ضعف السلطة الفلسطينية: نحو الاستمرارية أو الانهيار أو الاضمحلال؟
تاريخ المقال
المصدر
معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوي
من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
- أظهرت السلطة الفلسطينية ضعفاً خلال السنة الأخيرة، لم نشهد له مثيلاً منذ الانتفاضة الثانية، حين فقد الحكم في رام الله جزءاً كبيراً من قدراته، الأمر الذي خلق فراغاً استغلته عناصر القوى المنافسة، وعلى رأسها "حماس". العقدان الأخيران تميزا بإعادة بناء الحكم واستقرار نسيج الحياة في الضفة الغربية، من خلال المحافظة الصارمة للسلطة الفلسطينية على التنسيق مع إسرائيل، والتضييق على خطوات "حماس" في المنطقة، في ضوء درس الصدمة التي تركتها سيطرة "حماس" على قطاع غزة في حزيران/يونيو 2007.
- ضعف السلطة الآن ناجم عن عدة أسباب خارجية وداخلية: الأزمة الحادة مع إسرائيل، والمصحوبة بتصاعُد التوترات الأمنية على الأرض، والعقوبة الاقتصادية من جانب إسرائيل (حسم الأموال المخصصة لدعم أُسر "المخربين" )؛ الصورة السلبية للسلطة، في نظر أغلبية الجمهور الفلسطيني، في ضوء ظواهر الفساد والمحسوبيات وغياب الديمقراطية؛ الخوف المتزايد لدى كبار المسؤولين في السلطة، ولدى الأجهزة الأمنية، من اتهامهم بـ "التعاون" مع إسرائيل، على خلفية التنسيق الأمني معها؛ صعود قوة الجيل الفلسطيني الشاب الذي يعاني جرّاء ضائقات كثيرة، ويشعر بغربة عميقة تجاه السلطة.
- وأبرز تعبير عن ضعف السلطة هو الفراغ الأمني الذي تمدد إلى مراكز مختلفة في الضفة الغربية. وضمن هذا الإطار، نشأت أرض خصبة لـ"الإرهاب" والفوضى بقيادة ميليشيات محلية، إلى جانب حركتيْ "حماس" والجهاد الإسلامي اللتين تعتبران الوضع الناشىء فرصة لتعزيز نفوذهما على الأرض، ومن أجل تشجيع "الإرهاب" ضد إسرائيل في ساحات غير قطاع غزة (وذلك من خلال دعم وتوجيه قيادات الحركتين في غزة). وتبرز هذه الظاهرة جلية في جنين، وبصورة خاصة في مخيم اللاجئين في جنين الذي تحول إلى مركز أساسي لـ"الإرهاب" في الضفة، وكذلك في نابلس، حيث نجح الجيش الإسرائيلي في القضاء على البنية التحتية لـ"عرين الأسود"، ومؤخراً أيضاً، في أماكن هادئة نسبياً، مثل أريحا، حيث جرى الكشف مؤخراً عن شبكة عسكرية تابعة لـ"حماس" بدأت بتنفيذ هجمات.
- في ظل الوضع الراهن، ثمة حاجة مُلحة وفورية إلى استعادة السلطة سيطرتها على الأماكن التي ضعفت فيها، ولكي تؤكد أن "نموذج جنين" لن يتمدد إلى سائر أجزاء الضفة. عملياً، هناك صعوبة في تحقيق هذا الهدف في ظل الأزمة الحادة مع إسرائيل والتصعيد الأمني: فالسلطة الفلسطينية ليس لديها الثقة بقدرتها على فرض إرادتها، الأمر الذي سيترافق مع احتكاكات بالجمهور المحلي (كما حدث في نابلس قبل نصف عام)، والعقوبة الجماعية الاقتصادية تؤذي سير العمل العادي، وخصوصاً دفع رواتب الموظفين في القطاع العام، وفي طليعتهم عناصر الأجهزة الأمنية.
- ضعف السلطة الفلسطينية يثير قلقاً عميقاً لدى الإدارة الأميركية عبّرت عنه من خلال ضغط وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن على أبو مازن في اجتماعهما الأخير لفرض سلطته في منطقة جنين (الأمر الذي جرى الحديث عنه فلسطينياً بـ"خطة دايتون 2")، وفي وثيقة صاغها السي آي إي، وحذّر فيها من مغبة نشوب "انتفاضة ثالثة" في الضفة الغربية. ويبدو أن هناك قلقاً في واشنطن حيال استمرار القطيعة الأمنية والسياسية بين إسرائيل والفلسطينيين، وتداعيات العقوبات الاقتصادية ضد السلطة، بالإضافة إلى الاستياء من التلميحات التي برزت مؤخراً من جانب مسؤولين كبار في الحكومة، وعلى رأسهم الوزير سموتريتش، بشأن عدم الحاجة إلى وجود السلطة الفلسطينية في المستقبل.
- الضعف المستمر للسلطة، والمترافق مع التصعيد الأمني والضرر المتزايد الذي يلحق بالاستقرار الاقتصادي للضفة الغربية، يمكن أن يؤدي إلى انهيار حاد للواقع الذي كان قائماً منذ أكثر من عقدين في المنطقة. وينبغي الاعتراف بأن السلطة ليست موجودة حالياً بفضل أجندة جذابة أو تأييد شعبي، بل لأنها تمثل، في نظر الجمهور الفلسطيني، كياناً نجح في تأمين نسيج حياة واستقرار حكومي واقتصادي، ومن دونهما، تفقد المبرر الداخلي لوجودها.
- احتمالات استمرار الواقع بصيغته الحالية لفترة زمنية طويلة ضئيلة، من المحتمل أن يستمر (بصعوبة كبيرة) عدة أشهر، أو ربما عاماً، لكنه لا يشكل أساساً لوضع ثابت يسمح لإسرائيل باستقرار أمني. واحتمالات حدوث مبادرات فلسطينية من نوع "إعادة المفاتيح" إلى إسرائيل ضئيلة أيضاً، لأن أغلبية المسؤولين الكبار في الحكم في رام الله يتوقون إلى استمرار صمود السلطة، ويدركون أن عدم وجودها سيسبب لهم ضرراً كبيراً، ويتخوفون من عودة سوابق من الماضي، مثل الانتفاضة الثانية، أو سيطرة "حماس" على القطاع.
- السيناريوهان الأكثر معقولية هما الانهيار والاضمحلال، أي توقُّف عمل السلطة، في ضوء المصاعب الاقتصادية في تشغيل أجهزة الحكم، وخصوصاً في تأمين الحاجات العامة وتشغيل البنى التحتية المدنية ودفع الرواتب، وفرض النظام العام. وهذان السيناريوهان لن ينتجا من تصريحات أو خطط منتظمة، لكن على الرغم من ذلك، فإنهما يمكن أن يتحققا: السيناريو الأول سيتحقق بسرعة كبيرة، ويمكن أن يكون مصحوباً بفوضى، ويُلحق الضرر بالمؤسسات، وبرموز الحكم (ظاهرة عرفتها دول المنطقة في فترة الربيع العربي)، والسيناريو الثاني يمكن أن يتحقق، بالتدريج، نتيجة "احتضار بيروقراطي" تختلف شدته بين المناطق الجغرافية وبين مناطق السيطرة.
- بالنسبة إلى إسرائيل، ينطوي هذان السيناريوهان على تداعيات استراتيجية مهمة جداً. في المدى المباشر، يمكن أن يخلقا مخاطر أمنية، مثل ارتفاع حجم "الإرهاب"، سواء من جانب نشطاء الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي قد تضعف وتتفكك، أو من خلال صعود قوة "حماس". في المدى البعيد، يمكن أن ينشأ فراغ حكومي يجبر إسرائيل على تحمّل مسؤوليات مدنية حيال الجمهور الفلسطيني، وعملياً سيعيدها، جزئياً أو بصورة كاملة، للقيام بدور الحاكم العسكري، كما كان عليه الوضع قبل قيام السلطة الفلسطينية، وهو ما سيقرّبها، من دون إرادة منها، أو تخطيط، إلى واقع الدولة الواحدة.
- إن ضعف وضع السلطة يجب أن يكون في وسط صورة الوضع والسياسات التي يصوغها متّخذو القرارات بشأن القضية الفلسطينية. في المدى المباشر، يجب تأمين هدوء نسبي قبيل شهر رمضان (22 آذار/مارس) وخلاله، ومن أجل هذه الغاية، من الضروري إيجاد السبل من أجل عودة التنسيق الأمني الكامل والتخفيف من الأزمة الحادة مع السلطة، من خلال الاستعانة بالإدارة الأميركية، وكذلك مع لاعبين أساسيين عرب، وعلى رأسهم الأردن ومصر. بالإضافة إلى ذلك، ننصح بفحص تقييد أو تعليق العقوبات الاقتصادية على السلطة في وقت قريب، والامتناع من تسريع البناء في المستوطنات في الضفة الغربية، والذي سيواجَه بردّ عنيف من جانب المجتمع الدولي. ويجب أن يترافق كل هذا مع التشدد في التعامل مع "حماس" التي تقف وراء جزء كبير من الأعمال "الإرهابية" والتحريض في الضفة الغربية، وفي القدس، وحتى داخل المجتمع العربي في إسرائيل، ويجب أن يشمل هذا البادرات المدنية المقدمة إلى القطاع.
- يتعين على متّخذي القرارات مواجهة خلاصتين استراتيجيتين. الأولى – أن التركيز على خطوات رمزية - من ملاحقة الأعلام الفلسطينية، مروراً بإقامة بؤر يجري إخلاؤها بسرعة في الضفة الغربية، وصولاً إلى زيارات إلى الحرم القدسي - يمنع صوغ استراتيجيا عميقة وبعيدة المدى في الموضوع الفلسطيني - ويمكن أن يحوّل الانتباه والجهد إلى مسائل وجودية أُخرى، في طليعتها النووي الإيراني. الخلاصة الثانية - والأكثر أهمية - هي أنه على الرغم من الموقف الحاد الذي تقفه السلطة الفلسطينية حيال إسرائيل، فإنها تبقى الأقل سوءاً، لأن عدم وجودها سيضع إسرائيل أمام بدائل أكثر سوءاً بكثير، بدءاً من سيطرة "حماس" على الضفة، مروراً بواقع الدولة الواحدة الذي يهدد صورة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.