الله والضعف التدريجي لخصومه في لبنان، فإن الحزب لم ينجح بعد في انهاء مسألة انتخاب المجلس النيابي لرئيس الجمهورية. في أيار/مايو المقبل يكون قد مر عامان على مغادرة رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان قصر الرئاسة، والفراغ الرئاسي ما يزال على حاله. معسكر 14 آذار ذو الأغلبية السنية برئاسة سعد الحريري طرح سليمان فرنجيه مرشحاً للرئاسة ويرفض التراجع عن مرشحه. في المقابل يتمسك حزب الله بدعمه للمرشح ميشال عون، وساعده سحب خصمه اللدود سمير جعجع ترشحيه وتأييده ترشيح عون. لكن الطريق المسدود ظل مسدوداً ولم يظهر حل في الأفق، مما يبرهن على حدود القوة السياسية لحزب الله في لبنان على الرغم من تعاظمه. يدرك نصر الله هذا الأمر وهو يحاول العثور على طريق لتحقيق تفاهمات تدفع قدماً بحل قابل للحياة في قصر الرئاسة في بعبدا. لكن على الرغم من ذلك، لا يبدو ان المواجهة المباشرة مع السعودية، كما يتضح ضمناً من كلامه، هي السبيل الصحيح لأنهاء الأزمة الرئاسية.

•وأخيراً يمكن التطرق إلى كلام نصر الله عن إسرائيل والموجه إلى إسرائيل. في الامكان الافتراض أن تهديدات نصر الله صادقة وتكشف عن نواياه، مثلما ثبت أكثر من مرة في الماضي. وفي الحقيقة ليس هناك جديد دراماتيكي في جوهر الكلام. فالقدرة النارية لحزب الله في الوصول إلى الأهداف المعلن عنها، لجهة الدقة، معروفة جيداً على ما يبدو لدى المستويين العسكري والسياسي في إسرائيل، ومن الصعب أن يكون هناك من تفاجأ بتهديداته. علاوة على ذلك، لا يفهم من تصريحات نصر الله ان الحزب سيسارع إلى التصويب نحو الأهداف المذكورة، ومن الواضح أنه سيضطر إلى أن يأخذ في اعتباره رد إسرائيل. لكن يجب ايضاً عدم الاستخفاف بالقدرة النارية لحزب الله والمطلوب الاستعداد لها عسكرياً (هجومياً ودفاعياً) بهدف تقليل ضررها المتوقع. كما يجب على إسرائيل الاستعداد لمفاجآت استراتيجية أخرى، جرى التلميح إليها في الماضي، مثل التسلل من أنفاق تحت الأرض، أو عمليات من نمط سيطرة على مستوطنة إسرائيلية في شمال إسرائيل. مع ذلك فإن السؤال المطروح في الوقت الحالي ليس إذا كان حزب الله قادراً على مهاجمة منشآت حساسة داخل أراضي إسرائيل عندما تبدأ مواجهة واسعة معه، بل السؤال لماذا يتطرق نصر الله الى هذا الموضوع الآن؟

•كما يفهم من مجمل الأمور، يخوض حزب الله معركة بقاء في الساحة الإقليمية ضد اعدائه، وصراع قوة في الداخل [اللبناني]. والانشغال بإسرائيل هدفه تذكير جميع مؤيدي الحزب ومنتقديه بأن جوهر وجوده هو المقاومة، وأن هدفه هو محاربة إسرائيل. إن تباهي نصر الله بقدرات الحزب العسكرية تنبع مباشرة مما يصوّره كنجاحه الأكبر في صراعه ضد إسرائيل في حرب لبنان الثانية صيف 2006، عندما نجح في المس بروتين الحياة الطبيعية في الجزء الشمالي من إسرائيل وعرقله إلى حد كبير بواسطة إطلاق الصواريخ الذي استمر أكثر من شهر. ولم يكن صدفة تذكير نصر الله بذلك، فلم تكن هذه الحرب الانجاز المهم والأخير (على الأقل حينها) للعالم العربي في ساحة القتال ضد إسرائيل فحسب، بل لأنها تلك كانت المرة الأخيرة التي حصل فيها الحزب على إجماع عربي شامل - شمل الدول السنية- وهذا انجاز يبدو خيالياً في الواقع الحالي. وبمناسبة الاحتفال بذكرى مرور عشر سنوات على هذه الحرب، يبدو أن نصر الله يحاول أن يذكر نفسه ولاعبين في الشرق الأوسط بهذه الحقيقة، ويحاول من خلال ذلك أن يعيد للحزب بعض الشرعية التي لم يعد يحظى بها بعد 2006. بالإضافة إلى ذلك، على الرغم من تشديد نصر الله على أنه لا يرى في المستقبل القريب مواجهة مع حزب الله، من المحتمل جداً أنه يتحرك انطلاقاً من شعوره بأن إسرائيل قد تبادر إلى مواجهة مع حزب الله، وهو يحاول إقامة سور رادع صلب يثني إسرائيل عن نيتها شن هجوم.

•بناء على ذلك، عندما يحاولون في إسرائيل فهم كلام نصر الله الموجه إليها، يتعين عليهم النظر إلى الصورة الشاملة الموجودة في خلفية الأمور واستخلاص النتائج: إن جوهر كلامه ليس فقط تحذير إسرائيل، والضرر المنتظر أن يصيبها في الحرب المقبلة، بل هو بصورة أساسية عدم وجود نية للتصعيد والرغبة في ابعاد المواجهة المقبلة من خلال ردع إسرائيل.

 

 

المزيد ضمن العدد 2342