حرب التدمير الذاتي في سورية وتداعياتها الإقليمية
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية

تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.

– "اقتصادي"، مجلد 3، عدد 6، حزيران/يونيو 2013

 



• أسفرت حرب التدمير الذاتي الدائرة في سورية عن سقوط نحو 100 ألف قتيل واضطرار أكثر من مليون ونصف مليون سوري إلى الفرار إلى الدول المجاورة، وشرّدت أكثر من أربعة ملايين شخص داخل البلاد. لقد تخطى عنفُ المواجهات وحجمُ الخسائر بالأرواح والممتلكات ما كانا عليه في العراق، وهذا يعزى أساساً إلى أن الحكومة السورية تشن حرباً على مواطنيها.   

• وتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للطفولة ("اليونيسف") إلى أن أكثر من عشرة ملايين سوري – أي ما يعادل نصف سكان البلاد – سوف يحتاجون إلى المساعدة بحلول نهاية هذا العام. وما يقرب من ثلث عدد السوريين ونحو أربعة ملايين طفل سوري يحتاجون إلى مساعدة إنسانية عاجلة. وتضاعف عدد النازحين في سورية إلى أكثر من الضعف بين شهري كانون الثاني/يناير ونيسان/أبريل 2013. وتتوقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) أن يصل عدد اللاجئين السوريين إلى نحو 3,5 ملايين لاجئ بحلول نهاية العام 2013، أي ما تتجاوز نسبته 15% من سكان البلاد. ويستمر تدفق النازحين إلى مخيمات اللاجئين السوريين على طول الحدود السورية بمعدل 7000 لاجئ يومياً.

بيد أن تقرير المجلس النروجي للاجئين (NRC) حول أوضاع النازحين من سورية أكثر مدعاة للقلق، فقد كان عدد المحتاجين إلى مساعدات إنسانية عاجلة نحو مليون شخص في نيسان/أبريل 2012، ولكنه ارتفع إلى 6,8 ملايين شخص في نيسان/أبريل 2013. ويشمل هذا العدد نحو 4,25 ملايين نازح داخل سورية وأكثر من 1،6 مليون لاجئ من سورية في كل من الأردن ولبنان وتركيا. ويتوقع ارتفاع عدد المحتاجين إلى مساعدات إنسانية إلى 10 ملايين شخص بحلول نهاية العام 2013، أي ما يقارب نصف عدد السكان.          

• وتشير تقديرات الناتج المحلي الإجمالي (الدخل القومي) لسورية إلى هبوط بنسبة 60% خلال العامين الماضيين إلى مستوى 27 مليار دولار أميركي في العام 2013. وهبط نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي في سورية أكثر من 60% خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، أي من 3270 دولاراً في 2010 إلى المستوى المقدَّر بنحو 1280 دولاراً في 2013. والاقتصاد [السوري] مدعوم حالياً بالمساعدات التي يأخذها طرفا النزاع: فالحكومة تتلقى المساعدة من إيران، والثوار يحصلون على المساعدات من قطر والعربية السعودية. وعلاوة على ذلك، تشير تقارير إلى أن الثوار تلقوا مبلغ 3 مليارات دولار لشراء الأسلحة والذخيرة ومعدات مدنية للمناطق الواقعة تحت سيطرتهم.       

• وهكذا، فإن النظام السوري باقٍ حتى الآن بسبب الهبات والمساعدة من إيران، فقد أعلن [حاكم] المصرف المركزي السوري [أديب ميالة] أن طهران قدّمت تسهيلات ائتمانية تصل قيمتها إلى أربعة مليارات دولار، وأنها بصدد فتح خط ائتماني آخر [بقيمة  ثلاثة مليارات دولار] لمساعدة دمشق على مواجهة تداعيات الحظر الدولي ولتمويل حاجتها من النفط ومشتقاته. وتشير تقارير إلى أن احتياطي المصرف المركزي السوري من العملات الأجنبية تراجع من 18 مليار دولار قبل اندلاع النزاع [منتصف آذار/مارس 2011] إلى نحو 2 إلى 4 مليارات دولار حالياً، وهو ما بالكاد يكفي لتغطية واردات شهر أو شهرين فقط. وبحسب النشرة الرسمية الصادرة عن المصرف المركزي، كان سعر صرف الدولار 99 ليرة سورية في آخر شهر أيار/مايو 2013، مقارنة بـ47 ليرة سورية للدولار قبل الثورة في العام 2011. ويصل سعر الدولار في السوق السوداء حالياً إلى 90 ليرة سورية (وأوردت تقارير أنه يجري تداوله بسعر 140 ليرة سورية في منطقة حلب). وارتفع بسرعة جنونية عدد العاطلين عن العمل من 500 ألف قبل الأزمة، إلى نحو 2,5 مليون شخص هذا العام. بيد أن هذا التقدير أقل من الواقع بالنظر إلى الأضرار الهائلة التي لحقت بالقطاعات الإنتاجية. فإذا بقي النزاع مشتعلاً، من المتوقع أن يصل معدل البطالة إلى نحو 60%.

• قبل الثورة، كان النفط أحد أهم القطاعات الحيوية في الاقتصاد السوري حين كان إنتاج النفط 380 ألف برميل يومياً [قبل 15 آذار/مارس 2011]. وبلغت قيمة صادرات سورية النفطية في العام 2010 – ومعظمها إلى أوروبا – أكثر من 3 مليارات دولار. ومن جراء سيطرة المتمردين على العديد من حقول النفط السورية، وإحراق وتدمير الآبار وسرقة النفط الخام منها، توقف التصدير وانخفض الإنتاج إلى نحو 20 ألف برميل يومياً، أي ما يعادل 5% من إنتاج النفط قبل اندلاع الصراع. وبحسب وزير النفط السوري، فإن سورية التي كانت في الماضي من صغار مصدِّري النفط، مضطرة اليوم لاستيراد النفط والمشتقات النفطية بكلفة تناهز 500 مليون دولار في الشهر.

• وتقدر تكاليف إصلاح البنى التحتية السورية بما يراوح بين 60 مليار دولار و100 مليار، وهذا مبلغ صادم مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي لسورية في الوقت الحالي. ويشمل هذا المبلغ تكاليف إعادة إعمار مئات آلاف المنازل المهدَّمة، وهذه التكاليف مرشحة للازدياد في حال استمرار النزاع. واعتبرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا ("الإسكوا"  ESCWA)، أن المواجهات أدّت إلى هدم أو تضرّر 1,2 مليون وحدة سكنية – أي ما يعادل ثلث عدد الوحدات السكنية في البلاد. فهناك نحو 400 ألف منزل هدمت بالكامل، ونحو 300 ألف منزل هدمت جزئياً، ونحو 500 ألف منزل متضرر. وتتركز الأضرار في الأحياء الفقيرة من المدن الرئيسية في مناطق النزاع أي في حلب ودمشق ودرعا ودير الزور وحمص. وسيتوجب على الحكومة فور انتهاء الحرب، إصلاح خطوط الأنابيب والآبار المدمرة، وإرجاع الطاقة التكريرية إلى سابق عهدها، واستعادة تصدير النفط. وستحتاج سورية إلى نحو 30 مليون طن من الإسمنت من أجل أعادة إعمار البنى التحتية، بالإضافة إلى مليون متر مكعب من المياه ليست في حوزتها.

• إن انكماش الناتج المحلي الإجمالي ناجم أساساً عن الضرر الذي لحق بالممتلكات والبنى التحتية وعن خسارة الرأسمال البشري، علاوة على آثار العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية وأدت إلى نقص خطير في العملات الصعبة. وعقب فرض العقوبات الاقتصادية والحظر النفطي في العام 2011، خسر الاقتصاد السوري جزءاً ملحوظاً من عائدات التصدير فواجه صعوبات في تمويل تجارته الخارجية. وأدى انخفاض قيمة الليرة السورية وتدمير شبكة النقل المحلية إلى ضغوط تضخمية. وأظهرت البيانات الرسمية أن مؤشر أسعار المستهلك قفز من معدل 4,7% في العام 2011، إلى36,5% في العام 2012، ثم إلى 50% في ربيع 2013.

• اعتمد الاقتصاد السوري تاريخياً اعتماداً كبيراً على قطاعي الزراعة والنفط، لكن الجفاف تسبب بأضرار جسيمة في الزراعة ولا سيما في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. وتسببت السياسة الاقتصادية للنظام بالمزيد من الخسائر في القطاع الزراعي، فأثارت حركة من الاحتجاج أسهمت في اندلاع الصراع. فالشلل الذي أصاب قطاعي الزراعة والنفط جعل الاقتصاد والسكان في حالة من العجز. وارتكز الاقتصاد السوري تاريخياً على دور الدولة في التنسيق والإدارة الاقتصادية وإعادة التوزيع، فالنفط والمنتجات الزراعية يجري بيعها للدولة التي تقوم بتصديرها أو إعادة توزيعها داخل البلاد. ولم يعد هذا الأمر قائماً.  

• شعرت الدول المجاورة بتداعيات هذه الأزمة ليس فقط لجهة انكماش التبادل التجاري مع الجمهورية العربية السورية، وإنما من جراء تصاعد التوترات الجيوسياسية والتخوف من نشوب حرب إقليمية قد تنزلق إلى أتونها الولايات المتحدة وروسيا، إسرائيل أو تركيا. ورفعت الحرب مستوى إدراك المخاطر في المنطقة، وأثرت سلباً في تحويلات رؤوس الأموال وتدفق السياح، وهما كانا العامل الرئيسي في توسيع القاعدة الاقتصادية في كل من الأردن ولبنان مؤخراً. علاوة على ذلك، تتزايد أعداد اللاجئين السوريين هرباً من النزاع الدائر في بلدهم إلى كل من الأردن ولبنان مما يزيد العبء المالي الذي يثقل اقتصاد هاتين الدولتين. 

• وهكذا، تزايدت بصورة دراماتيكية في الأشهر الأخيرة أعداد النازحين السوريين الذين لجؤوا في الغالب إلى الأردن ولبنان وتركيا. وأحصت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) عدد اللاجئين الذي بلغ 475,499 في الأول من شهر كانون الثاني/يناير 2013؛ وأعلنت المفوضية أن عددهم بلغ 1,216 مليون لاجئ في 30/4/2013، وأنه بلغ 1,312 مليون لاجئ في 28/5/2013.

• وكان للتدفق الواسع النطاق للاجئين انعكاسات كبيرة على اقتصادات الدول المضيفة، وقد وصل إلى الأردن حتى الآن 450.000 لاجىء. فبحسب دراسة أعدّها المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأردني، تخطت كلفة النازحين السوريين مليار دولار في الأشهر الـ18 الأخيرة، أي ما يناهز نسبة 3% من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة. وتقدر كلفة استضافة كل لاجئ في الأردن بنحو 3525 دولار في السنة؛ كما أظهرت الدراسة أن غالبية هؤلاء اللاجئين يقيمون في المدن في كل أنحاء المملكة الهاشمية، وهو الأمر الذي أدى إلى نمو مفاجئ في عدد سكان هذه المدن. كما بيّنت الدراسة أن كلفة استضافة اللاجئين قفزت من 200 مليون دولار في النصف الثاني من العام 2011، إلى نحو 830 مليون دولار في العام 2012. وتجدر الإشارة إلى أن العقد الأخير في تاريخ سورية شهد تحسناً ملحوظاً في العلاقات التجارية والاستثمارات بين الأردن وسورية اللتين وضعتا خططاً لتعزيز التعاون بينهما. لكن هذا التعاون لم يعد قائماً اليوم، فالأردن على غرار تركيا، تنقل صادراتها ووارداتها من السلع عبر إسرائيل، بعد أن تعطلت حركة الشحن العابر في سورية.    

• كما أن لبنان مهدَّد اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً من جراء النزاع الدائر في سورية، فمنذ ما قبل اندلاع الصراع، كان مئات آلاف السوريين يعملون بالفعل في لبنان. لكن مئات الآلاف الإضافية من النازحين السوريين تضغط على مستويات الأجور في لبنان من جراء الزيادة في المعروض من العمالة. وتفيد وكالات الأمم المتحدة أن 474 ألفاً على الأقل من النازحين السوريين لجؤوا إلى لبنان. لكن هناك خبراء مطلعون يقولون إن عدد هؤلاء النازحين يناهز الـ700 ألف في دولة يبلغ عدد سكانها أكثر من أربعة ملايين نسمة بقليل. 

• أضرّت الأزمة السورية بالحركة السياحية والتجارية في لبنان كما أثرت سلباً في مساعدات التنمية التي تقدمها دول الخليج النفطية، وأيضاً في التحويلات الكبيرة للجاليات من اللبنانيين العاملين والمقيمين في الخارج الذين يزداد قلقهم من الأوضاع الأمنية في وطنهم. وتراجعت السياحة بنسبة 17,5% خلال 2012، بعد أن هبطت بنسبة 23,7% في العام قبله. كما انخفض حجم الإنتاج الصناعي والصادرات. وتراجعت ثقة المستهلك بنسبة 37% خلال 2012 بعد تراجع نسبته 29% في 2011. كما انخفضت الاستثمارات الخارجية المباشرة بنسبة 68% خلال 2012. ويرزح لبنان بشكل مباشر تحت ثقل الأزمة بسبب كلفة دعم المنتجات الغذائية الأساسية كالخبز والطحين، وكلفة دعم الخدمات العامة كالكهرباء والرعاية الصحية. وهناك عوامل داخلية تسهم في التباطؤ الاقتصادي الذي يشهده لبنان وأهمها عدم اليقين السياسي الذي خيّم على هذه الدولة منذ إسقاط حكومة سعد الحريري في مطلع العام 2011.       

• وفي نيسان/أبريل 2013، قدّرت جهات حكومية تركية أن هناك 300 ألف سوري على الأقل – و450 ألف سوري على الأرجح- في تركيا. وتتزايد موجات الوافدين مع كل تصعيد جديد. وتشير جهات مطلعة أخرى إلى أن العدد أكبر بكثير. وتعتقد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن عدد اللاجئين سيزداد ضعفين بل ثلاثة أضعاف بحلول نهاية العام 2013. وتقدّر كلفة استضافة اللاجئين السوريين في تركيا بنحو 1,5 مليار دولار بحسب مصدر حكومي تركي. لكن هذا الرقم يشمل النفقات التشغيلية مثل كلفة تنقل ورواتب العاملين في المؤسسات الرسمية التركية التي كانت تعنى باللاجئين خلال العامين 2011 و2012. 

• وأكدت السلطات الإسرائيلية أن الشحن العابر من وإلى الأردن وتركيا سجل زيادة لافتة. فقد سُجّل في العام 2011 دخول 3500 شاحنة قامت بنقل البضائع في الاتجاهين. وتضاعف تقريباً عدد الشاحنات العابرة بحيث بلغ نحو 6400 شاحنة في العام 2012. وفقط في الربع الأول من العام 2013، سُجل عبور 2600 شاحنة قامت بنقل البضائع في الاتجاهين.   

• وتنقل الشاحنات العابرة من الأردن إلى تركيا، بشكل أساسي، منتجات زراعية ونسيجية، ومنتجات الصناعة الخفيفة. وتنقل الشاحنات العابرة من تركيا إلى الأردن مواد أولية للصناعة، ومنتجات التعبئة والتغليف، والمواد الغذائية الجافة. وما بدأ بوصفه لفتة إسرائيلية إلى كل من الأردن وتركيا، تحول إلى إيرادات لدولة إسرائيل بقيمة 60 مليون دولار في السنة على شكل رسوم عبور وتزود بالوقود ورسوم تأمين ومدفوعات النقل.

• ما هي التوقعات؟ يجوز افتراض أن تستمر الحرب عدة شهور على الأقل. فإن التزام إيران المطلق، وتدخل حزب الله، ودعم روسيا ساعد كل ذلك النظام ليس فقط على البقاء، وإنما على استرداد المناطق التي خسرها للثوار، وعلى سبيل المثال، القصير أخيراً. فهؤلاء الثوار منقسمون وينتظرون قرارات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن تزويدهم أسلحة. وزاد تدخل حزب الله المخاوف في العالم السني من سيطرة إيرانية/شيعية على سورية، ومن المعقول الافتراض أن هذه المخاوف يمكن أن تؤدي إلى زيادة المساعدات المالية للثوار وعدد المتطوعين في صفوفهم.

وهناك أيضاً مسألة التنافس التركي - الإيراني في سورية، فقد ألقت الحكومة التركية مسؤولية تفجير ريحانلي (الريحانية) الإرهابي في 11 أيار/مايو حيث وقع 46 قتيلاً تركياً وأكثر من مئة جريح - تبعد البلدة مسافة 5 كيلومترات عن الحدود السورية -، على مجموعات مؤيدة للنظام السوري. وهكذا يستمر التدمير. وها إن الحرب السورية تحولت إلى واحدة من أسوأ الكوارث في التاريخ المعاصر لمنطقة الشرق الأوسط.