يجب أن تكون لحملة "البيت والحديقة" في جنين عمليّات استكمال
تاريخ المقال
المصدر
- اجتمع الكبينيت الأمني والسياسي منذ يومين. لم يبحث الاستراتيجيا الواسعة في الساحة الفلسطينية، والهدف السياسي الذي تُريد دولة إسرائيل أن تصل إليه في المدى البعيد، كما لم يبحث دولة "حماس" في غزة – وربما فقط علاقتها مع الضفة. واستناداً إلى ما نُشر في الإعلام (المحدود بحكم السرّية)، يبدو أنّه بحث وضع السُلطة الفلسطينية، وفي نهاية الجلسة، تم اتخاذ القرار "بالعمل على منع انهيار السُلطة الفلسطينية".
- وللتذكير، فإن هذا الاجتماع قد جاء بعد عدّة أيام من حملة "بيت وحديقة" في جنين. وظاهرياً، تبدو النتيجة جيدة جداً بالنسبة إلى إسرائيل. وبقراءة أوسع وأعمق، فإن الحملة حقّقت إنجازات معينة، وكان لها حدود أيضاً، ومن المهم بحث هذه الأمور من أجل الاستفادة منها، والتأثير في الأمن القومي. وإذا ركزنا على هذا الجانب، فإن الحملة نجحت تكتيكياً وعمليّاتياً، الأمر الذي عزّز شعور الأمن لدى السكّان، لكنها بصورة أساسية نجحت في تقوية الثقة بالنفس لدى المستوى السياسي باتخاذ القرارات وبالقدرة على تفعيل الجيش في كُل مكان في الضفة. وعلى الرغم من ذلك، من أجل الاستفادة من كل دروس الحملة على المستوى الاستراتيجي وعلى مستوى الأمن القومي، سيكون من الصحيح تبنّي التوصيات السياسية التي سأذكر بعضها لاحقاً.
خلفية الحملة-جنين والسُلطة الفلسطينية
- صحيح أن حملة "بيت وحديقة" خرجت إلى حيّز التنفيذ خلال الأسبوع الماضي، لكنها كانت مطروحة على طاولة متخذي القرار منذ أشهر طويلة. منذ بداية سنة 2023، كان هُناك أكثر من 50 عمليّة إطلاق نار، و19 "مخرباً" هربوا إلى مُخيّم جنين بعد تنفيذهم عمليّات معينة. وعملياً، لم يتحوّل مخيّم جنين فقط إلى "ملجأ" للـ"مخربين"، بل أيضاً إلى مرتع يربّي ويدرّب ويُسلح "الشر" ويزوده بالمعرفة في مكان واحد.
- هذه ليست ظاهرة جديدة؛ فجنين، تاريخياً، كانت مركزاً لانعدام السيطرة النظامية، وهذا بسبب تركيبة السكّان فيها المختلفة عن العشائر الكبيرة التي يتشكل منها السكان ووجهاء المدن (كالخليل على سبيل المثال)، بالإضافة إلى مميزات ثقافية وتجارية متعددة فيها. كانت جنين رمزاً للمقاومة، وخصوصاً بعد حملة "السور الواقي"، التي تم فيها إلحاق الضرر بصورة كبيرة بمخيّم اللاجئين، ولقد خسر الجيش حينها 23 مقاتلاً. ولذلك، فقد امتنعت السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية من الدخول إلى المدينة ومُخيم اللاجئين والسيطرة عليهما. إن عدم قدرتها على السيطرة كان العامل المركزي الذي شجّع "الإرهاب" فيها -عدم احترام السلطة والاشمئزاز من فسادها وعدم اهتمامها بالبنى التحتية وأوضاع الحياة الصعبة، بالإضافة إلى عدم العمل ضد نشطاء "الإرهاب" الذين حصلوا على الدافع والتشجيع من مكانتهم في المجتمع الذي يتعامل معهم كأبطال، وأيضاً على الأموال التي تقوّيهم، والتي تأتيهم أساساً من إيران.
- هذا ملخّص صغير كخلفية للحملة. أمّا الصورة الأوسع، فتتعلّق بمكانة السُلطة المتزعزعة في جميع مناطق الضفة، وهذا عدا التذكير بسيطرة "حماس" على غزة سنة 2007، وهي صدمة لا تزال ترافق السُلطة حتّى يومنا هذا، ويرافقها تخوّف كبير من أن "حماس" تخطّط للقيام بذلك أيضاً في الضفة. من ينظر إلى الأمور من الخارج، يظهر له أن هناك "أشرار اً" على صورة "مخربين" مسلحين مختلفين (الجهاد الإسلامي و"حماس")، وهناك "الجيدون" وهم السُلطة التي تقف جانباً. القضية ليست أنهم لا يريدون وقف "الإرهاب" ومحاربة المسلّحين، لكنهم ببساطة لا يستطيعون.
- هذه هي مأساة إسرائيل؛ الصورة المضلّلة للسلطة الفلسطينية أقوى بكثير من الحقائق، ليس فقط أمام العالم والولايات المتحدة، بل أيضاً في إسرائيل، وداخل الحكومة أيضاً. ولإزالة الشك، تشغل السُلطة الفلسطينية في مقابل إسرائيل جبهة مكوّنة من 6 أبعاد: الأمني (من طريق المسلّحين كأذرع)، والسياسي من طريق خطوات عدائية أمام المجتمع الدولي ومؤسسات الأمم المتحدة، والبنى التحتية - البناء على عكس ما اتفق عليه في اتفاقات "أوسلو" ومحو التاريخ اليهودي الإسرائيلي، والقانوني عبر التوجّه إلى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي - ICC، والتوعوي عبر الدفع قدماً بمقاطعة إسرائيل وتشويه صورتها أمام العالم (BDS)، وختاماً في معركة داخلية إسرائيلية لربط "عرب إسرائيل" والهوية الفلسطينية بأدوات متعددة (حملة "الأقصى في خطر"، و"حارس الأسوار" وغيرها).
- المُقلق في هذا السياق هو التجاهل المطلق للحقائق من جانب المنظومة الأمنية والمستوى السياسي، وعدم القدرة على قبول الواقع المركّب الذي نعيش فيه. تقريباً، هذا سيناريو مشابه للمسار الذي حدث حول اتفاقات "أوسلو"، بكل ما تضمنه من مؤشرات بدءاً من عرفات والعمليات، وصولاً إلى القرار الذي كلّف كثيراً من الدم اليهودي لشن حملة "السور الواقي". إن عدم القدرة على بحث المنظومة بطريقة واقعية متعددة الأبعاد ومركّبة، يشوّش القدرة على الاستجابة والرد الصحيح.
"إنجازات" الحملة ومحدوديّتها
- إذن، ما الذي كان لدينا في الحملة؟ على الصعيد العسكري التكتيكي والمنظومة، فإن الجيش قام بالاقتحام في إطار حملة محدودة من ناحية الوقت والمنطقة والأهداف وحجم القوّات والأدوات. وجاء اقتحام مخيّم اللاجئين ضمن قوة تقدَّر بنحو ألف جندي كوماندو من أفضل جنود الجيش، بالإضافة إلى قوّات برّية وأدوات مساعدة (أدوات هندسية)، ومساعدة من الجو والاستخبارات أيضاً (وضمنها مقاتلون من الشاباك). عموماً، يمكن القول إنه كانت هناك حملة "استعراض" عسكرية-بمعنى أن مقولة "كُل الجيش خلفك" ملائمة جداً هُنا.
- الضبّاط والمقاتلون في الميدان عملوا ببطولة وشجاعة، واندفعوا نحو المواجهة بمبادرة من أجل الوصول إلى إنجازات ومنع إصابة الأبرياء. في الحملة، قُتل 12 "مخرباً"، واعتُقل نحو 300 مشتبه به (30 منهم لا يزال رهن الاعتقال)، وتم إلحاق الضرر ببيوت سرّية ومقرّات قيادة، وورش لصنع متفجّرات، بالإضافة إلى إتلاف أسلحة كثيرة وعبوات. هذه إنجازات جيّدة ومقدّرة، لكنها تتطلب بالضرورة دراسة واستخلاص العبر سريعاً من جانب الجيش. فإن قتْلَ 12 "مخرباً" فقط من مجموع عشرات ومئات "المخربين"، الذين هربوا (القبض عليهم أو قتلهم جميعاً هو إنجاز له تداعيات، لكن قتْل 12 فقط يتطلّب فحصاً داخلياً)، وهذه النتيجة تتطلّب تحقيقاً معمقاً.
- على الصعيد الاستراتيجي، فإن الحملة أساساً سمحت للمستوى السياسي بأن يعزز ثقته بنفسه في كل ما يخص تفعيل القوة العسكرية في شمال الضفة، التي فيها تحديات وتهديدات كثيرة آخذة في التصاعد، بالإضافة إلى القدرة على العمل بحرّية. أيضاً، فقد منح فسحة من الوقت لاتخاذ قرارات من دون أن نكون تحت نار العمليّات، والقدرة على التركيز في قضايا وطنية أُخرى، كان التركيز عليها يتشوّش بفعل العمليّات القاتلة التي سبقت الحملة. مرّت الحملة بهدوء نسبياً من حيث الردود الدولية والإقليمية، وهو شيء نسبي طبعاً، ولم تؤدِّ إلى ترابط بين الساحات المتعددة الممكنة، كغزّة والعرب في إسرائيل. هذا بالإضافة إلى أن الحملة يمكن أن تؤدي إلى تغيير معيّن ومحدود في قدرة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة على العودة والسيطرة النسبية على المنطقة نتيجة الضرر الذي لحق بالمسلحين...
ماذا سيحدث في اليوم التالي؟ توصيات سياسية للمستقبل
- كما كُتب؛ فالحملة كانت ذات أهداف محدودة، من دون رغبة في تغيير الواقع الأمني، أو مُعالجة مشكلات السلطة الفلسطينية. لكنها تستطيع تحسين عامل الأمان الشخصي لدى سكّان شمال الضفة، والضفة برمّتها أيضاً، ولو جزئياً من حيث الوقت والمنطقة. المسلحون في المدن الأُخرى (نابلس، طولكرم، أريحا والخليل) يفهمون الآن أنهم غير محصّنين -وهو ما يؤثر في طريقة عملهم. السُلطة الفلسطينية التي تعي مكانتها المتزعزعة في أواسط الجمهور العام، وخصوصاً بعد الضرر الذي لحق بقيادات السلطة التي وصلت إلى المخيّم، فهمت أهمية استعادة السيطرة الميدانية، وخصوصاً مع التخوّف العميق من سيطرة "حماس".
إذن، ما الذي يجب على إسرائيل القيام به؟
- عسكرياً: الاستمرار في عمليّات إحباط "المخرّبين" والبنى الآخذة في التطوّر في كُل مكان، وعدم انتظار نمو فروع جديدة وجذور-أي "جز العشب" عندما يبدأ النمو، و"الحرث العميق" أيضاً -في مناطق لا تكفي فيها العمليّات اليومية.
- استراتيجياً وسياسياً: نقاشات عميقة داخل "الكابينيت" في مجال القضية الفلسطينية -الضفة وغزة، والهدف السياسي بعيد المدى.
- التحضّر لـ"اليوم التالي" (يوم ما بعد أبو مازن): عملياً، نحن نعيش نهاية فترة حكمه، وسيكون من الصواب الاستعداد للأهداف السياسية وبالطريقة تحقيقها في اليوم التالي لأبو مازن.
- صوغ رد مبادر ونظامي للحرب متعدّدة الأبعاد التي تخوضها السلطة ضدنا.
- استغلال الوقت (القليل) في الفرصة بين الحملات والعمليّات للدفع قدماً بقوّة إسرائيل، وعلى رأسها توحيد الشعب وتماسكه، بالإضافة إلى تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، والدفع بالجاهزية العامة لمعركة متعددة الجبهات.
في دولة إسرائيل، ومع كتابة هذه السطور، نحن نتحرّك نحو التحدّي المشتعل القادم؛ التظاهرات والانقسام في المجتمع، والأزمة مع الولايات المتحدة، والتصعيد مع حزب الله، وإيران الموجودة هُناك في الخلفية مع أجهزتها للطرد المركزي التي لا تتوقّف عن الدوران.