هل تعود تركيا إلى سياسة "تصفير المشاكل"مع دول الجوار؟
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال

 

  • أدى الكشف عن الفساد السياسي بأبعاده غير المسبوقة في تاريخ تركيا الحديث، إلى قذف البلاد في دوامة من الاضطراب السياسي الخطير. واقتصر ردّ رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على تصريحات يتهم فيها قوى داخلية وخارجية بالتدخل في التحقيقات في محاولة لإطاحة حزبه. وذهب إلى حد اتهام سفراء أجانب بالضلوع في الاستفزازات وهدد بطردهم. 

    لكن في الممارسة العملية، فإن السياسة الخارجية التركية الحالية مختلفة جداً عما قد يوحيه الخطاب الرسمي، على الأقل بالنسبة لبعض البلدان المجاورة. وفي الواقع، أمكن في الأسابيع الأخيرة ملاحظة مساع لإعادة إطلاق سياسة "صفر مشاكل مع دول الجوار". 
  • وتقوم سياسة "صفر مشاكل" التي وضع أسسها وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو (كان قبل ذلك المستشار الرئيسي لرئيس الوزراء لشؤون السياسة الخارجية)، على اضطلاع تركيا بدور فاعل في حلّ المشاكل العالقة بينها وبين دول الجوار، وعلى تعزيز الاستقرار في المناطق المجاورة. ولاقت هذه السياسة نجاحاً لافتاً إلى حين اندلاع الثورات العربية. فمنذ بدء الاضطرابات الإقليمية، تعرضت سياسة تركيا الخارجية للإخفاق- لا بل تعرضت للانتقادات التهكمية باعتبارها دولة مع "صفر جيران". 
  • لكن خلافاً للممارسة السابقة لهذه السياسة، فلا يصحبها اليوم إعلانات رنانة، وفقط تلاحظ عودة ظهور الأنماط التي ميزت سياسة تركيا الخارجية قبل العام 2011. وتجدر الإشارة إلى أن أحمد داود أوغلو قد يخرج من هذه الأزمة أقوى من السابق لكونه غير متورط في فضيحة الفساد.
  • ويكتسب التقارب الجديد بين أنقرة وبغداد أهمية خاصة بعد توتر العلاقات التركية - العراقية في السنوات الأخيرة. وشهدنا في الأشهر الأخيرة زيارات على مستوى عال بما فيها زيارة وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري إلى تركيا، أعقبتها زيارة داود أوغلو إلى العراق. وأفادت تقارير أن زيارات متبادلة على المستوى الوزاري متوقعة في القريب العاجل. بل أكثر من ذلك، فتركيا تسعى إلى أن تصبح مركزاً للطاقة التي يتزايد استهلاكها، وتعمل من أجل إنجاح نقل النفط والغاز من شمال العراق عبر أـراضيها، من خلال إبرام اتفاقيات مباشرة بهذا الشأن مع الحكومة الإقليمية الكردية العراقية. 
  • ويبدو أنه جرى التوصل إلى تفاهمات بين أنقرة وبغداد بخصوص تقاسم مداخيل النفط وفق ما ينص عليه الدستور العراقي. وهذا يشمل بناء محطة للضخ وقياس كمية السائل المتدفقة في الأنبوب بين البلدين، مما يسمح للحكومة المركزية العراقية بقياس كميات النفط المصدَّرة من شمال العراق. 

    أما خطوات إعادة الدفء إلى العلاقات التركية- الإيرانية فبدأت في وقت سابق، وكان انتخاب حسن روحاني رئيساً لإيران أحد الأسباب أو الذرائع لإذابة الجليد بين البلدين. وعلى عكس إسرائيل والمملكة العربية السعودية، رحّبت تركيا بإبرام الاتفاق المرحلي الخاص ببرنامج إيران النووي بين إيران والقوى العظمى (E3+3) [فرنسا، ألمانيا، بريطانيا + الصين، روسيا، الولايات المتحدة]. بل أكثر من ذلك، وعلى الرغم من الخلاف الجوهري بين الدولتين حول مستقبل حكم الأسد، كان المؤتمر الصحافي المشترك بين وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف ونظيره التركي أحمد داود أوغلو في طهران في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر الذي جرت الدعوة فيه إلى وقف إطلاق النار قبل انعقاد مؤتمر جنيف 2، مشهداً لافتاً. وتطال فضيحة الفساد الحالية في تركيا العلاقات التجارية بين تركيا وإيران واستخدام إيران لتركيا على نطاق واسع للالتفاف على العقوبات الاقتصادية، ولا سيما في ما يخص معاملات البنوك. وعلى الرغم من أنه يتوقع ازدياد ضغط المجتمع الدولي على تركيا بهدف تقليص نطاق علاقاتها الاقتصادية مع إيران في أعقاب الكشف عن خباياها، فمن الواضح أيضاً أنه يوجد ترابط اقتصادي متين بين الدولتين. 
  • في البداية، وفي إطار سياسة "صفر مشاكل" الأصلية، بُذلت محاولات لتدفئة العلاقات الباردة بين تركيا وأرمينيا، ووُقّعت في تشرين الأول/أكتوبر 2009 بروتوكولات كان من المفترض أن تؤدي إلى فتح الحدود المغلقة بين البلدين. لكن لم يصادق على هذه البروتوكولات في البرلمانين التركي والأرميني بسبب المعارضة الداخلية في أرمينيا، وبسبب أن أذربيجان كانت غاضبة من حليفتها تركيا لعدم إطلاعها على هذا المسار، علماً بأنها معنية به بسبب النزاع الدائر مع أرمينيا حول إقليم ناغورني كاراباخ [بالأذرية: قرة باغ] والمناطق المجاورة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2013، طلب الوزير التركي داود أوغلو من سويسرا لعب دور الوسيط بين أرمينيا وأذربيجان (ولا سيما أن ذوبان الجليد بين تركيا وأرمينيا حصل بمساعدة سويسرية). وبالإضافة إلى ذلك، كانت مشاركة داود أوغلو في اجتماع منظمة التعاون الاقتصادي للبحر الأسود في العاصمة الأرمينية يريفان في 12/12/2013، هي الزيارة الأولى لمسؤول تركي رفيع منذ فشل مسار العام 2009. وخلال الزيارة خرج داود أوغلو عن السردية التركية لأحدات العام 1915، فقال إن ترحيل الأرمن "عمل غير إنساني".
  • ويبدو أن هناك تقدماً حول قبرص، وقد أشار وزير الخارجية التركي داود أوغلو خلال زيارته لليونان في منتصف كانون الأول/ديسمبر، إلى الزخم في العلاقات بين الجانبين من أجل حل هذا النزاع الدائر. 

    ونظراً الى أن العلاقات التركية - الإسرائيلية كانت في ما مضى خالية من المشاكل، لم يكن هناك داع لسياسة "صفر مشاكل" حيال إسرائيل، باستثناء محاولات التوسط بين إسرائيل وسورية، والمساعدة الدبلوماسية في المسألة الفلسطينية. لكن بعد حادثة سفينة المساعدات "مافي مرمرة" تغير الوضع كلياً: كانت هذه أول مواجهة مباشرة بين الدولتين. لكن، لاحت اخيراً بوادر عودة قريبة للسفراء إلى كل من تل أبيب وأنقرة. ففي مطلع كانون الأول/ديسمبر 2013، ولأول مرة منذ الحادثة، حضر وزير إسرائيلي - وزير شؤون البيئة عمير بيرتس- مؤتمراً بيئياً برعاية الأمم المتحدة في تركيا، والتقى نظيره التركي. كما أفادت تقارير أن البلدين وقعا وثيقة تمهد الطريق لمعاودة الرحلات الجوية لشركات الطيران الإسرائيلية إلى تركيا في صيف العام 2014. بل أهم من ذلك، أفيد عن لقاء مندوبين أتراك وإسرائيليين في منتصف كانون الأول/ديسمبر، من أجل جولة أخرى من المباحثات حول تعويض أسر ضحايا حادثة سفينة "مافي مرمرة" مقابل إلغاء الشكاوى القضائية المقدمة ضد ضباط وجنود إسرائيليين [شاركوا في الاعتراض الدموي]، وعن تقليص كبير لهوة الخلاف بين الجانبين.
  • ومع ذلك وبالنظر إلى التهم التي وجهتها وسائل إعلام تركية محسوبة على حزب العدالة والتنمية إلى إسرائيل واللوبي اليهودي والولايات المتحدة الأميركية بالتحريض على كشف فضيحة الفساد، فقد لا يكون التوقيت مرة أخرى، هو الأمثل من أجل تطبيع العلاقات الثنائية.
  • في الوقت الحالي، هناك بوادر عودة سياسة "صفر مشاكل مع دول الجوار"، لكن من دون إعلانات رنانة. وفي حين واجهت تركيا في الماضي مسائل صعبة مع دول الجوار بسبب عدم الاستقرار المتزايد في منطقة الشرق الأوسط، تعمل تركيا اليوم في بيئة استراتيجية أكثر تعقيداً. وبمعنى من المعاني، إن الشروط المبدئية لمحاولة إعادة إطلاق سياسة "صفر مشاكل" عسيرة أكثر من السابق. ومن شبه المؤكد أن الخلافات الجوهرية لتركيا مع كل من سورية ومصر (بسبب سعي الحكومة التركية إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد، وانتقاد تركيا الانقلاب العسكري في مصر)، لن تحل بسرعة. أضف إلى ذلك أن الغليان السياسي الداخلي الحالي في تركيا سيصعّب مهمة القيام ببعض المبادرات الجديدة، فالفساد السياسي الذي كشف عنه اخيراً هو أخطر ما يهدد بقاء حزب العدالة والتنمية في الحكم. ومن الواضح منذ الآن أن مكانة رجب طيب أردوغان داخل وخارج حزبه تضررت كثيراً. أما السياسي التركي الذي حافظ على شعبيته ولم تمسه الفضيحة فهو الرئيس عبد الله غول. وتعتبر مواقف الرئيس غول معتدلة مقارنة بمواقف أردوغان.
  • وعليه وفي حال حدوث تغييرات في قمة الهرم السياسي، فقد يتمكن [غول] من تلطيف الأجواء بالنسبة لسياسة تركيا الخارجية.
 

المزيد ضمن العدد 1806