الثورة المصرية تحاصر ذاتها
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية

تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.

– "تسومت همزراح هتيخون"، المجلد الأول، عدد خاص رقم 1011
المؤلف

 

  • منذ بضعة أسابيع تحولت المطالبة بطرد السفير الإسرائيلي من مصر إلى شعار يطلقه، بشكل متكرر، متظاهرو ميدان التحرير. وانتقل مركز التظاهرات من ميدان التحرير إلى الساحة المقابلة لمبنى السفارة الإسرائيلية، وقد بلغ مشهد الرعب المعادي لإسرائيل ذروته في مساء التاسع من أيلول/سبتمبر الحالي عندما اخترق المتظاهرون الجدار المشيد أمام مدخل السفارة، في حين كانت أنظارهم مشدودة إلى الطابق الثامن عشر الذي يشغله حراس أمن السفارة الإسرائيليين، وهم فعلوا ذلك على الرغم من التواجد الكثيف لقوات الأمن المصرية التي اكتفت بالتفرج، وبحسب رواية بعض الشهود العيان، فإنها ساعدت المتظاهرين. وفي النهاية، تدخلت قوات كومندوس مصرية لإنقاذ حراس الأمن الستة وتأمين سلامتهم، وحقق المتظاهرون هدفهم، فغادر السفير الإسرائيلي وطاقم السفارة بأكمله الأراضي المصرية، حتى لو موقتاً، وأصبح مبنى السفارة فارغاً.

     
  • إن استحضار إسرائيل في خطاب المتظاهرين وتحركاتهم يشير إلى الانتقال من المرحلة الأولى للثورة التي ركز خلالها متظاهرو ميدان التحرير على المطالب الداخلية، وعلى رأسها تنحية الرئيس مبارك واقتلاع الفساد والدفاع عن حقوق الإنسان والمواطن والتوزيع العادل للموارد وتقليص الفوارق الاجتماعية، إلى المرحلة الثانية للثورة التي كان من المفترض أن تكون مرحلة الاستعدادات التنظيمية لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية من قبل الأحزاب القديمة والتيارات الجديدة. لكن ازدياد حالة الإحباط لدى متظاهري ميدان التحرير جراء عدم تحقيق مطالب الثورة، وإدراكهم أن السلطة العسكرية لا تلبي تطلعاتهم الثورية، وشعورهم بأن الوضع في مصر آخذ اليوم في التراجع سياسياً واقتصادياً، وأن حالة من الفوضى تسيطر على الحيز العام، كل ذلك جعل المتظاهر المشاكس والعنيف يحل محل المتظاهر الوطني، وغير العنيف، والمسؤول، الذي يعبّر بطلاقة عن هدفه. وبات من الصعب معرفة من هو "المصري الجديد"، وما هو وجه "مصر الجديدة".

     
  • ومع بدء محاكمة نظام الرئيس حسني مبارك في 5 آب/أغسطس الماضي، تفاقم الشرك الداخلي للثورة المصرية. فمن ضمن التهم الموجهة إلى هذا النظام، تهمة إهدار المال العام الناجم عن صفقة الغاز المصري الموقعة مع إسرائيل بصفتها جزءاً من التزامات اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر، أضف إلى ذلك فضيحة التجسس التي كُشفت في الأشهر الأخيرة، والتي تورط فيها إسرائيليون، ونتائج الهجمات الإرهابية قرب إيلات التي رافقها إطلاق قوات الجيش الإسرائيلي النار على خمسة جنود مصريين ومصرعهم على الفور ووفاة جندي سادس جراء إصابته برصاص الجيش الإسرائيلي.

     
  • وقد هبّت من تركيا ريح خلفية ساهمت في تعزيز النزعة النضالية المعادية لإسرائيل التي تبناها متظاهرو ميدان التحرير، عندما أعلن رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، طرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، وخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية بين تركيا وإسرائيل، فضلاً عن إجراءات أخرى، من بينها إلغاء العلاقات التجارية والمناورات العسكرية المشتركة. ويمثّل أردوغان اليوم بالنسبة إلى العديد من المصريين نوعاً جديداً من القيادة الساعية لتغيير اتجاه تركيا من دولة علمانية إلى دولة تجسد مزيجاً ناجحاً من الإسلام المعتدل، والديمقراطية، والاقتصاد المزدهر. وينظر المصريون الباحثون عن نموذج بديل لاستبداد عصر مبارك، إلى من يظهر اليوم كالزعيم الأعلى للعالم العربي لما بعد الثورة، ويقلدون خطاه كلما تعلق الأمر بموقفه من إسرائيل. فالتشابه بين مطالبة تركيا لإسرائيل بالاعتذار وبتعويضات على مقتل تسعة مواطنين أتراك على سفينة مافي مرمرة باسم "صون كرامة الشعب التركي ودمه الأغلى من الصداقة مع إسرائيل" بحسب قول أردوغان، وبين موت ستة جنود مصريين بنيران الجيش الإسرائيلي، جعل المتظاهرين المصريين يقتنعون بأن اتفاقية السلام مع إسرائيل تدوس كرامة مصر، وهي من بقايا النظام القديم التي ينبغي استئصالها.

     
  • وفي هذه المرحلة، طُرح الموضوع الإسرائيلي في الميدان، وغدت السفارة الإسرائيلية هدفاً لهجمات المتظاهرين، وأصبح رفض اتفاقية السلام الإسرائيلية - المصرية شعاراً يلازم "المصري الجديد"، وظهرت ملامح "مصر الجديدة" من خلال زعمائها القدماء والجدد الذين كرروا مراراً تصريحات مفادها أن لا شيء يمنع إعادة النظر ببنود اتفاقية السلام، وصولاً إلى إلغائها. وانساق مرشحون للرئاسة في غوغاء الجماهير، فعلى سبيل المثال، قال عمرو موسى، الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، إن صلاحية اتفاقيات كامب ديفيد انتهت منذ فترة بعيدة، وذلك على الرغم من تصريحاته المعتدلة خلال الثورة المصرية. وأعلن المرشح الدكتور محمد البرادعي (الرئيس السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية)، أنه في حال انتخابه رئيساً لمصر، سيكون مستعداً لدرس خيارات الحرب ضد إسرائيل دفاعاً عن الفلسطينيين في قطاع غزة.

     
  • بيد أن اختراق السفارة الإسرائيلية والضعف الذي أظهرته قوات الأمن المصرية، عكسا عجز المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والحكومة المصرية، وعدم قدرتهما على ممارسة الحكم، ليس فقط في المناطق البعيدة كسيناء، بل أيضاً في العاصمة نفسها....

     
  • ومن الواضح أن النظام العسكري، ورئيسه المشير طنطاوي، فقدا في الوقت الراهن البوصلة التي تدل على الطريق الذهبي الفاصل بين الاستماع والاستجابة لمطالب الشعب المصري، وبين واجب الحكم الملقى على أكتافهما والذي يحتّم عليهما وضع خطوط حمر ممنوع تجاوزها. وفي الواقع، يصعب التنبؤ فيما إذا كانت هذه الحادثة ستهز القابضين على مقاليد الحكم وتجبرهم على توجيه السفينة المصرية إلى شاطىء الأمان، أو أننا سنشاهد حجراً يتدحرج من منحدر شاهق ولا يستطيع أحد إيقافه.