الاعتذار الإسرائيلي من تركيا أنهى الأزمة لكنه لن يُحدث تغييراً جوهرياً في العلاقات
المصدر
مركز موشيه دايان للأبحاث شرق الأوسطية والأفريقية

تأسس في سنة 1959 بالتعاون مع جامعة تل أبيب. وهو مركز متعدد المجالات، ينشر دراسات تتعلق بالنزاع الإسرائيلي- الفلسطيني، كما يُعنى بالموضوعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الدول العربية والدول الأفريقية. ولدى المركز أهم مكتبة للمصادر العربية من كتب ومجلات وصحف. وتصدر عن المركز سلسلة كتب مهمة في مختلف المجالات، ولديه برامج تدريب ومنح أكاديمية.

– "تسومت مزراح هتيخون"، المجلد 3، العدد 4

·       في الماضي عرفت شبكة العلاقات بين إسرائيل وتركيا مراحل من الصعود والهبوط. أمّا اليوم فنستطيع القول إنه في شبكة العلاقات الحالية بين الدولتين تركيا هي المبادرة ، وإسرائيل تقوم بردود فعل على مبادراتها. ففي كل مرة يجد فيها الأتراك أن من مصلحتهم توطيد العلاقات مع إسرائيل يبدأ التقارب بين الدولتين، وعندما يقررون تجميد العلاقات، مثلما جرى في أعقاب عملية "الرصاص المسبوك" في كانون الأول / ديسمبر 2008، يبدأ التدهور في العلاقات بين الدولتين. ومن أجل فهم أفضل لهذه الخريطة المعقدة للعلاقات، يتعين علينا تحليل مبادىء السياسة الخارجية التركية حيال إسرائيل، وخصوصاً وجهة نظر واضع هذه السياسة وزير الخارجية الحالي أحمد داود أوغلو.

·       منذ تسلّم داود أوغلو مهماته في وزارة الخارجية التركية، برزت انتقادات داخل تركيا وخارجها بشأن السياسة الخارجية التي ينتهجها، ومع ذلك يُعتقد أنه الرجل القوي الذي يضع الخطوط الأساسية للدبلوماسية التركية. وفي الواقع فإن الجزء الأكبر من مواقفه، بما في ذلك العوامل التي أدت إلى التغيير الذي طرأ على علاقة تركيا بإسرائيل، معروض في كتابه الذي يحمل عنوان "العمق الاستراتيجي" (الصادر في سنة 2001). ففي نظر داود أوغلو، فإن إسرائيل اليهودية ولبنان المسيحي لا ينتميان إلى البيئة "الطبيعية" للشرق الأوسط، كما أن العلاقة الوثيقة بين تركيا وإسرائيل تحدّ، في رأيه، من هامش المناورة الذي تملكه تركيا في المنطقة، والذي يستند إلى الإرث العثماني.

·       دخل داود أوغلو الحياة السياسية في سنة 2002 في إثر انتصار حزب العدالة والتنمية، وفوز رجب طيب أردوغان برئاسة الحكومة التركية وتعيينه أوغلو مستشاراً للشؤون الخارجية. وفي سنة 2009 عُين أوغلو وزيراً للخارجية، ومنذ ذلك الحين بات هو الذي يقود السياسة الخارجية لبلده، والتي تستند إلى نظرية العثمانية ـ الجديدة التي تقوم على المزج بين الأفكار التركية والإسلام، وتهدف إلى إعادة النفوذ التركي إلى المناطق التي كانت خاضعة في الماضي للسلطنة العثمانية.

·       حتى نهاية سنة 2008، لم يطرأ أي تغيير جوهري على العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، وقد قامت تركيا بدور الوسيط في المفاوضات التي أجرتها إسرائيل مع سورية في ذلك الوقت. ولم تبدأ نقطة التحول إلاّ في أعقاب عملية "الرصاص المسبوك" التي استمرت من كانون الأول / ديسمبر 2008 حتى كانون الثاني / يناير2009. فقبل أيام على العملية قام رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إيهود أولمرت، بزيارة تركيا، وعلى الرغم من العلاقات الوطيدة بين البلدين، فإن أولمرت لم يُطلع أردوغان على نيته القيام بالعملية. وفسّر أردوغان هذه الخطوة بأنها طعن في الظهر، سواء بالنسبة إلى مساعي الوساطة التركية، أو إلى تخوّفه من أن يفسر العالم العربي زيارة أولمرت في ذلك الوقت بالذات لتركيا بأنها بمثابة تنسيق بين المواقف قبيل العملية. وقد أثار فشل المفاوضات مع السوريين خلال عملية "الرصاص المسبوك"، والخسائر الكبيرة التي تكبّدها الفلسطينيون جرّاء العملية، غضباً كبيراً في أنقرة التي حمّلت إسرائيل مسؤولية فشل المفاوضات مع السوريين. ومنذ ذلك الوقت لا يترك حزب العدالة والتنمية فرصة من دون توجيه الانتقادات الشديدة إلى إسرائيل، وكان لمواقف الحزب المؤيدة للفلسطينيين تأثير بارز في الرأي العام التركي. وبين الأدلة على ذلك، نجاح السلطة المسؤولة عن المسائل الدينية في جمع مبلغ 10 ملايين ليرة تركية (20 مليون شيكل جديد) بعد عملية "الرصاص المسبوك" في إطار تقديم المساعدة للفلسطينيين.

·       خلال قمة دافوس التي عُقدت في 29 كانون الثاني/ يناير 2009، وقع أول حادث دبلوماسي عبّر عن الغضب التركي حيال إسرائيل، وذلك عندما غادر أردوغان قاعة الاجتماعات بصورة استعراضية بعد إدانته الشديدة لإسرائيل بوجود الرئيس بيرس، وعاد فوراً إلى بلده. في الليلة نفسها وبواسطة باصات خاصة أمّنتها بلدية إسطنبول، أخذ مؤيدو أردوغان بالتدفق إلى المطار لاستقباله حاملين أعلاماً تجمع بين العلمَين التركي والفلسطيني. وقد أثبت هذا الاستقبال إلى جانب أمور أُخرى أن تفجير اللقاء في دافوس كان خطوة خطط لها أردوغان مسبقاً، وأنها بداية سلسلة من الحوادث التي أثّرت سلباً في العلاقات بين الدولتين.

·       في تشرين الأول / أكتوبر 2009، عرض التلفزين التركي الرسمي مسلسلاً صوّر الجنود الإسرائيلين مجرمين، وبعدها بأشهر عُرض مسلسل آخر عنوانه "وادي الذئاب: فلسطين" الذي صوّر إسرائيل بطريقة سلبية للغاية. ووصلت الأزمة إلى ذروتها عندما دعا نائب وزير الخارجية، داني أيالون، السفير التركي إلى لقاء توبيخ بعد عرض المسلسل، وأجلسه على كرسي منخفض، الأمر الذي فسرته تركيا بأنه يهدف إلى المسّ بكرامة السفير.

·       لكن، على الرغم من التوتر في العلاقات، فإن الدولتين استمرتا في إقامة علاقات طبيعية إلى حد ما حتى وقوع أحداث التعرض لأسطول المساعدة لغزة في أيار / مايو 2010، والتي قُتل جرّاءها تسعة ناشطين من منظمة IHH المؤيدة للفلسطينيين. وأدى ذلك إلى تدهور حادّ في العلاقات الخارجية بين الدولتين، وأحدث تغييراً جذرياً في العقيدة الأمنية التركية حيال إسرائيل، إذ لأول مرة تدخل إسرائيل "الكتابَ الأحمر" الذي يحدد المخاطر التي تتهدد تركيا.

·       شكّل التقرير الصادر عن لجنة بالمر الدولية التي شُكّلت لدرس أحداث أسطول المساعدة والصادر في أيلول / سبتمبر 2011، علامة فارقة إضافية في العلاقات التركية ـ الإسرائيلية، ولا سيما بعد أن اعتبر التقرير أن الحصار البحري المفروض على غزة شرعي، وبذلك يكون قد طعن عملياً بمبررات شرعية عمل الأسطول. ويومها رفضت تركيا رفضاً قاطعاً نتائج التقرير، وأعلن داود أوغلو فرض سلسلة من العقوبات ضد إسرائيل بينها تجميد الاتفاقات بين البلدين، وخصوصاً تأمين حرية الملاحة في البحر المتوسط، وتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين إلى السكرتير الثاني فقط. وفي هذه الأثناء وضع أردوغان ثلاثة شروط من أجل إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه هي: الاعتذار الإسرائيلي؛ دفع التعويضات إلى عائلات القتلى؛ رفع الحصار عن غزة.

·       وكشفت هذه الأزمة، أنه على الرغم من العلاقات العسكرية والتجارية والسياحية المزدهرة بين الدولتين، فإنها لم تؤدّ إلى قيام علاقة صداقة حقيقية بينهما. ففي الماضي كان للجيش التركي تأثير كبير في هذه العلاقات، لكن كلما كان الجيش يضعف، وكلما كانت قوة حزب العدالة والتنمية تزداد، كانت العلاقات التركية – الإسرائيلية تتضرر.

·       إن الاعتذار الإسرائيلي الذي حدث في نهاية زيارة أوباما أنهى الأزمة رسمياً، لكن في تقديرنا أنه في ضوء المبادىء النظرية التي تستند إليها السياسة الخارجية التركية، فإن هذا الاعتذار لن يؤدي إلى تغيير جوهري في هذه العلاقات، وإنما إلى تهدئة موقتة فقط.

·       ثمة مشكلة أُخرى تواجهها إسرائيل هي عدم شعبيتها حتى في أوساط المعارضة العلمانية - الكمالية التركية، التي اعتبرت اعتذار إسرائيل تقوية لأردوغان في مواجهتها. وفي نظر العديد من الكماليين الأتراك فإن إسرائيل اليوم هي شريكة حزب العدالة والتنمية في مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي تتبنّاه الولايات المتحدة، والذي يهدف إلى تشجيع الإسلام المعتدل كنموذج يُحتذى في المنطقة بأكملها. وفي رأي مجموعة من التيار الكمالي، فإن إسرائيل وحزب العدالة والتنمية يفتعلان الأزمات ظاهرياً، بينما هناك، وبعيداً عن الأنظار، تحالف فيما بينهما.

·       بناء على ذلك، فإن الفائدة من الاعتذار الإسرائيلي رهن بعاملين أساسيين: الأول، وجود مبادرة أميركية تعمل بصورة مستمرة على ترميم العلاقات بين تركيا وإسرائيل على المدى البعيد. ومن المحتمل أن تؤدي الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس أوباما لإسرائيل، وتوطيد العلاقات مع رئيس الحكومة نتنياهو، والتدخل في الأزمة التركية - الإسرائيلية، إلى التخفيف من حدة الموقف التركي حيال إسرائيل مستقبلاً.

 

·       أمّا العامل الثاني، فهو قضية المواجهات المستقبلية لإسرائيل. ففي حال طرأ تصعيد من الجنوب أو من الشمال، فإن العلاقات قد تتدهور مجدداً بين الدولتين إذا اضطرت إسرائيل إلى الرد على التصعيد. كما أن السياسة التركية المؤيدة للفلسطينيين من شأنها أن تؤدي إلى التوتر في العلاقات بين البلدين في حال استمر الجمود السياسي. وتجدر الإشارة هنا إلى تطلّع تركيا إلى أداء دور الوسيط في النزاعات الإقليمية. ونفترض أنه على الرغم من فشل المحاولات التركية التوسط خلال عملية "عمود سحاب"، فإن أردوغان لن يضيع فرصة كي يكون وسيطاً بين "حماس" وإسرائيل. وفي الواقع فإن هدف تركيا الأساسي أن تؤدي دور"الأخ الأكبر" في قضايا المنطقة عامة، والقضايا التي تمسّ الفلسطينيين خاصة، وأن تكون اللاعب الأساسي في حل أزمات المنطقة، الأمر الذي يعني أن العوامل التي تحدد محور العلاقات بين تركيا وإسرائيل ليست في يد القدس. أمّا بالنسبة إلى الاعتذار فإنه سيُعتبر على المدى القصير حلاً، لكنه على المدى البعيد قد يرتد سلباً على إسرائيل.

 

المزيد ضمن العدد 1641