السلطة الفلسطينية تلعب في ملعب التطبيع
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– "مباط عال"، العدد 1755
  • تسعى الإدارة الأميركية لتحقيق مبادرة إقليمية تتضمن تطبيعاً إسرائيلياً- سعودياً، أو "تكاملاً" كما يسميه السعوديون. حتى الآن، توجه اهتمام الرأي العام والإعلام في إسرائيل أساساً نحو المطالب السعودية من الولايات المتحدة في مقابل الاتفاق على التطبيع مع إسرائيل، والتي تضمنت حلفاً دفاعياً أميركياً - سعودياً، والسماح باستخدام وقود نووي سلمي في أراضي المملكة، وبيع سلاح أميركي متقدم لها. ويبدو أن هناك مكوناً آخر في المبادرة قيد البحث، هو "رزمة فلسطينية" أساسها إخراج النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني من النفق المسدود، وإحياء حل الدولتين.
  • حتى الآن، ليس واضحاً ماذا ستتضمن "الرزمة الفلسطينية"، وما هو وزنها ضمن الإطار الواسع للمبادرة. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو نفسه في تطرقه إلى مسألة التطبيع مع السعودية قلّل من أهمية الموضوع الفلسطيني بالنسبة إلى السعودية، وكذلك فعل مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى. لكن يبدو أن الموضوع الفلسطيني سيشغل حيزاً مركزياً في تسوية العلاقات بين إسرائيل والسعودية مقارنةً باتفاقات أبراهام، وذلك بسبب توقعات السعودية والولايات المتحدة من إسرائيل في الموضوع الفلسطيني والتزامهما حلَّ الدولتين.

موقف المملكة العربية السعودية

  • صحيح أنه طوال سنوات أظهرت السعودية اهتماماً محدوداً بالنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، وأبدت عزوفها عن معالجة هذه القضية ونفورها من سلوك الزعامات الفلسطينية، سواء زعامة السلطة الفلسطينية أو زعامة "حماس" في قطاع غزة. لكن الرياض تُظهر التزاماً أكبر بالقضية الفلسطينية مقارنةً بأبو ظبي، بسبب مكانة المملكة العربية السعودية كزعيمة للعالم الإسلامي السني، و"المدافعة عن الأماكن المقدسة"، وتطلعها نحو قيادة خطوات إقليمية. فالعائلة المالكة السعودية والملك سلمان نفسه (الأكثر إيماناً بفلسطين مقارنةً بابنه ولي العهد) مضطران إلى الاستماع إلى الأصوات الداخلية المعارضة لاتفاق تطبيع كـ"اتفاقات أبراهام" (نحو 80% من المواطنين السعوديين)، وإلى المؤسسة الدينية (على الرغم من تراجع صلاحياتها)، وأيضاً إلى مشاعر الشارع العربي عموماً.
  • وتجلى ذلك من خلال اشتراط السعودية الدفع قُدماً بحل سياسي للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني في مقابل التطبيع معها، وتمسُّكها رسمياً بتنفيذ هذا الحل على أساس المعايير التي طرحتها "مبادرة السلام العربية" [2002] التي تستند إلى المبادرة السعودية. وصرح المسؤولون السعوديون أنه بالنسبة إلى السعودية، تشكل هذه المبادرة أساساً للمفاوضات، وليست إملاءً. بناء على ذلك، من المنتظر أن تتوقع الرياض مقابلاً من جانب إسرائيل إزاء الفلسطينيين، يمكنه أن يشكل إنجازاً حقيقياً للدفع بحل الدولتين، ولو بصورة متدرجة. في الخطاب الذي ألقاه ولي العهد السعودي أمام مؤتمر الجامعة العربية الذي عُقد في الرياض في أيار/مايو 2023، شدد على أن "الموضوع الفلسطيني هو في رأس سلم أولويات المملكة اليوم"، مذكراً بالمبادرة العربية وبقرارات دولية أُخرى لها علاقة بالموضوع.
  • والصحيح حتى الآن أن المسؤولين السعوديين يتحدثون لغة مزدوجة. إن التبدل في صيغ الكلام وسط القيادة السعودية - ولي العهد ووالده الملك، أو وزير الخارجية فيصل بن فرحان، وبين تصريحات أُخرى في مناسبات مختلفة وأمام جماهير مختلفة - يدل على عدم وجود اتفاق في قيادة المملكة، وربما رغبة في المحافظة على الغموض وعلى مساحة من المناورة السياسية، وذلك من أجل السماح للملكة باتخاذ خطوات تكاملية محسوبة إزاء إسرائيل في ظل المطالبة بقيام دولة فلسطينية، مع المحافظة على قدر من المرونة كي لا تتحول المسألة الفلسطينية إلى عقبة في وجه تسوية مع إسرائيل، والحصول على المقابل من الولايات المتحدة.
  • منذ تشكيل الحكومة الحالية، وعلى خلفية التصعيد الأمني في الساحة الفلسطينية، وتوسيع المستوطنات والبؤر الاستيطانية غير القانونية، سُجل ارتفاع ملحوظ في حجم الإدانات وحدّتها من طرف السعودية إزاء سياسة الحكومة الإسرائيلية وتصريحات وزراء إسرائيليين، وخصوصاً إزاء زيارة الوزير بن غفير لحرم المسجد الأقصى. هذه التطورات هي دليل على رغبة المملكة في زيادة تدخلها في الموضوع، وفي الوقت عينه التلويح للحكومة الإسرائيلية أن حرّية تحرُّكها في الساحة الفلسطينية باتت محدودة. إن تعيين سفير سعودي غير مقيم مؤخراً في السلطة الفلسطينية وقنصلٍ عامٍ في القدس الشرقية وتحويل المال من جديد إلى مستشفيات القدس الشرقية، هي إشارات إضافية موجهة إلى إسرائيل وإلى الأردن والسلطة الفلسطينية، بأن السعودية تنوي زيادة تدخلها في الموضوع الفلسطيني، وربما في المسجد الأقصى. كما حاولت الرياض من وراء الكواليس تشجيع مصالحة/ وحدة بين السلطة الفلسطينية وحركة "فتح" من جهة و"حماس" من الجهة الأُخرى.

الموقف الفلسطيني

  • يبدو أن القيادة الفلسطينية، في السلطة الفلسطينية وفي منظمة التحرير، استخلصت الدروس من معارضتها الشديدة لـ"اتفاقات أبراهام"، وهي الآن مستعدة كي تلعب دوراً فعالاً في خطوات التطبيع الإسرائيلي - السعودي. لم تستفد السلطة بشيء من رفضها المشاركة في المبادرة الإقليمية التي جرى تحريكها وشكلت قاعدة لـ"اتفاقات أبراهام". ويوجد سبب آخر لسلوك الزعامة الفلسطينية غير الرافض للتطبيع؛ هو المكانة الكبيرة للسعودية إقليمياً وإسلامياً، فإن تطبيعاً بين السعودية وإسرائيل من دون مكون فلسطيني ملموس سيُضعف الموقف الفلسطيني أكثر، وسيهمش قضيته في جدول الأعمال الإقليمي. إن المشاركة في الاتصالات قبل تطبيع إسرائيلي- سعودي هو أيضاً سبيل للجم خطوات الحكومة الإسرائيلية التي تهدف إلى القضاء على خيار الدولتين. بالإضافة إلى هذا كله، فإن المشاركة في تحرك إقليمي واسع يمكن أن يدل على أهمية السلطة الفلسطينية التي تخسر شرعيتها، وأهمية نهج التسوية الذي تدعمه، في مواجهة تزايد شرعية خصوم السلطة وسط الفلسطينيين، ونهج "المقاومة"، وخصوصاً "حماس". وكدليل على هذا التغيير، التقى محمود عباس، في نهاية تموز/يوليو، الفصائل الفلسطينية في مصر في محاولة فاشلة للدفع قُدماً بالمصالحة والوحدة، وفي مطلع آب/أغسطس، التقى الملكَ عبد الله ملكَ الأردن، ومن بعده عُقدت قمة ثلاثية تنسيقية بين الملك عبد الله والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ومحمود عباس.
  • يدل استعداد السلطة الفلسطينية للعب في ملعب التطبيع على محاولتها انتهاز الفرصة لصوغ الموضوع الفلسطيني بصورة مستحدثة، وَوَضْعِهِ ضمن إطار اتفاق انتقالي/ موقت مع إسرائيل كسبيل إلى تسوية مستقبلية تعتمد على حل الدولتين. إذا تمت المشاركة في عملية التطبيع، ستمنح السلطة الفلسطينية القدرة على التأثير في صوغ العملية، وستحسن مكانتها داخلياً وخارجياً، وستزيد حصولها على مقابل والتزامات من إسرائيل ومن السعودية أيضاً.

الدلالات بالنسبة إلى إسرائيل

  • إن التطبيع مع السعودية سيحسّن بصورة بارزة مكانة إسرائيل الاستراتيجية والدولية والإقليمية، وينطوي على إمكانات وتعويضات متعددة الأبعاد بالنسبة إليها. ومع ذلك، فمن أجل الدفع قُدماً بالتطبيع، ستضطر الحكومة الإسرائيلية إلى الإعلان عن التزامها حلَّ الدولتين للنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني، ومبادىء المبادرة العربية، والامتناع من الضم من طرف واحد والمحافظة على بقاء السلطة الفلسطينية وعلى عملها. وإذا انتهت واستُنفذت عند ذلك المطالب من إسرائيل، فإن هذا سيعزز وجهة نظر اليمين الإسرائيلي القائلة إنه ليست هناك حاجة إلى تحقيق تسوية في الساحة الفلسطينية من أجل إقامة علاقات رسمية مع أغلبية العالم العربي، وفي إمكان إسرائيل عملياً (وليس رسمياً) الاستمرار في خطوات ضم الضفة الغربية، وليس هناك من يوقفها.
  • لكن يبدو أن المملكة العربية السعودية وإدارة بايدن لن يكتفيا بمستوى التصريحات، وبناء على ذلك، ومن أجل التطبيع، سيُطلب من إسرائيل "رزمة فلسطينية" تتضمن خطوات حقيقية، كتجميد توسيع المستوطنات، وإخلاء بؤر استيطانية غير قانونية ومناطق رعي في الضفة الغربية، ومنع دخول الجيش الإسرائيلي المنطقة "أ" الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية أو تقليصه وخفضه، وتعزيز السلطة الفلسطينية وتوسيع نطاق عملها، والمحافظة على الوضع القائم في حرم المسجد الأقصى، وخصوصاً منع صلاة اليهود في المكان. وسيُطلب من قيادة السلطة فرض سلطتها من جديد على شمال الضفة، وسحب الشكاوى التي تقدمت بها ضد إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية في لاهاي. وسيُطلب من إدارة بايدن تنفيذ تعهداتها السابقة إزاء الفلسطينيين - إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإعادة فتح القنصلية الأميركية لشؤون الفلسطينيين في القدس الشرقية. يبدو أن الدور السعودي في "الرزمة" سيكون مساعدة اقتصادية مهمة تنقذ السلطة الفلسطينية من الإفلاس، وتشجع مشاريع لترميم الاقتصاد والتزود بالطاقة والمياه وتحسين نوعية حياة الفلسطينيين.
  • سيكون من الصعب على الحكومة الإسرائيلية، بتركيبتها الحالية، تأمين المكونات التي تتضمنها "الرزمة الفلسطينية". ليس هذا فحسب، بل أيضاً من الممكن أن تصل المطالب من إسرائيل إلى حد نقل مناطق من المنطقة "ج"، الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية، إلى سيطرة السلطة الفلسطينية، وذلك كدليل على تغير توجهات الحكومة الإسرائيلية، أي تنفيذ خطوات "الضم الزاحف"، وإنشاء الأوضاع الملائمة لتسوية مستقبلية تعتمد على فكرة الدولتين.
  • يجب أن نرى في اتفاق التطبيع فرصة لإنقاذ إسرائيل (التي لم تنجح في إنقاذ نفسها) من المنحدر الخطر الذي تنزلق إليه نحو واقع الدولة الواحدة (الوضع الذي تعارضه أغلبية الإسرائيليين). لذلك، المطلوب الدفع باتفاق انتقالي مع السلطة يكون في أساسه نقل 15% حتى 35% من أراضي المنطقة "ج" إلى سيطرة السلطة، بالإضافة إلى تجميد البناء في المستوطنات الواقعة خارج الكتل الاستيطانية الكبرى وشرقي العائق الأمني، وإزالة البؤر غير القانونية.
  • من أجل تعزيز صورة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية وآمنة، يجب منع الانزلاق إلى واقع الدولة الواحدة عبر القيام بخطوات انفصال سياسي وجغرافي وديمغرافي عن الفلسطينيين. إن اتفاقاً ينقل مناطق إلى السيطرة الفلسطينية سيزيد ما ستحصل عليه إسرائيل في المقابل من السعودية، كما سيفتح الباب أمام اندماجها في المنطقة، لكن هذا لن يكون ممكناً إلاّ بتغيير تركيبة الحكومة الإسرائيلية.