ميزة توازن الردع
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

•منذ انتهاء حملة "الجرف الصامد" تتراكم مظاهر التصدعات العميقة في العقيدة الأمنية التقليدية لإسرائيل، التي وضعها دافيد بن غوريون قبل 65 عاماً. ومن المعلوم أن هذه العقيدة تستند إلى ثلاثة عناصر: الردع والإنذار والحسم، وأضيف إليها في السنوات الأخيرة مدماك الدفاع. 

•في الفترة الأخيرة طرح جنرالات متقاعدون وآخرون في سلك الخدمة شكوكاً تتعلق بنجاعة الردع. ويوضح خبراء لماذا هو من الصعب جداً تحقيق الحسم اليوم، وتشير توقعات المسؤولين في قيادة الجبهة الداخلية إلى أن المواجهة المقبلة مع حزب الله قد تشهد سقوط أكثر من ألف صاروخ في اليوم، وهم يطرحون علامة استفهام كبيرة بشأن عنصر الدفاع. 

•تبشر هذه التصدعات الآخذة في الازدياد يوماً بعد يوم، بأن العقيدة الأمنية الإسرائيلية القائمة على الإيمان بأن قدراتنا العسكرية ستساعدنا على مواجهة أي تحدّ، أفلست. ولا يعود السبب في ذلك إلى أن الجيش الإسرائيلي لم يعد قوياً بما يكفي – بل العكس هو الصحيح، فتفوقه على الجيوش العربية المعادية واضح اليوم أكثر من أي وقت مضى، ولا يوجد خطر في أن يتبدد هذا التفوق حتى في ظل الأزمة المستمرة في العلاقات مع الولايات المتحدة. 

•لكن السبب هو أن التطورات التكنولوجية جعلت السلاح الصاروخي الهجومي زهيداً وسهلاً على الانتاج وعلى التسلح والاستخدام. وحتى الآن، وعلى الرغم من الكثير من الجهود والاستثمارات الكبيرة، لم يتوفر ردّ دفاعي ناجح على استخدام مثل هذا السلاح بكميات كبيرة. في مثل هذه الظروف فحتى تنظيم صغير مثل "حماس" يمكنه أن يهدد قلب دولة اسرائيل ويتسبب بوقف الطيران الدولي منها وإليها. وميليشيا مثل حزب الله، هذه المنظمة التي يوازي عدد مقاتليها عدد الجنود في فرقة واحدة من الجيش الاسرائيلي، يمكنها أن تجبي من إسرائيل ثمناً باهظاً، أعلى من الثمن الذي استطاعت أكثر الجيوش العربية قوة جبايته منها في أي وقت في الماضي. 

•لا يدور الحديث فقط عن المواطنين الذين سيقتلون، والمنازل التي ستُدمر، وقواعد الجيش الاسرائيلي التي ستصاب بأذى – بل يشمل أيضاً البنى التحتية. فماذا سيحصل مثلا، إذا ما أصابت صلية من الصواريخ التي تحمل رؤوساً متفجرة تبلغ زنتها نصف طن وذات دقة عالية نسبياً، محطة توليد الطاقة في الخضيرة؟ يمكننا أن نتصور كيف ستبدو دولة اسرائيل بعد اصابة شديدة كهذه لمعمل انتاج الكهرباء فيها، وبعد اصابات مشابهة. ومع كل الاحترام  لـ"العصا السحرية"، فمن المعروف أن الجيش الاسرائيلي لا يملك رداً ملائماً على تهديد من هذا النوع. 

•إن قدرة "حماس" وحزب الله على توجيه ضربات قاسية لاسرائيل معناه أن العقيدة الامنية التقليدية التي تعتمد على اليد الطويلة للجيش الاسرائيلي واليد القصيرة للعدو لم تعد سارية المفعول. فعلى الرغم من أن يدنا أطول وأقوى، ولكن يدهم أيضاً أصبحت أقوى، وليست لدينا القدرة على منعهم من استخدامها وتوجيه ضربات أليمة إلينا. 

•بكلمات أخرى، فإن التفوق الاسرائيلي المطلق اختفى، وحل محله توازن رعب يمكن بواسطته سواء لاسرائيل أو لخصومها، أن يؤلم أحدهما الطرف الآخر، لكنه لا يحمي الطرفين من تعرضهما للألم. 

•ولد مفهوم "توازن الرعب" في عهد الحرب الباردة حين توصلت القوتان العظميان الى القدرة على ابادة الواحدة الاخرى، وانتقلتا الى الاعتماد على استخدام التهديد بإبادة الخصم بدلا من قدرة الدفاع كي تضمن بقاءها. حتى الآن اسرائيل ليست في مثل هذا الوضع، وما دام خصومها لا يملكون سلاحاً نووياً، فإنها لن تقترب منه أيضاً. ومع ذلك، تكفي ترسانة الصواريخ الفتاكة، ولا سيما ترسانة حزب الله، كي تضعنا في مكان خطير وتجعلنا عرضة للإصابة فلا نتمكن من أن ندافع عن أنفسنا بشكل ناجع وكاف. ولما كانت سياسة الامن القومي ملزمة في أن توفر حزاماً رادعاً وشديد النجاعة لقيم الأمة بما فيها حياة المواطنين، فقد حان الوقت للتخلي عن التفكير القديم والانتقال الى سياسة تستند إلى مفهوم توازن الردع بكل معانيه العملانية.

 

•في ضوء الظروف الراهنة يتعين على واضعي سياسة الأمن القومي استيعاب التغييرات الدراماتيكية التي تمر بها  ساحة النزاع، وأن يغيروا بشكل جذري العقيدة الأمنية بما يتناسب مع ذلك. ويجب أن يكون في أساس هذه التغييرات الاعتراف بأن الجيش الاسرائيلي وحده لا يمكنه أن يوفر الأمن المطلوب لنا؛ واستغلال كل إمكانية للتخفيف من حدة النزاع، بما في ذلك حيال إيران وفروعها، من خلال التقدم في المسار السياسي؛ والعمل على التنمية الاقتصادية المدنية في قطاع غزة كي يكون لنظام "حماس" الكثير مما يخسره في الجولة المقبلة.