تقديرات الاستخبارات العسكرية لسنة 2012: "الربيع العربي" هو نقطة تحول تاريخية تتطلب تغييراً في العقيدة الأمنية
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

·      جاء في تقديرات أجهزة الاستخبارات العسكرية لسنة 2012، التي قُدمت إلى القيادة السياسية، أن الاضطرابات في العالم العربي، وهو الاسم الذي ارتأت الاستخبارات إطلاقه على "الربيع العربي"، ستستمر خلال العام المقبل. ففي إثر سقوط ثلاثة  أنظمة في شمال إفريقيا، تونس ومصر وليبيا، من المنتظر أن تهدد هذه الاضطرابات مستقبل أنظمة أخرى، وقد اجتازت ظاهرة الدومينو هذه قناة السويس إلى الجانب الآخر من الشرق الأوسط، ووصلت إلى آسيا.

·      ويمكن أن نرى التغيير السريع الذي يحدث في اليمن حيث أُجبر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح على الاستقالة بعد تعرضه لمحاولة اغتيال قام بها الثوار أدت إلى إصابته بجروح، لكن السلطة هناك لم تنتقل بعد بصورة نهائية إلى طرف آخر. ويبدو أن دور سورية آت، بصورة سريعة، بعد اليمن، إذ بدأ العد العكسي لنهاية الرئيس بشار الأسد. ومن الممكن أن يحاكي تنحيه مستقبلاً عن منصبه، في حال نجح في الخروج من سورية مع عائلته، النموذج اليمني.

·      إن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو التالي: إلى متى سيبقى الأسد في السلطة؟ منذ بداية كانون الأول/ديسمبر، يقول وزير الدفاع، الذي يقرأ كل التقديرات الاستخباراتية، إن سقوط الأسد سيتم خلال أسابيع، وكان تحدث سابقاً عن أشهر.

·      وإذا كانت إسرائيل شعرت في بداية الأحداث في سورية بالقلق على مصير الطاغية السوري، فإن نظرة القدس تغيرت منذ ذلك الحين بصورة جذرية. ففي بداية الأحداث في سورية استندت ردة الفعل الإسرائيلية على ما يحدث إلى مقولة إن "الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي تجهله"، معتمدة على التقديرات السابقة للجيش الإسرائيلي التي اقترحت على المسؤولين السياسيين درس احتمال التوصل إلى اتفاق سلام مع الأسد في مقابل إعادة هضبة الجولان كلها إلى سورية. لكن هذه الأفكار لم يعد لها وجود اليوم، إذ مع تواصل المذبحة التي يرتكبها الأسد في حق شعبه، تغيرت النظرة الإسرائيلية تجاهه. فالأسد اليوم في نظر إسرائيل طاغية دموي، وسقوطه سيشكل ضربة للمحور الراديكالي الذي أقامته إيران من حولها.

·      على عكس باراك، لا تطرح أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية تقديراً زمنياً لسقوط الأسد، لكنها تعتقد أن ما يجري في سورية لا عودة عنه، وأن "الأسد لن يستطيع النجاة". فوفقاً لأحد المسؤولين الكبار في الاستخبارات العسكرية "لا توجد آلية عملية يمكنها إنقاذ نظام الأسد."

·      وقد شكلت المجزرة التي ارتكبتها قوات الأسد ضد المحتجين قبل ثلاثة أشهر في مدينة حماه خلال شهر رمضان نقطة التحول في النظرة الإسرائيلية. ويبلغ المعدل الوسطي للقتلى في سورية أسبوعياً نحو 100 قتيل، كما أصبح عدد القتلى الذي سقطوا منذ بداية الاحتجاجات نحو 5000 قتيل. وعلى الرغم من ذلك، يبدو أن المتظاهرين كسروا حاجز الخوف، وهم يواصلون التظاهر والخروج إلى الشوراع رغم الخطر المحدق بحياتهم من جانب قوات الأسد. كذلك فإن عدد المنشقين عن الجيش السوري في ازدياد، ويبلغ اليوم عشرات الآلاف، تتمركز أغلبيتهم قرب الحدود مع الأردن. وقد تضرر نظام الأسد من التدخلين الدولي والعربي، ومن العقوبات التي فرضت عليه، ويبدو أن السيناريو المنطقي أكثر من غيره هو فرار الأسد من سورية. وفي جميع الأحوال فإن النظام سينهار في النهاية نتيجة التآكل المتواصل لقواته وسفك الدماء.

·      معنى هذا كله، هزيمة نكراء لإيران التي استطاعت تحقيق إنجازات على الجبهات الأخرى (البحرين، اليمن، مصر)، وذلك عبر مواصلة تآمرها على الأنظمة القديمة. بيد أن طهران تشعر بالقلق الشديد إزاء ما يجري في دمشق، وهي تحاول بعيداً عن الأنظار مساعدة الأسد في قمع المعارضة، كما أن الخطر الذي يتعرض له نظام الأسد يقلق حزب الله ايضاً، وقد عبر عن ذلك علناً في الأسابيع الماضية.

·      حتى الآن يصعب التنبؤ بما إذا كانت أنظمة أخرى في المنطقة ستواجه ثورات واحتجاجات، وذلك على  الرغم من التوقعات بأن الاضطرابات ستتواصل خلال العام المقبل. وفي رأي الاستخبارات العسكرية يواجه الأردن أكثر من تحد، لكنه حتى الآن يبدو مستقراً نسبياً، إذ نجح الملك عبد الله، بعكس الأسد، في القيام بمبادارت سياسية خففت من احتقان المعارضة.

·      لكن تبقى الظاهرة الأبرز في المنطقة كلها صعود الإسلام السياسي بمختلف أجنحته. ويختلف النموذج المصري بصورة كاملة عن النموذج السوري حيث الدولة لا تزال ذات طابع علماني. وفي الواقع، اختلفت مجريات الأمور في كل دولة عربية عن الأخرى. ففي تونس، بدأت الثورة مع قليل من أعمال العنف، وجرت انتخابات عامة أدت إلى فوز الحزب الإسلامي المعتدل نسبياً. أمّا الدورة الأولى من الانتخابات في مصر فقد أدت إلى فوز كبير للكتلة الإسلامية، في حين دخلت ليبيا في حرب قبلية باتت تهدد وجود الدولة نفسه حتى بعد مقتل القذافي. ويبدو أن فكرة الدولة القومية العربية هي الآن قيد الاختبار في أنحاء مختلفة من المنطقة.

·      وتشير تقديرات الاستخبارات العسكرية إلى أنه إلى جانب صعود الإسلام تكوّن انطباع لدى الدول العربية أن النفوذ الأميركي يضعف في المنطقة، وأننا انتقلنا إلى عالم متعدد الأقطاب، وأن الفراغ الذي تركته واشنطن لم تملأه قوة بديلة. ويشهد الشرق الأوسط اليوم عدداً كبيراً من اللاعبين: الروس والصينيون والأوروبيون والأتراك والإيرانيون وكذلك إسرائيل. ويدل هذا كله على منعطف تاريخي كبير، ويفرض تغييراً في العقيدة الأمنية، ومتابعة كثيفة للأحداث، واستعدادات عسكرية بعيدة المدى لمواجهة احتمالات تطور الاضطربات الداخلية في الدول المجاورة لإسرائيل إلى مواجهات عنيفة على الحدود.

·      وتواجه الاستخبارات الإسرائيلية مشكلة من نوع جديد، إذ تعوّد خبراؤها تحليل مواقف الزعماء العرب والأوساط المحيطة بهم المشاركة في اتخاذ القرارات، وتقصي أنواع السلاح الجديد، لكن في هذا العام دخلت الشعوب إلى المعادلة، وتغيرت الطريقة التي كانت تجري وفقها الأمور في الشرق الأوسط، الأمر الذي يفرض على الأجهزة الاستخباراتية أن تكون أكثر تواضعاً، إذ لم ينجح أي جهاز من أجهزتها في التنبؤ بهذه الأحداث الكبيرة قبل وقوعها.

·      وسيكون للاضطربات الإقليمية انعكاساتها البعيدة المدى على عمليات بناء القوة في الجيش الإسرائيلي. وسيكون مطلوباً من الجيش أن يكون أكثر مرونة، ومستعداً لمواجهة أنواع مختلفة من السيناريوهات، بدءاً من الحرب التقليدية التي تبدو ضئيلة الاحتمال خلال الأعوام المقبلة، مروراً بالمواجهات مع الإرهاب وحرب العصابات، وانتهاء بمواجهة التهديدات بزعزعة شرعية وجود إسرائيل عبر التظاهرات على الحدود، والتي هي من وجهة نظر استراتيجية إسرائيلية نوع من  التحريض المقصود.

·      وإذا كان سقوط مبارك أمراً سلبياً من وجهة النظر الاستراتيجية الإسرائيلية، فإن سقوط الأسد قد يشكل فرصة كبيرة للتوصل إلى تسوية سياسية مع النظام الذي سيأتي بعده.

·      وستؤثر هذه التغييرات في سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين، إذ إن أي عملية عسكرية في المستقبل ضد غزة يجب أن تأخذ في الاعتبار معارضة الشعب المصري لها والضغط الذي سيمارسه على السلطة في القاهرة، وسيؤدي هذا إلى تقليص هامش المناورة لدى الجيش الإسرائيلي.

·      ولم يكن مفاجئاً أن الضفة الغربية كانت المكان الأكثر هدوءاً خلال العام المنصرم، بل وحتى قطاع غزة نَعِم بنوع من الهدوء النسبي. ولا تواجه السلطة الفلسطينية في الضفة، ولا سلطة "حماس" في القطاع، تهديداً داخلياً كبيراً، ولا وجود لتظاهرات ضدهما، على الرغم من أنهما لا تتمتعان اليوم بالشرعية الدستورية، إذ إنهما انتخبتا منذ زمن طويل، وعلى الرغم من أنه لا وجود لحرية الصحافة في "حماستان" و"فتح"، وأنه من المبكر الحديث عن انتخابات، ناهيك عن انتهاك حقوق الإنسان بصورة منهجية، ولا سيما في القطاع.

·      لم يصل الربيع العربي بعد إلى المناطق، على الرغم من بروز تأثيره غير المباشر بوضوح. فقد أدرك زعماء "فتح" و"حماس" أنه ليس في إمكانهم بعد اليوم تجاهل الرأي العام الفلسطيني الراغب في الوحدة، ومن هنا تعبيرهم عن رغبتهم في المصالحة، وإظهار استعدادهم لإجراء انتخابات تبدو بعيدة حتى الآن.

·      أمّا بالنسبة إلى حركة "حماس" التي انفصلت في الأسابيع الأخيرة عن سورية، فهي ترى أنه من المهم أن تقدم صورة معتدلة وأكثر مرونة عن نفسها، وبعيدة كل البعد عن الصورة التي ظهرت بها عشية الانقلاب بالقوة الذي قامت به في حزيران/يونيو 2007. وتراعي كل من "فتح" و"حماس" الوضع الراهن، ولكن قد يؤدي الوضع الاقتصادي الأمني المتداعي والجمود السياسي في غزة، والمستوطنات والاقتصاد غير المستقر في الضفة، إلى الانفجار في أي لحظة في وجوه المسؤولين السياسيين هناك.

·      لقد حملت الاضطرابات بشارة جيدة إلى أهل غزة تمثلت في الفتح الجزئي للمعابر مع الحدود المصرية، وإمكان السفر إلى الخارج. ويمكن أن نضيف إلى ذلك ازدهار قطاع البناء هناك نتيجة تهريب الحديد والأسمنت عبر الأنفاق. ويمكننا اليوم أن نشاهد في شوارع غزة عشرات السيارات الفخمة التي جرى تهريبها من ليبيا ومصر. ويبدو أن الربيع العربي، وعلى الرغم من كل شيء، قد وصل إلى غزة أيضاً.