نهاية عصر الاضطرابات: خفض التوتّر الإقليمي وتداعياته
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- بدأت المحادثات لتحسين العلاقات بين دول مركزية في الشرق الأوسط منذ عدّة أعوام، ومؤخراً، بدأت هذه المحادثات تنضج لمستوى تفاهمات انعكست في البيانات بشأن تجديد العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران أساساً، وبالتدريج مع سورية أيضاً، وبين سورية وتونس، وبين قطر والدول التي تجاورها، بالإضافة إلى تقارب محسوب بين دول الخليج ومصر. والآن، يتم بحث عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، وذلك بعد الحرب الأهلية الدامية التي استمرت أكثر من عشرة أعوام. كما تم تسجيل تقدّم في المحادثات بين السعودية والحوثيين، الهدف منها وقف الحرب في اليمن.
- تُريد دول الإقليم وضع الخلافات في مختلف المناطق جانباً، واستخدام الحوار الآن كأداة لتحقيق أهدافهم القومية. تهدف العملية كما يبدو، إلى تقليل العدائية وتخفيف التوتّر، وذلك عبر تفضيل استعمال الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية على النزاعات والصراعات المسلّحة. ومن المهم التشديد على أن مسار المصالحة الإقليمي هذا ليس حالة صلح يعتمد على أساس أيديولوجي عميق أو ديني، بين الشيعة والسُنّة على سبيل المثال، إنما المقصود هو نوع من انفراج، أو خفض التوتّر الإقليمي[détente] نابع من مصالح باردة وحسابات الـ"ربح – خسارة"، والرغبة العميقة أساساً لدى الدول في تحسين مكانتها الاستراتيجية. وفي مركز هذه المسارات الدراماتيكية، تقف قضية تحسين العلاقات السياسية والاقتصادية داخل العالم العربي-السُنّي، وبين الدول العربية وغير العربية المركزية في المنطقة (كتركيا وإيران).
ما هي عوامل الانفراج الإقليمي؟
- تراجُع تأثير أميركا في المنطقة: إن تقليل الإصغاء الأميركي لمشكلات الحلفاء التقليديين الأمنية يدفع الدول المركزية بينهم إلى محاولة تحسين أوضاعهم ذاتياً. فالتحسّن في العلاقات بين دول الخليج وإيران، على سبيل المثال، هو جزء من عملية إدارة محسوبة للمخاطر لدى الدول الخليجية، وكذلك سماحهم للصين وروسيا بدخول المنطقة واللتان تطالبان بزيادة تأثيرهما على حساب الولايات المتحدة: فالصين هي عراب الاتفاق لتجديد العلاقات بين السعودية وإيران، وروسيا هي التي تتوسّط بين السعودية وسورية.
- التركيز على القضايا الداخلية: لدى الدول العربية مصلحة في تخفيف حدّة الصراعات الخارجية، من أجل التركيز على معالجة القضايا الداخلية المشتعلة. فالرغبة وسط الدول الفقيرة هي ترميم الوضع الاقتصادي، أمّا وسط الدول الغنية المنتجة للنفط، فيبدو أنها الدفع بمشاريع مهمة من أجل استقرارهم وازدهارهم على المدى البعيد.
- تعزيز مكانة إيران وتمركزها في المنطقة كدولة على "عتبة النووي": إن التهديد الإيراني يدفع دول الجوار إلى التقرّب منها بصورة محدودة، وذلك استناداً إلى مقولة "حافظ على أعدائك بالقرب منك"، وانطلاقاً من مبدأ الاعتراف بقوّتها الفائضة وقدرتها على بث الردع الخاص بها، وأيضاً من التفكير بأن محاولة وقفها بالأساليب الدبلوماسية قد استُنفدت، لذلك تريد هذه الدول الامتناع من تصعيد التوتّر معها. بعضهم-كدول الخليج أساساً-يتخوّفون من صدام ممكن بين إسرائيل وإيران، ويأملون عبر تحسين العلاقات مع إيران ابعاد أنفسهم بقدر الإمكان من مواجهة إقليمية عسكرية يمكن أن تلحق الضرر بهم.
- الوضع الداخلي الإسرائيلي: يعكس المسار الداخلي الذي يحدث في إسرائيل-بكلّ ما يتضمّنه من عدم استقرار’ اجتماعي–سياسي‘-حالة ضعف في عيون الأعداء وأصدقاء إسرائيل في المنطقة أيضاً، وهو تطوّر يجعلها أقل جاذبية للتعاون. ويُفسَّر التوتّر بين حكومة إسرائيل والإدارة الأميركية على أنه رسالة ضعف. هذه النظرة إلى إسرائيل في الوقت الحالي، التي تُضاف إليها سياسات الحكومة بشأن القضية الفلسطينية، تؤدي إلى برود معيّن في مسار التطبيع، وتفرض صعوبات على إسرائيل في محاولاتها ضم دول عربية إضافية (وإسلامية) إليه.
- يساهم خفض التوتّر في المنطقة ونهاية النزاعات الدامية في الاستقرار الإقليمي، لذلك، فهو بحد ذاته يتماشى مع المصلحة الإسرائيلية أيضاً؛ فالتحسّن في الوضع الأمني للسعودية وتعزيز قوّتها على سبيل المثال هو مصلحة إسرائيلية، فالدولتان لديهما رؤية متشابهة إزاء التحديات الاستراتيجية في المنطقة، حتى إنهما تتعاونان بصمت لسنوات طويلة. كما أن تجديد العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران لا يوقف بالضرورة التطبيع الزاحف مع إسرائيل. وفي تقدير مسؤولين في الإمارات، على سبيل المثال، أن الدبلوماسية الخليجية إزاء إيران لا تعرّض التطبيع للخطر. ومن الممكن التقدير أن السعودية ستستطيع الاستمرار في المحادثات بشأن التطبيع مع إسرائيل والولايات المتحدة، بعد تقليل التوتّر مع إيران وفي اليمن. هذا بالإضافة إلى أن التقارب في العلاقات بين إيران ودول الجوار هو تطوّر إيجابي إيراني على الصعيد الدبلوماسي والاقتصادي، لكنه لا يمنحها بالضرورة حرّية عمل أمني-عسكري أفضل، إنما على العكس؛ يبدو أن مسار التفاهمات يمكن أن يحدّ من خطوات إيران في المنطقة، كتفعيل أذرعها لإلحاق الضرر بدول الجوار على سبيل المثال، وذلك لأن التزامها الآن سيتركّز على حفظ العلاقات الجيّدة معهم.
- وهُنا، من المهم الإشارة إلى أن هُناك مسارات أُخرى تجري في الإقليم، بينها تراجع التأثير الأميركي، ومن الواضح أيضاً أن هناك أبعاداً إضافية للتقارب بين الدول العربية وإيران لا تتماشى مع المصلحة الإسرائيلية؛ فبسبب التقارب بين الدول العربية وإيران، سيكون من الصعب على إسرائيل أن تستغل الرواية القائلة إنه لا يوجد تعاون ومصالح مشتركة بينها وبين "المعسكر" العربي المعتدل فقط، بل أيضاً هناك اتفاق بشأن طرق العمل المشتركة ضد إيران. هذا بالإضافة إلى أن الواقع الجديد، الذي يتم في إطاره ترتيب العلاقات مع إيران على الرغم من أنها لم تتنازل عن "حقها الطبيعي" في السيطرة الكاملة على دائرة وقود نووي، وقبولها كدولة "شبه نووية"-تعيش على بُعد قرار من القنبلة-هو غير مسبوق وخطِر. من المعقول أن تطلب السعودية من الولايات المتحدة اعترافاً بحقها أيضاً في الحصول على قدرات نووية كشرط للتطبيع مع إسرائيل.
- ويمكن أن يؤدّي واقع أمني مستقر في المنطقة تحت مظلّة ردع نووي إيراني إلى الطلب من إسرائيل أن تقبل هذا الواقع الجديد، وألاّ تحاول تغييره: إيران لا تحصل على سلاح نووي، وإسرائيل لا تعمل ضدها. وكلّما كان تحسين العلاقات مع إيران قائماً على هذا الأساس، فإنه سيزداد الضغط على إسرائيل للتراجع عن التهديد بضرب إيران، وستتّسع الفجوة بين مواقف إسرائيل ودول الخليج. دول كثيرة، وعلى رأسها السعودية، يمكنها أن تغض النظر ما لم تتخط إيران العتبة، وما لم تمضِ قُدُماً في المسار النووي العسكري ذاته.
- يمكن أن يؤدّي التقارب "التكتيكي" بين الدول الخليجية وإيران إلى ضغوط من طرفها (إيران) على الدول الخليجية لمنعهم من التقرّب من إسرائيل. لقد عبّرت إيران علناً عن مُعارضتها لـ"اتفاقات أبراهام"، وتُحاول بث الخلافات بين دول الجوار العربية وإسرائيل. من جهتها تُدرك دول الخليج المخاطر، وتحاول المحافظة على علاقات جيّدة مع جميع الأطراف من أجل الحصول على الحد الأقصى من مصالحها وحفظ جميع الإمكانات مفتوحة. صحيح أنه من الممكن أن يلحق بعض الضرر بالبُعد العلني للعلاقات الإسرائيلية، إذ يمكن أن يكون لإيران منذ الآن أدوات ضغط سياسي أكبر على الدول، كما أن التفاهمات في اليمن يمكن أن تجعل الرياض تشعر بأمان أكثر، ولذلك ستكون حاجتها إلى إسرائيل أقل. وعلى الرغم من ذلك، فمن غير المتوقّع أن يلحق الضرر بالعلاقات الأمنية الصامتة مع إسرائيل، إذ لا تزال إيران التهديد المركزي على دول الخليج، وإسرائيل تُعد مهمة في هذا السياق أيضاً.
خلاصة
- ينبع مسار خفض التوتّر بين الدول السُنّيّة في المنطقة وإيران وتركيا أساساً من تفضيل المصلحة السياسية-الإقليمية على المصلحة العالمية والمصلحة الغربية. إن سياسة الولايات المتحدة تسمح بتدخّل متصاعد للصين، وكلّما ازداد هذا التدخّل، فإن منظومة العلاقات العالمية الصينية (استناداً إلى مبادرة الحزام الطريق ومُبادرة الاستقرار العالمي) ستربط بين اللاعبين الإقليميين.
- كان من الممكن لإسرائيل التي ارتبطت بـ"المعسكر" السُنّي المعتدل أن تجد ذاتها جزءاً من معسكر إقليمي جديد، إلاّ إن هذا الافتراض تزعزع الآن. يبدو أن العالم العربي يقبل، على الرغم منه، بترتيبات إقليمية جديدة، مركزُها التعايش مع إيران كدولة على عتبة النووي، وذلك على الرغم من أنه لا يرفض إسرائيل، ومن الواضح أن هذا تحوّل إشكالي بالنسبة إلى إسرائيل.
- لذلك، يتوجب على إسرائيل أن تبقى في الملعب (أن تستمر بتقوية العلاقات مع دول الخليج وأن تلتزم "اتفاقيات أبراهام" وتقوّيها). وكلما استعادت إسرائيل صورة الاستقرار الداخلي، فإنها ستبقى ضرورية أكثر للمنطقة. إن القبول بتسوية متفق عليها في موضوع التغييرات القضائية التي تدفع بها حكومة إسرائيل سيعزّز التماسك الداخلي والحصانة الاجتماعية في الدولة، وهو ما سيخفّف التوتّر بين الحكومة والإدارة الأميركية. وبعد ذلك مباشرة، يجب تجاهل إنجازات إيران الإقليمية والعمل مع الولايات المتحدة لتقوية "اتفاقات السلام" وتوسيعها مع دول الجوار وعلى رأسها السعودية.