إسرائيل والضفة الغربية: الاندماج المتسارع في الاقتصاد والبنى التحتية والسعي لتغيير الميزان الديموغرافي، يجعلاننا نقترب من واقع الدولة الواحدة
تاريخ المقال
المصدر
معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوي
من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
- منذ بداية ولاية الحكومة الحالية، امتازت سياستها بالغموض والتناقض إزاء الموضوع الفلسطيني. وفي هذا الإطار، يبرز التوتر بين أجندتين تتنافسان داخل الحكومة: من جهة، الاستراتيجيا التي يعمل حزب الليكود في ضوئها، وأساسها الاعتراف بضرورة السلطة الفلسطينية، وبالحاجة إلى تعزيزها، لكن في الوقت عينه، معارضة قيام دولة فلسطينية مستقلة؛ ومن جهة أُخرى- هناك وجهة نظر ممثلي الصهيونية الدينية، وعلى رأسهم الوزيران سموتريتش وبن غفير، اللذان يرغبان في إحداث تغيير راديكالي للواقع، وخصوصاً إضعاف السلطة، وإلى درجة اختفائها، إلى جانب تكثيف السكن في المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، كمرحلة على طريق البدء التدريجي بفرض السيادة الإسرائيلية على المنطقة.
- هاتان المقاربتان اصطدمتا أكثر من مرة، وخصوصاً عندما قررت الحكومة تقديم دعمها للسلطة، أو عندما أمرت بإخلاء بؤر استيطانية غير شرعية. ظاهرياً، يبدو أن السياسة المسيطرة هي التي ينتهجها رئيس الحكومة، والتي تعكس الرغبة في المحافظة على الوضع القائم، لكن عملياً، وجهة نظر ممثلي الصهيونية الدينية هي التي تتجلى بصورة أوسع، وتؤدي إلى تغيير صورة الواقع في الضفة الغربية، وإلى "انصهار" المنطقة بإسرائيل.
- في هذا الإطار، يبرز عدد من الخطوات: الموافقة على بناء 12.000 وحدة سكنية في الضفة الغربية (مقارنةً بـ4000 في سنة 2022)؛ تقصير مدة الحصول على الموافقة على تخطيط البناء في المنطقة (بفضل موقع الوزير سموتريتش كوزير في وزارة الدفاع، والمسؤول عن جزء من الإدارة المدنية)؛ شرعنة 10 بؤر استيطانية والتخطيط لتحويلها إلى مستوطنات؛ تخصيص ربع ميزانية وزارة المواصلات من أجل أعمال تطوير في الضفة الغربية؛ الدفع قدماً بخطط استراتيجية من أجل زيادة عدد المستوطنين اليهود في المنطقة، من نصف مليون اليوم إلى مليون؛ تعزيز الوجود الإسرائيلي في المنطقة ج (التي تشكل 60% من أراضي الضفة الغربية)؛ وتطبيق هدم البناء الفلسطيني غير القانوني في المنطقتين أ و ب.
- تصريحات سموتريتش العائدة إلى الأعوام الماضية تكشف أهدافه البعيدة المدى: محو الخط الأخضر بواسطة الدمج المدني وفي البنى التحتية للضفة في إسرائيل، والمساواة بين الوضعين المدني والقانوني للمستوطنين اليهود في الضفة وبين المواطنين الذين يعيشون على الجانب الآخر من الخط الأخضر. كل هذا مع الكلام العلني بشأن عدم "الحاجة" إلى وجود السلطة (التي يعتبرها عدواً لدوداً)، والتشكيك في وجود الشعب الفلسطيني، وتصريحات من نوع "القضاء على حوارة"، والتي تسببت بانتقادات دولية حادة لإسرائيل.
- وجهة نظر سموتريتش موجودة في وثيقة تحمل اسم "خطة الحسم"، وتعود إلى سنة 2017، والتي اقترح في إطارها على الفلسطينيين حكماً ذاتياً من دون حقوق سياسية أو قومية، ومن دون حدود، ومنحهم الإقامة مثل العرب في القدس الشرقية - مع امكانية الحصول على الجنسية مستقبلاً، إذا أعلنوا ولاءهم لدولة إسرائيل، ووافقوا على الخدمة في الجيش الإسرائيلي. وأوضح سموتريتش أن عدم منح حقوق ديمقراطية لجماعات كاملة، وفي طليعتها الحق في الاقتراع، ليس أبارتهايد، ولا يؤذي الطابع الديمقراطي للدولة. كما سخر في الوثيقة من أفكار، مثل الحكم الذاتي، أو "ميني - دولة"، اللتين طرحهما نتنياهو في الماضي، بحجة أنها مصطلحات تمثل موقف اليسار، وادّعى أن دول العالم غير مهتمة بالموضوع الفلسطيني، بل بمشكلاتها الداخلية، وهي ستوافق على السياسة التي اقترحها، إذا كانت مترافقة بدعاية ناجعة...وعرض 3 خيارات على الفلسطينيين: قبول سيطرة إسرائيل والاستعداد للعيش في ظلها، وبحسب شروطها، أو مغادرة البلد، أو النضال ضد اليهود.
- بكلام آخر، يسعى سموتريتش لتطبيق حلول من الكتب الدينية على الواقع الاستراتيجي الحالي المعقد، ويسعى لتحويل وصايا الشريعة اليهودية والمسيانية إلى اعتبارات لها علاقة بالواقعية السياسية المعاصرة. وفي هذا الإطار، تبرز حتمية الخلاص والإيمان بالإرادة الإلهية من جهة، ومن جهة أُخرى، عدم الاهتمام بأهمية مواقف المجتمع الدولي. على هذه الخلفية، لا يوجد نقاش عميق في إسرائيل، أو إجماع بشأن الواقع الذي تسعى الصهيونية الدينية لتحقيقه، ولا يوجد فهم لتداعيات وجهات النظر على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية.
- يوجد في المنظومة الفلسطينية اليوم ثلاثة مسارات أساسية تتضافر، أو تؤيد توجُّه انصهار الضفة الغربية في إسرائيل: ازدياد ضعف السلطة الفلسطينية التي ليس من المتوقع أن "تنهار"، بل أن تخمد بالتدريج، وجرّ إسرائيل إلى تحمُّل المسؤولية الكاملة في مراكز مختلفة من الضفة؛ التعاظم السريع في قوة "حماس" التي تزداد ثقتها بنفسها في مقابل ضُعف السلطة؛ اليأس المتزايد وسط الكثيرين من الفلسطينيين، وخصوصاً من الجيل الشاب، حيال تحقيق أهدافهم الوطنية، وإزاء سلوك زعاماتهم، الأمر الذي يدفع كثيرين منهم إلى البحث بإيجابية عن بديل من الدولة الواحدة.
- يضاف إلى هذا كله، سعي إسرائيل لتحسين الواقع الاقتصادي في الضفة. وهذا ناجم عن دوافع موضوعية للمحافظة على الاستقرار الأمني بواسطة تحسين مستوى حياة الفلسطينيين، وفي الواقع، هو يسرّع في دمج الضفة الغربية في إسرائيل. والمقصود عملية لم تنشأ جرّاء تصريحات دراماتيكية، أو خطة سياسية، بل تحت غطاء الحياة اليومية البيروقراطية: دمج البنى التحتية المدنية (المياه والكهرباء والاتصالات والمواصلات، وغيرها)، استيعاب السوق الإسرائيلية لسوق العمل الفلسطينية (يعمل في إسرائيل اليوم نحو 200 ألف عامل فلسطيني، يشكلون ربع اليد العاملة الفلسطينية في الضفة)، زيادة اعتماد السلطة على إسرائيل اقتصادياً، والذي يتجسد في الحصة الكبرى من استعادة الضرائب في ميزانية للسلطة (نحو 65%). وهكذا، من تحت الرادار، ومن دون الإعلان، أو إرادة جماعية، نشأ واقع الدولة الواحدة بالتدريج.
- تصادف يوم 13 أيلول/سبتمبر الذكرى الـ30 لتوقيع اتفاقيات أوسلو. يتعين على إسرائيل استغلال هذا التاريخ الرمزي لخوض نقاش عام ومؤثر في المسألة الفلسطينية. وهي مسألة وجودية لا تقل أهمية عن المسألة القضائية التي استقطبت اهتمام إسرائيل في السنة الأخيرة، وربما تفوقها أهمية. ضمن هذا الإطار، يجب التخلي عن النماذج المتحجرة، والاعتراف بأن إسرائيل هي اليوم أمام خيارين: هناك من جهة، واقع الدولة الواحدة التي يجب عليها أن تحدد ما إذا كان المقصود كياناً يشمل وضعين منفصلين للمواطنين (أبارتهايد)، أو دولة لكل مواطنيها؛ أو السعي للانفصال مادياً بواسطة اتفاق مع الفلسطينيين (وهو احتمال ضئيل في الظروف الحالية)، أو بصورة أحادية الجانب، وهو سيناريو معقول، ويترافق مع تحديات سياسية داخلية قاسية.
- الخيار هو بين السيئ والأسوأ. الانفصال، حتى الأحادي الجانب، لا يضمن هدوءاً أمنياً، لكنه سيمنع واقعاً مشحوناً وعنيفاً على النمط البلقاني، يهدد قدرة إسرائيل على المحافظة على هدفها المركزي ورؤيتها الصهيونية، وقدرتها على الحفاظ على الدولة اليهودية الديمقراطية.