"سياسة السلام الاقتصادي" يمكنها تحقيق هدوء نسبي، لكنها لا تشكل ضمانة للهدوء الأمني التام والمتواصل في الضفة الغربية
تاريخ المقال
المصدر
- لا شك في أن التوتر الآخذ بالتصاعد في يهودا والسامرة [الضفة الغربية] حالياً هو الأكثر حدة منذ "انتفاضة السكاكين" في سنة 2015. المعطيات تقول كل شيء: منذ بداية سنة 2022 حتى اليوم، وقعت في هذه المنطقة أحداث عنف تزيد بثلاثة أضعاف عما كانت عليه في السنة الماضية. هذه الموجة الحالية تقوم، في معظمها، على شبان يتصرفون بصورة ذاتية مستقلة، ومن دون أي انتماء تنظيمي واضح، وتتركز، أساساً، في عمليات إطلاق نار وصدامات عنيفة مع قوات الجيش الإسرائيلي.
- خلفية هذه الموجة تتشكل من خليط من ثلاث ظواهر أساسية: ضعف وتراخي السيطرة من جانب أجهزة السلطة الفلسطينية وقدرتها على فرض القوانين (وخصوصاً في "شمال السامرة")؛ جيل شاب لا يرتدع عن المواجهة، خلافاً للجيل السابق، ويبحث عن مسارات عنيفة للتعبير عن إحباطه؛ ازدياد النشاطات الهجومية التي ينفّذها الجيش الإسرائيلي، والتي توسع دائرة الاحتكاكات. على هذه الخلفية، ينشأ "أبطال" من طراز إبراهيم النابلسي، الذين تُغرق وصاياهم الرقمية الشبكة العنكبوتية، فيشكلون قدوة يحتذيها المزيد من الشبان.
- ينبغي لهذا التطور أن يثير القلق لدى إسرائيل، غير أنه يتعين النظر إليه وفهمه بمقاييسه الصحيحة. فالتوتر يتركز حتى الآن في منطقة "شمال السامرة"، وفي مدينتيْ جنين ونابلس على وجه التحديد، لكن "عدواه" لم تنتقل إلى مناطق أُخرى بعد. وعلاوة على هذا، لا يزال الواقع الراهن بعيداً عن سيناريوهات الحد الأقصى، المتمثلة في اندلاع انتفاضة ثالثة تجتذب قطاعات كبيرة وواسعة من الجمهور الفلسطيني (المتشبث، في أغلبيته الساحقة، بالحفاظ على نسيج حياته الحالي)، وفي اندلاع موجة إرهاب واسعة (على غرار تلك التي حدثت في شهر رمضان الأخير)، وفي مواجهة عنيفة شاملة مع السلطة الفلسطينية، أو تفكُّك الحكم الفلسطيني وانهياره.
- لذا، ثمة حاجة ماسة إلى تحرُّك سريع وحازم، لكنْ حذِر. حيال ازدياد تحديات "الإرهاب" في "شمال السامرة"، واتساع نشاط "حماس" و"الجهاد الإسلامي" في المنطقة، وعجز السلطة الفلسطينية عن ملء الفراغ الذي يتشكل، بحيث تكون إسرائيل مضطرة إلى النظر في إمكانية شن عملية واسعة النطاق، وربما في غضون وقت قريب. مثل هذا التحرك من شأنه أن يؤثر في مناطق الضفة الغربية الأُخرى، لكن من شأنه أيضاً أن يثير "المنظمات الإرهابية" في قطاع غزة بصورة خاصة وأساسية.
- في مثل هذا السيناريو، ينبغي لإسرائيل العمل في عدة مستويات وأبعاد، لكن بحذر أيضاً. فإلى جانب الإجراءات ضد "الإرهاب" في "شمال السامرة"، من الضروري الحرص على حفظ روتين الحياة الطبيعية في جميع المناطق الأُخرى من "يهودا والسامرة" (وبصورة خاصة ما يتعلق بخروج العمال منها إلى العمل في داخل إسرائيل)، والحفاظ على التنسيق مع السلطة الفلسطينية وإرسال إشارات حادة وحازمة، علنية وسرية على حد سواء، إلى حركة "حماس" بشأن أي رد فعل محتمل قد تُقدم عليه. ومن المهم أن لا تقبل إسرائيل مرة أُخرى بوضع شبيه بما حدث في عملية "مطلع الفجر"، حين تحركت للعمل ضد جهة "إرهابية" في قطاع غزة، بينما بقيت "حماس"، صاحبة السيطرة على المكان، في موقف المتفرج على المواجهات.
- من المؤكد أن لتوقيت مثل هذا التحرك وزناً كبيراً. فكلما جرت العملية قريباً من فترة الأعياد العبرية (القريبة)، أو خلالها، ازدادت قابلية الانفجار، وبصورة خاصة إزاء احتمال تصاعُد التوتر الاقتصادي في الفترة ذاتها بشأن "جبل الهيكل" [الحرم القدسي الشريف]، على خلفية التوافد اليهودي الواسع نسبياً إليه لتأدية الصلوات. مثل هذا التزامن بين عملية واسعة في "شمال السامرة" والتوتر في "جبل الهيكل"، من المؤكد أنه يضع، وخصوصاً قبل شهر من الانتخابات العامة، جملة من القضايا السياسية والأمنية والدينية المشحونة جداً في لحظة زمنية واحدة، ويحولها إلى حريق كبير وواسع.
- يطرأ هذا التصعيد في وقت تسعى إسرائيل للدفع قدماً بجهود مدنية واسعة ترمي إلى حفظ الهدوء بين الجمهور الفلسطيني وتعزيز مكانة السلطة الفلسطينية. ويعكس هذا التوتر حقيقة أن في مقدور "سياسة السلام الاقتصادي" تحقيق هدوء نسبي، لكنها لا تشكل ضمانة، لا للهدوء الأمني التام والمتواصل، ولا لتعزيز قوة ومكانة السلطة الفلسطينية. وقد كتب الكاتب الفلسطيني أكرم عطا الله في هذا السياق إن "القدر الذي يغلي" يدل على أن إسرائيل لن تستطيع ضمان الهدوء بالوسائل الاقتصادية لوقت طويل، ومن المؤكد أن هذا غير ممكن حيال الجيل الشاب الذي لم تتشبع ذاكرته الجماعية بمخاوف ناجمة عن صدمات، وبمعيقات في الوعي، خلافاً لجيل آبائه.
- إلى جانب هذا كله، تتجسد الآن مرة أُخرى الحاجة إلى وضع استراتيجيا طويلة المدى في السياق الفلسطيني، بما في ذلك في قطاع غزة، تستبدل السياسة المعتمَدة منذ ما يزيد عن عقد من الزمن، وتقوم أساساً على محاولة تحسين مستوى الحياة المدنية كوسيلة لضمان الهدوء، بدلاً من مناقشة القضايا الجوهرية التي يدور حولها الصراع، ثم اتخاذ قرارات حاسمة بشأنها. وقد أثبتت تجارب الماضي ـ في أعقاب الانتفاضتين، على سبيل المثال، أن للسلام الاقتصادي "تواريخ انتهاء صلاحية"، مفاجئة على الأغلب، تجد إسرائيل نفسها بعدها أمام الحاجة إلى بلورة استراتيجيا، لكن من موقع ضعف، ورداً على تطورات قد حدثت على أرض الواقع. يبقى فقط أن نتمنى أن تُبدي القيادة الإسرائيلية هذه المرة، وخصوصاً بعد الانتخابات القريبة، توجّهاً مغايراً يتمثل في أخذ زمام المبادرة وإثبات القدرة على التعلم والاستفادة من سوابق الماضي.