•هذا حدث في كانون الأول/ديسمبر 1987. كان قادة قيادة المنطقة الوسطى مقتنعين بأن موجة أعمال الشغب التي اندلعت في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] وقطاع غزة ستمر بسرعة، بيد أن الاضطرابات استمرت لسنوات وأطلقت عليها [لاحقاً] تسمية "انتفاضة". وحتى عندما اندلعت الانتفاضة الثانية في أيلول/سبتمبر 2000، كان التقدير هو أن الهدوء سرعان ما سيعود كما جرى في أعقاب أحداث نفق الحائط الغربي في العام 1996، وذكرى "يوم النكبة" في أيار/مايو من ذاك العام. لكن الانتفاضة الثانية استمرت أكثر من أربعة أعوام، وحصدت أكثر من ألف ضحية من الإسرائيليين. وفي سياق هذا التاريخ، لا عجب أن يكون السؤال الكبير المطروح هذا الأسبوع في المؤسسة الأمنية هو هل إن الموجة الأخيرة من الهجمات بداية انتفاضة ثالثة؟ وعلى الرغم من أنه تجاه الخارج، تكمن المصلحة الإسرائيلية في إعلان أن "الأمر لا يتعلق بانتفاضة"، وعملياً يجري الحديث عن "وضع جديد" لا يعرف أحد كيف سيتطور. وفي التحليلات الجارية في المؤسسة الأمنية تطرح بضعة أسباب قد تكون مؤشراً على موجة إرهاب مهمة قد تستمر لفترة طويلة، وفي المقابل تساق حجج تبرر القول إنه برغم كل شيء، فهذه ليست انتفاضة.
•لماذا نعم - هذه انتفاضة؟
•دافع ديني قوي: أحد الأسباب لأن تكون موجة الهجمات الأخيرة خطيرةً بنوع خاص وأنها قد تستمر لفترة طويلة هو الدافع الديني. قليلاً ما يتكلمون عن هذا الأمر في وسائل الإعلام الإسرائيلية، لكن العالم العربي غاضب جداً جرّاء إشاعات مفادها أن إسرائيل تعمل على تغيير الوضع القائم في جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف]. كل طفل في مناطق السلطة الفلسطينية وفي القدس يمكنه أن يزعم أن هناك حرباً على الأقصى. وتتغذى هذه الموجة من التحريض الواعي الذي يمارسه أبو مازن وجماعته. وقد تسبب مثل هذا التحريض بسفك الدماء في الماضي، فقد اندلعت اشتباكات العام 1929 [ثورة البراق] عندما خشي العرب أن يغير اليهود الوضع في جبل الهيكل برعاية الانتداب البريطاني؛ وكانت الشرارة التي أطلقت الانتفاضة الثانية زيارة أريئيل شارون لجبل الهيكل. وفي الأسابيع الأخيرة، ألهبت فضائية "الجزيرة" الشارع الفلسطيني بموضوع جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف]. وما دام هذ الموضوع مطروحاً على جدول أعمال الجمهور الفلسطيني، فسيبقى الوضع متوتراً. إحصائياً: أيضاً عندما نحاول أن نستخرج من معطيات الهجمات نتائج "مريحة"، فإنه لا يسعنا تجاهل الزيادة بنسبة 10% في عدد حوادث العنف في الأسابيع الأخيرة في مختلف أنحاء يهودا والسامرة [الضفة الغربية]، وكذلك داخل الخط الأخضر. في قطاع غزة لا يدل إطلاق الصواريخ الأخير باتجاه أسدود والنقب الغربي على توجه معين لأن حركة "حماس" هناك مشغولة في المقام الأول بمواجهة المجموعات المحلية التي تعلن ولاءها لتنظيم "داعش". ولكن في المقابل، في مختلف أنحاء يهودا والسامرة، تسعى الحركة إلى إشعال المنطقة وتشجيع تنفيذ هجمات. عمليات تنظيم أولية: في التحليلات التي أجراها هذا الأسبوع كل من الجيش الإسرائيلي وجهاز "الشاباك"، ظهر قلق من أن يكون نمط "الإرهابي المنفرد" الذي شهدته الأسابيع الأخيرة، حلّ محلّه في بعض الحالات خلايا منظمة خططت سوية لتنفيذ هجوم ونفذته بسرعة كبيرة. والجانب الإيجابي في الأمر هو أنه من الأسهل جمع معلومات استخباراتية عن خلايا مقارنة بمخرب منفرد لا أحد يعلم ماذا يدور في رأسه قبل أن يتناول سكيناً أو بلطة. وفي جهاز "الشاباك"، هناك معطيات تتحدث عما لا يقل عن خمسين هجوماً جرى إحباطها في الفترة الأخيرة. وحتى لو لم يكتشفوا خلية ما مسبقاً، فهذا يحدث بسرعة فائقة في ما بعد. وهكذا استطاعت الجهات الأمنية في غضون يوم واحد أن تصل إلى معرفة مرتكبي الهجوم الذي أدى إلى مقتل إيتام ونعمة هنكين شرقي نابلس، ونفذت القوات الخاصة التابعة للشرطة والوحدة العملانية لجهاز "الشاباك" عملية اعتقال أحد المخربين الذي أصيب خلال الهجوم.
•وحقيقة أن جزءاً من الهجمات تنفذها خلايا منظمة وليس إرهابيون منفردون، يمكن أن تدل على أن هناك من يصب الزيت على النار، وعلى وجه الخصوص حركة "حماس"، وستفعل هذه الحركة كل شيء كي لا تنطفئ هذه النار. وهناك نقطة أخرى مثيرة للقلق: يشترك في أعمال الشغب العديد من الأطفال، وهؤلاء لا يذكرون أحداث الانتفاضة الثانية ولا يدركون الثمن الباهظ الذي دفعه الفلسطينيون في أعقابها.
•ضعف السلطة الفلسطينية: تجري أحداث الأيام الأخيرة على خلفية ضعف نسبي للسلطة الفلسطينية. ويضغط المناخ العام على رجال شرطة فلسطينيين كثر حتى لا يكونوا "متعاونين" مع إسرائيل. هل يؤدي ذلك إلى عجز في الميدان؟ في حالات معينة يبدو أن الإجابة هي نعم. وحتى لو كانت الإجابة لا، فإن حقيقة أن معظم الذين تعتقلهم السلطة الفلسطينية في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] يتم الإفراج عنهم بسرعة، تبعث برسالة مفادها أن التصدي للهجمات لا ينفذ بحزم كبير.
دوامة التصعيد: لا يمكن فصل أحداث الأسابيع الأخيرة عن الاعتداء بالحرق ضد أبناء عائلة الدوابشة في قرية دوما، فقد سرّع الاعتداء موجة الهجمات ودوامة التصعيد التي قد تستمر في الاشتداد. وتبعاً لذلك، فإن جزءاً كبيراً من الجهد الذي يقوم به جهاز "الشاباك" في هذه الأيام موجه لمنع اعتداءات ينفذها يهود، وليس فقط لمنع هجمات فلسطينية.
•لماذا كلا – هذه ليست انتفاضة؟
• السيطرة على الأرض: إن الفارق الجوهري بين أحداث تشرين الأول/أكتوبر 2015 وتشرين الأول/أكتوبر الأسود في بداية الانتفاضة الثانية قبل 15 عاماً، هو أن قوات الأمن تعمل اليوم بحرية في كل نقطة من أنحاء يهودا والسامرة. وهكذا، لم يتطلب دخول وحدة المستعربين إلى مستشفى في نابلس للقبض على المخرب الذي أصيب خلال عملية قتل الزوجين هنكين، تغطية بالدبابات والطائرات. إبان الانتفاضة الثانية، في المقابل، احتاج الجيش الإسرائيلي و"الشاباك" الى فترة طويلة قبل أن ينجحا في السيطرة على مراكز المدن الفلسطينية في أعقاب عملية "السور الواقي". كذلك، فإن السيطرة التي تحققت آنذاك كانت جزئية فقط. لقد اندلعت الأحداث الأخيرة على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي و"الشاباك" يعملان بشكل متواصل ضد الخلايا الإرهابية. وفي كل عام من الأعوام الأخيرة جرى توقيف ما بين 2000 و3000 فلسطيني، وحكمت محاكم إسرائيلية على أكثر من 80% منهم بالسجن لبضعة أشهر على الأقل. وفي أعقاب الهجمات في الأيام الأخيرة، جرى تسريع العملية، ونفذت هذا الأسبوع عشرات الاعتقالات في كل ليلة. واستهدفت عمليات الاعتقال أيضاً التوصل إلى طرف خيط يسمح بجمع معلومات حول الخلايا الإرهابية الجديدة.
•إحصائياً: الخلاصة أن البيانات الإحصائية تؤكد حجة أنه حتى الآن على الأقل، لا يتعلق الأمر بانتفاضة. وبرغم الزيادة بنسبة 10% في عدد الهجمات اخيراً، فلم تسجل حتى الآن أعمال شغب جماهيرية يشارك فيها آلاف الأشخاص كالتي ميزت الانتفاضتين الأولى والثانية، ولم تنفذ عمليات تفجير أو عمليات انتحارية كالتي أدت إلى سقوط العدد الأكبر من القتلى في الانتفاضة الثانية.
•وأيضاً، في هذا الأسبوع، شارك في معظم أعمال الشغب فقط بضع عشرات من الشبان على الأكثر. أما التظاهرات التي جرت داخل الخط الأخضر، مثل التظاهرة الكبيرة في مدينة يافا هذه الأسبوع، فقد نظمها الجناح الشمالي للحركة الإسلامية، وهي لا تعكس رغبة حقيقية لدى جزء كبير من السكان العرب في خرق الهدوء السائد داخل الخط الأخضر منذ أكثر من عشرة أعوام.
•مصلحة السلطة الفلسطينية: هناك سبب إضافي في أنه لا مجال للمقارنة بين الأحداث الأخيرة والانتفاضتين الأولى والثانية، وهو حقيقة أن السلطة الفلسطينية ليست معنية بالفعل بموجة هجمات واسعة النطاق. ويخشى أعضاء حركة "فتح" أكثر من كل شيء سيطرة حركة "حماس" على يهودا والسامرة على غرار ما حدث في قطاع غزة، وهذا هو السبب الرئيسي الذي يفسر استمرار تعاونهم مع قوات الأمن الإسرائيلية أيضاً خلال هذا الأسبوع، فهذا الأمر يخدم مصلحتهم في المقام الأول. وفي المؤسسة الأمنية، قاموا بتحليل معمق لتصريحات أبو مازن الأخيرة، وتوصلوا إلى استنتاج أنه غير معني بانتفاضة ثالثة ويحاول كبح اندلاعها، على عكس [ياسر] عرفات الذي تكلم بالانكليزية حول السلام وعمل على الأرض لإشعال الانتفاضة الثانية.
"وضع جديد"
•بعد جلسة المجلس الوزاري الأمني المصغر، اجتمع هذا الأسبوع يوم الثلاثاء رئيس الحكومة ووزير الدفاع مع قادة الجيش الإسرائيلي في قيادة منطقة يهودا والسامرة، وتحدثوا عن تصدّ حاسم لموجة الإرهاب. لكن، فعلياً، سيكون الوزير يعلون مستعداً لإعطاء تعليمات تفضي إلى "استيعاب" الأحداث وليس إلى مفاقمة دوامة التصعيد. يجري تعزيز القوات على الأرض ويجري الحديث في القيادات عن "وضع جديد"، وليس عن انتفاضة. إن المشكلة الكبيرة من وجهة نظر إسرائيل هي أن "الوضع الجديد" والهجمات غير المنقطعة، تمس بشكل خطير إحساس الجمهور الإسرائيلي بالأمن، ولا سيما في مدينة القدس، من دون أن يدفع الفلسطينيون أي ثمن دولي لاستخدامهم العنف. وقد يصير هذا الأمر وضعاً مرغوباً فيه بالنسبة لهم مع مرور الوقت. وفي مدن المنطقة الوسطى بدأ الجو يصبح متوترا، وإذا استمر الوضع الأمني على ما هو عليه، فسوف تتضرر السياحة عاجلا أو آجلا. وبقدر ما تزداد الهجمات، سيزداد الضغط على القيادة السياسية لكي تحزم أمرها.
•يتبين من تحليل مجمل المعطيات أن هناك فرصاً غير قليلة للقضاء على موجة العنف قريباً، لكن أيضاً يمكن في حال استمرار الاضطرابات في محيط جبل الهيكل [الحرم القدسي الشريف]، ولا سيما في حال هجوم ينفذه فلسطيني أو يهودي، ويوقع إصابات كثيرة، أن يتغير الوضع من أساسه. حينئذ، لن يعود هناك حاجة للسؤال هل بالفعل اندلعت انتفاضة ثالثة.