نهج إدارة الصراع مع الفلسطينيين من جانب إسرائيل بطريقة "جزّ العشب" يصل إلى نهايته، ومن الممكن أن يؤدي إلى انفجار عنيف واسع
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- لم تكن العملية التي حدثت في 4 أيلول/سبتمبر في الشارع رقم 90 مفاجِئة، لا من حيث كونها عملية إطلاق نار - حتى ولو كانت استثنائية من حيث التخطيط والنية بإشعال الباص والركاب، ولا من حيث التوقيت أو المنفّذين. كذلك الأمر بالنسبة إلى الردود المشجعة لـ"حماس"، والجهاد الإسلامي، وكتائب شهداء الأقصى، وأيضاً عدم الرد من السلطة الفلسطينية لم يكن مفاجئاً. هذه العملية كانت شجرة أُخرى تحترق في غابة "الإرهاب" التي تتوسع، وفصلاً جديداً في رواية المقاومة الفلسطينية التي تتشكل بروح الجهاد الإسلامي، وبالتعاون مع "حماس" وكتائب شهداء الأقصى التابعة لـ"فتح". وهذا كله، بدعم من إيران وحزب الله. وفي هذا الوقت، من المهم دراسة الغابة بشكل كامل، وعدم التركيز على واحدة من الأشجار.
- عملياً، إن العملية ضد الباص في الشارع رقم 90 هي جزء من اتجاه واضح بدأ منذ آذار/مارس 2022، إذ كانت الانطلاقة من عمليات داخل حدود دولة إسرائيل. منطقة جنين كانت بؤرة تصدير للعمليات، بعد فترة طويلة نجح خلالها الجهاد الإسلامي، وبتمويل من إيران وحزب الله، وبمساعدة نشطائهما في تهريب السلاح إلى الضفة الغربية، في التحول إلى التنظيم الأقوى والأكبر في المنطقة. التنظيم الذي يتم تشغيله على أنه "ذراع إيرانية"، متحرر من كافة الالتزامات تجاه المجتمع المحلي. هدف وجوده هو الالتزام بفكرة المقاومة المسلحة، وهو أداة مهمة لإيران، بهدف زعزعة الاستقرار في المنطقة، وفي الصراع ضد إسرائيل. أسس التنظيم شبكات تعاوُن مع "حماس"، ومع الحركات المسلحة التابعة لـ"فتح"، ويقود جهوداً مستمرة في تجنيد الأموال. و"حاضنة الإرهاب" التي تم تفعيلها من جنين بقيادة الجهاد الإسلامي، تحركت إلى منطقة نابلس بسبب الصعوبات التي تشكلها أجهزة الأمن الإسرائيلية التي عملت بكثافة في المنطقة، لكنها لم تقضِ عليها كلياً. والدليل أن منفّذي العملية جاؤوا من هناك. هذا بالإضافة إلى أن نشاط قوات الأمن الإسرائيلية في منطقة جنين أدى إلى ارتفاع ملحوظ في درجة الاحتكاك بالمجتمع المحلي، وفي حدة العنف خلال لقاء مجموعات مسلحة فلسطينية. النشاط الإسرائيلي، الذي يركز على عمليات محددة في إطار عمليات الاجتياح، يتم الرد عليها من النشطاء المسلحين في محاولة لتشويشها من خلال المواجهة والاشتباك. الحديث يدور حول مئات معدودة من النشطاء الذين يركزون جهودهم في مقابل قوات الجيش ويوثقون ما يحدث وينشرونه على شبكات التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من عدد المعتقلين الكبير، وارتفاع عدد الفلسطينيين الذين "قُتلوا" خلال هذه العمليات، فإن رواية المقاومة الفلسطينية تتعزز وتنتشر في الضفة الغربية، في الوقت الذي تتوسع حملات الاعتقالات وإحباط "الإرهاب" في هذه المناطق ذاتها.
- إلى جانب الجهود المستمرة للجهاد الإسلامي، تواصل "حماس" جهودها لتعظيم قوتها العسكرية في المنطقة من خلال صالح العاروري. من جانبها، تستمر كتائب شهداء الأقصى التابعة لـ"فتح"، بتمييز ذاتها من السلطة الفلسطينية وانضمامها إلى المواجهة المسلحة ضد قوات الجيش في الميدان، وبجهودها في تنفيذ عمليات. وفي إطار التعاون بين التنظيمات في منطقة جنين، تم تعميق التعاون بين الفصائل.
- إن الأزمة الاقتصادية بحد ذاتها ليست سبباً يفسّر الظاهرة، إنما يدور الحديث حول وعي يتسع بالصراع، تتم تغذيته بواسطة ارتفاع حدة الاشتباك العنيف مع الجيش، من الشعور بالنجاح، وبصورة خاصة من الفراغ السياسي بسبب غياب السلطة. فصورة السلطة ومكانتها تضررتا بشكل صعب في عيون المجتمع الفلسطيني، في إثر فشلها في الدفع قدماً بالرؤية القومية وطرح أفق سياسي. وبالأساس، يبدو هذا الفراغ واضحاً في تفضيل أجهزة أمن السلطة الامتناع من أعمال جدية ضد "الميليشيات" المسلحة. هذا باستثناء حالات خاصة من العمل ضد تنظيم "حماس" الذي يهدد، بحسب فهم قيادة السلطة، استقرارها ووجودها. هذه هي خلفية مشاركة نشطاء من الأجهزة الأمنية أو أولادهم في العمليات. إن حجم الظاهرة، حتى ولو كان لا يزال صغيراً، مقلق جداً، ويشير إلى صعوبة في تعامُل الأجهزة ضد هذه التنظيمات.
- في الظروف الحالية، لن يحدث أي تغيير في وضع السلطة الصعب. استمرار الجهود الأمنية الإسرائيلية لإحباط بنى "الإرهاب"، سيؤدي بالضرورة إلى ارتفاع إضافي في الاشتباك وعدد المصابين الفلسطينيين، وإسرائيل تقترب بخطوات كبيرة جداً من المعضلة الاستراتيجية: 1) الاختيار بين توجيه جهودها من جديد إلى مبادرة سياسية، تحضيراً للانفصال- حتى ولو كانت محدودة بعدم وجود أفق لاتفاق ثابت في المستقبل المنظور، لكنها تشير إلى اعتراف إسرائيلي بالسلطة الفلسطينية كشريكة في مسار اتفاق يساعد على تحسين حكمها والاقتصاد في مناطقها، ويشجع على تقويتها كبديل ممن يقود المقاومة المسلحة؛ 2) أو خطوة عسكرية واسعة، على نمط [حملة] "السور الواقي"، لإعدام بنية "الإرهاب" التي تتطور في شمال الضفة وتمتد إلى مركزها وجنوبها. في جميع الأحوال، على إسرائيل بذل جهود مستمرة وجدية أكثر لإحباط تهريب الأموال والأدوات القتالية، بقيادة إيران وحزب الله بالأساس، والتي تغذي هذه البنى.
- إن طريقة العمل المنفصلة التي تتبناها إسرائيل في الساحة الفلسطينية - احتواء في مقابل "حماس"، تشمل تسهيلات اقتصادية، وبين الحين والآخر نشهد رداً عسكرياً محدوداً، وفي المقابل، هناك ردود حادة ضد العمليات في الضفة- تشكل أرضاً خصبة لنمو سردية المقاومة الفلسطينية وتساعد، من دون قصد، في مسار إضعاف السلطة الفلسطينية. لذلك، يتم التعامل مع أجهزة الأمن الفلسطينية كمن يتعاون مع إسرائيل على حساب المصلحة القومية الفلسطينية. من جهة المسلحين الفلسطينيين، فإن ثمن الاشتباك مع إسرائيل بعنف ليس كبيراً جداً. ثمة أبطال فلسطينيون يولدون كل يوم والشعور بالقدرة ونجاعة الاشتباك المسلح تستوطن القلوب والوعي الجماعي للجيل الشاب، وتغذي الدافع إلى الانضمام إلى المواجهة. وفي المقابل، فإن نهج إدارة الصراع من جانب إسرائيل بطريقة "جزّ العشب" يصل إلى نهايته، ومن الممكن أن يؤدي إلى انفجار واسع عنيف، في الوقت الذي يشكل رداً على الأشجار المنفردة، وليس على الغابة – وهذا هو التحدي الاستراتيجي الحقيقي الماثل أمام إسرائيل.