الصين وإسرائيل والفلسطينيون: بين الاقتصادي والسياسي
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- خلال المواجهات التي اندلعت مؤخراً ما بين إسرائيل والفلسطينيين، استمرت الصين في التعبير عن دعمها، غير المتحفظ، للجانب الفلسطيني. فبعد زيارة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى المسجد الأقصى مثلاً، انضمت الصين إلى الإمارات بطلب عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وخلالها، طالب السفير الصيني "إسرائيل بشكل خاص، بالتوقف عن التحريض والاستفزازات." وكان وزير الخارجية الصيني الجديد تشين غانغ قال أموراً مشابهة خلال زيارته إلى القاهرة في 16 كانون الثاني/يناير الماضي. وفي نهاية كانون الثاني/يناير، تعاونت الصين مرة أُخرى مع الإمارات وفرنسا، وطالبت بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن في الأمم المتحدة، بعد عملية الجيش الإسرائيلي في جنين.
- مميزات الرد الصيني لم تتغير، حتى بعد العمليات الأخيرة في القدس، وتضمنت التعبير عن الأسف بسبب الأضرار التي تلحق بالمدنيين في الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني؛ إدانة أعمال "إرهابية"، وفي الوقت نفسه إدانة استعمال القوة المفرطة عند الرد؛ مطالبة الأطراف، و"بشكل خاص إسرائيل، بالهدوء وضبط النفس، بهدف منع خروج الأوضاع عن السيطرة." أما المتحدث بلسان وزارة الخارجية، فعاد وكرر الادعاء الصيني الذي بحسبه، لا يزال الصراع مستمراً لأن الفلسطينيين لم يحققوا أهدافهم الشرعية بدولة مستقلة بعد. وفي هذا السياق، يجب الإشارة إلى أن الصين صوتت لمصلحة القرار الأممي الذي يطالب المحكمة الجنائية الدولية بعرض وجهة نظر استشارية بشأن إسقاطات الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
- هذا التصويت كان الأخير من سلسلة عمليات تصويت تدعم الطرف الفلسطيني منذ استعادت الصين الشعبية مقعدها في الأمم المتحدة سنة 1971، بدلاً من تايوان. ولكن عملياً، بدأ دعم الصين الشعبية للفلسطينيين منذ فترة ماو تسي تونغ، حينها، كان دعمها للفلسطينيين جزءاً من دعمها لحركات التحرر الوطني ضد الإمبريالية الغربية. ففي سنة 1965، قال ماو لأحمد الشقيري، رئيس منظمة التحرير، إن "الإمبريالية تخاف من الصين والعرب. إسرائيل وتايوان هما قاعدتا الإمبريالية في آسيا... الغرب لا يحبنا، وعلينا أن نفهم هذه الحقيقة. المعركة العربية ضد الغرب هي المعركة ضد إسرائيل." وعلى الرغم من أن تعامُل الصين مع الغرب تغيّر دراماتيكياً منذ فترة ماو حتى اليوم، فإن المسؤولين الصينيين لا يزالون يعبّرون عن دعمهم لفلسطين اليوم أيضاً. فمثلاً، خلال اللقاء الأخير الذي جمع الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس يوم 22 كانون الأول/ديسمبر، قال الأول إن بلاده "تدعم دائماً الأهداف العادلة للشعب الفلسطيني، باستعادة حقوقه ومصالحه الشرعية." هذا بالإضافة إلى أن الصين تلتزم بالتشديد على دعمها حلّ الدولتين، ومن ضمنه العودة إلى حدود 1967 والقدس الشرقية كعاصمة للدولة الفلسطينية. كما تطرح الصين منذ أعوام خططاً لإنهاء الصراع، متشابهة بصورة عامة. هذا ما قامت به في سنة 1989، وفي سنة 2004، وسنة 2007، ومرة أخرى في أيار/مايو 2013، عندما استقبل الرئيس شي في الأسبوع نفسه كلاً من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ورئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن، في العاصمة الصينية. بعدها بشهرين، قام الرئيس الصيني بتحديث الخطة التي تطبّق قرار مجلس الأمن الرقم 2334، الصادر في كانون الأول/ديسمبر 2016، والتي تطالب بإقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. الإضافة التي قام بها الرئيس الصيني كانت استعداد الصين لاستقبال مؤتمر دولي، بمشاركة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وتشدد على البعد الاقتصادي، مع الإشارة إلى "مبادرة الحزام والطريق" التي نشرها قبل ذلك بأربعة أعوام.
- على عكس النبرة العالية والدعم السياسي، فإن الدعم الاقتصادي الصيني للفلسطينيين قليل. وحتى المساعدات الإنسانية من خلال الأونروا قليلة جداً، وخصوصاً إذا ما قورنت بدول أُخرى. ففي سنة 2020 مثلاً، بلغت المساعدات 3.3 ملايين دولار، وفي سنة 2021، انخفضت إلى مليوني دولار فقط. أما الشركات الصينية، فإن استثمارها في المناطق الفلسطينية ضئيل جداً، وموّلت الصين مشاريع صغيرة لتحلية المياه، وللطاقة الشمسية، في غزة. وهذا على عكس انخراط الشركات الصينية في مشاريع بنى تحتية في الدول المجاورة، كإسرائيل ومصر. يبدو أن الاستثمار الاقتصادي الضئيل كافٍ للحاجات السياسية، في نظر بكين، ويسمح للسفير الصيني في الأمم المتحدة وفي مناطق السلطة الفلسطينية بالتعبير عن دعمه غير المحدود للخط السياسي الفلسطيني، لتقوية صورة الصين كدولة تسعى للسلام وتدافع عن القانون الدولي. وهو ما تضعه الصين في مقابل الولايات المتحدة التي تتهمها الصين بأن سياستها تؤدي إلى حالة من البلبلة وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى المنافسة والنزاعات في الساحة الدولية. موقف الصين الثابت من الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني يعتمد بالأساس على الحاجة إلى ضمان دعم المعسكر العربي - المسلم لموقفها بشأن تايوان، وصمت هذا المعسكر على ما يحدث في قضية الإيغور.
- إن سياسة الصين تجاه إسرائيل هي على عكس سياستها تجاه الفلسطينيين. ففي سنة 2013، وقّعت الصين وإسرائيل اتفاق تعاوُن في البنى التحتية، ومنذ ذلك الوقت، تعمل الشركات الصينية في مجالات عدة. وبالإضافة إلى الأعمال التي تقوم بها الشركات الصينية في إسرائيل، تستعمل هذه الشركات إسرائيل كجسر للغرب. وعلى الصعيد التجاري، فإن إسرائيل، بالنسبة إلى هذه الشركات الصينية، كشركة SIPG، التي تقوم بتفعيل ميناء حيفا، هي مكان مثالي لتجربة العمل التجاري خارج الصين. فمن جهة، إسرائيل دولة متطورة وديمقراطية، لكنها في الوقت نفسه، صغيرة من حيث الحجم. التجريب في السوق الإسرائيلية يسمح للشركات الصينية بالحصول على معرفة وخبرة من أجل العمل مستقبلاً في دول شبيهة في الاتحاد الأوروبي. وبشكل مماثل، يتم استعمال إسرائيل كقناة تواصُل مع الولايات المتحدة، وفي الاتجاه العكسي أيضاً - لفهم موقف الولايات المتحدة بصورة أفضل.
- في سنة 2017، وقّعت الصين وإسرائيل اتفاقية واسعة للتعاون في مجالات التجديد، وحصلت على مباركة كلٍّ من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والرئيس الصيني شي، ويبدو أن الدولتين تقومان بعمليات تبادُل اقتصادي واسعة من خلال شركات تجارية، وخاصة في مجال البنى التحتية ومجال المؤسسات الأكاديمية. لكن على عكس ما يبدو، فإن الشراكة لم تأتِ بالكثير من الثمار. الاستثمارات الصينية في التكنولوجيا العالية الدقة الإسرائيلية وصلت في نقطة الذروة إلى نحو 8% فقط من مجمل الاستثمارات الأجنبية في إسرائيل، ومنذ سنة 2019، هي في حالة تراجُع. ومجال الخدمات، الذي شكّل نصف مجمل الصادرات الإسرائيلية في سنة 2021، لم يصدّر إلى الصين نصف النسبة. وفي نهاية 2022، قامت الصين بخطوة مثيرة للاهتمام، وذلك عندما صاغت ببياناتها خلال ثلاث قمم مشتركة مع دول عربية أو خليجية، صيَغاً تتبنى الموقف الخليجي من الصراع مع إيران، وبذلك تكون قد عبّرت عن رغبتها في توسيع التعاون الاقتصادي مع المنطقة، المهمة بالنسبة إليها، بسبب مصادر الطاقة. ومن المؤكد أن الصين تعي أهمية "اتفاقيات أبراهام"، التي في إطارها تعزز إسرائيل تعاونها مع الدول الخليجية اقتصادياً. وهذه الصيغة مريحة للصين وإسرائيل لزيادة التعاون بتدخُّل خليجي.
- وفي المقابل، فإن الدولتين اتفقتا على ألا تتفقان في عدة قضايا سياسية. الصين من جانبها، فصلت ما بين هذه القضايا وبين النشاط الاقتصادي الخاص بها في إسرائيل، والثانية تجاهلت القضايا السياسية ضدها، وركزت على استنفاد الفرص الاقتصادية فقط. ولكن، حدث تغيير في العامين الماضيين: الصين رفعت حدة تصريحاتها في الموضوع الإسرائيلي - الفلسطيني، ويبدو أن إسرائيل غيّرت في سياستها التي تضمنت تجاهُل التصويت الصيني الإشكالي ضدها في الأمم المتحدة، وانضمت إلى الانتقادات الدولية لِما تقوم به الصين بحق الأقلية الإيغورية. هذا بالإضافة إلى أن إسرائيل بدأت بتفعيل منظومات الرقابة على النشاط الاقتصادي الأجنبي، وهو ما قامت به عدة دول لديها اقتصاد حر.
- على الرغم من النضج الإسرائيلي بخصوص التوقعات من الصين في المجال السياسي، فإنه يجب التذكير بأن الصين تمتلك أحد الاقتصادات الأكثر قوة في العالم، ولا مصلحة لإسرائيل في الانفصال عنها. صحيح أن المنافسة الآخذة بالازدياد ما بين الصين والولايات المتحدة عززت المعضلة الإسرائيلية بسبب الضغوط الأميركية على حلفائها لتقليل العلاقات مع الصين في كل ما يخص التكنولوجيا الحديثة. ولكن حتى في هذا الواقع الجديد، حيث الدعم الاستراتيجي الأميركي لإسرائيل أهم من الحسابات السياسية والأمنية الإسرائيلية، وللصين مصلحة اقتصادية وسياسية في توسيع علاقاتها مع دول الخليج، لا يزال لدى الدولتين هامش كبير يمكن توسيع التعاون فيه. فمجالات التجديد التكنولوجي لا تندرج جميعها تحت إطار التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين. والإدارة الأميركية نفسها توضح أنها تطلب التعاون الصيني أحياناً في مجالات تؤثر في مستقبل الإنسانية، كالتغيير المناخي وتلوث الهواء، والأمن الغذائي، ومخزون القمح العالمي وغيرها. في هذه المجالات، لدى إسرائيل والصين قدرات في البحث والتطوير والصناعة.
- موضوع العلاقات الصينية الإسرائيلية طُرح مؤخراً خلال زيارات المسؤولين الأميركيين، ومن ضمنهم وزير الخارجية، ورئيس الـCIA، ومستشار الرئيس للأمن القومي، ويبدو أنه سيكون على الحكومة الجديدة النظر في الأبعاد المختلفة لهذا الموضوع. الصين فيها احتمالات اقتصادية لكل اقتصاد متطور ويعتمد على التجدد، كالاقتصاد الإسرائيلي. وللدولتين مصلحة في تطوير علاقات اقتصادية فيما بينهما، وذلك من خلال محاولة خلق قواعد لعبة محدثة، تتلاءم مع مرحلة المنافسة بين القوى العظمى. على إسرائيل العمل على صوغ تعاوُن اقتصادي لا يضرّ بالعلاقات مع الولايات المتحدة، وفي المقابل، عليها الاستمرار في الاحتفاظ بحرية الرأي السياسي الذي يجيب بشكل موضوعي عن سياسة الصين ضد إسرائيل.
الكلمات المفتاحية