اختبار إيران ونظرية "وحدة الساحات"
المصدر
قناة N12

موقع إخباري يومي يضم، إلى جانب الأخبار، تعليقات يكتبها عدد من المحللين من الشخصيات الأمنية السابقة، ومن المعلّقين المعروفين.

المؤلف
  • الحرب الدائرة في غزة تمثّل اختباراً أولياً ومهماً لمدى التعاون بين مكونات "جبهة المقاومة" التي تقودها إيران. هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها اختبار مدى التعاضد بين مكونات الجبهة. إلاّ إن الأحداث المتصاعدة على حدود إسرائيل في عيد الفصح سنة 2023، وفي مقدمتها التوتر الحاصل في حرم المسجد الأقصى، وتفعيل "حماس" لساحات غزة ولبنان ومرتفعات الجولان، قد استغلتها إيران ووكلاؤها بصورة جيدة كفرصة لترويج مفهوم "وحدة الساحات"، وتحسين توازُن الردع في مواجهة إسرائيل. ومع ذلك، فإن الحرب الدائرة في غزة تفرض، للمرة الأولى، تهديداً مهماً لأحد المكونات الرئيسية لـ"جبهة المقاومة"، وبناءً عليه، فإنها تمثل أيضاً اختباراً كبيراً وأولياً لقدرة هذه الجبهة على ردع إسرائيل بواسطة مفهوم وحدة الساحات.
  • لكي نقيّم مدى تأثير استمرار الحرب في سلوك مكونات "جبهة المقاومة"، وعلى رأسها إيران، علينا أولاً، أن نجري مراجعة للسمات البارزة لشبكة الوكلاء التي تشغّلها إيران في المنطقة. هذه الشبكة تمثل أداة رئيسية في يد إيران، من أجل ردع أعدائها، وتوسيع نطاق سيطرتها، وتعاظُمها، خارج حدودها:
  1. هذه الشبكة ليست تراتبية وهرمية، تقودها إيران بصورة مباشرة، بل هي شبكة فضفاضة من مكونات ترتبط ببعضها البعض، عبر نسيج من المصالح المشتركة، إلى جانب رؤية أيديولوجية مشتركة. وعلاوةً على ذلك، وعلى مدار السنوات الماضية، وخصوصاً منذ اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، في كانون الثاني/يناير 2020، تدير إيران هذه الشبكة بصورة لا مركزية أكثر من ذي قبل. صحيح أنها تواصل الحفاظ على قدر كبير من التأثير عبر هذه الشبكة، إلا إنها لا تقوم بذلك، بالضرورة، من خلال السيطرة التامة والثابتة على جميع مكونات الجبهة.
  2. تعمل هذه الشبكة، غالباً، استناداً إلى المصالح المتداخلة، والرؤية المشتركة المستندة إلى مقاومة كلٍّ من إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما في الإقليم. ومع ذلك، من المحتمل، في حالات معينة، حدوث تصادُم بين مصالح إيران وبين مصالح التنظيمات التي تدعمها. حتى حزب الله، الذي يُعتبر التنظيم الأكثر التزاماً بالجمهورية الإسلامية، أحياناً، يجد نفسه مضطراً إلى الحسم بين هويته كتنظيم شيعي يتماهى مع الثورة الإسلامية، ويساند إيران، ويتلقى الدعم منها، وبين كونه تنظيماً لبنانياً شيعياً وطنياً، يسعى لتخصيص الموارد من أجل إحكام سيطرته على الدولة، والحصول على شرعية كبيرة في الدولة المنقسمة على نفسها. وينطبق الأمر أيضاً بصورة أكبر على "حماس"، التي عبّرت، خلال سنوات طويلة، عن موقف أكثر استقلاليةً والتزاماً تجاه العالم العربي السّني، في الحرب الأهلية السورية، على سبيل المثال.
  3. هذه الشبكة غير قائمة على المساواة، وهناك اختلافات بين مكوناتها، سواء من ناحية قدراتها العسكرية، أو من ناحية التزام إيران تجاه هذه المكونات. ما من شك في أن إيران تنظر إلى حزب الله، بصفته ذراعها الاستراتيجية المفضلة، والتي تخدمها في معركتها ضد إسرائيل، وتخدم مصالحها الإقليمية. وبناءً على ذلك، فقد لعبت إيران دوراً رئيسياً في إعادة بناء البنى التحتية العسكرية التابعة للتنظيم بعد حرب لبنان الثانية، ويشمل ذلك الصواريخ الدقيقة الإصابة، التي تهدد البنى التحتية العسكرية والمدنية في إسرائيل، والتي يمكن استخدامها، بناءً على اعتبارات استراتيجية إيرانية.
  • إن سلوك إيران في الأسابيع والأشهر المقبلة، سيتأثر بصورة كبيرة بسِمات هذه الشبكة التي نسجتها إيران، بالتعاون مع التنظيمات والميليشيات التي تعمل تحت ظل الحرس الثوري، وبدعم منه. وعلى الرغم من أن إيران بادرت، طوال السنوات الماضية، إلى سلسلة من النشاطات الهجومية المباشرة في الإقليم، على سبيل المثال، الهجمة ضد مرافق النفط السعودية في أيلول/ سبتمبر 2019، فإنها لا تزال تفضل استخدام المنظمات الوكيلة من أجل تعزيز مصالحها. إذاً، يمكننا الافتراض أن إيران ستمتنع من العمل المباشر في مواجهة إسرائيل، عن طريق إطلاق صواريخ من أراضيها في اتجاه إسرائيل مثلاً، وستواصل الاستناد إلى وكلائها، كما فعلت حتى الآن. وبناءً عليه، فإن السؤال الرئيسي هنا: إلى أي مدى، ستكون إيران مستعدة لإدخال مجمل مكونات "جبهة المقاومة" في مواجهة شاملة ومتعددة الجبهات مع إسرائيل، ما دامت الحرب في غزة مستمرة ومتصاعدة؟
  • طوال أعوام، كان الاعتقاد السائد في إسرائيل أن إيران ليس لديها مصلحة في تعريض حزب الله للخطر من أجل عيون الفلسطينيين، ذلك بأنها ترى في حليفها اللبناني أداة استراتيجية لمواجهة أيّ هجمات إسرائيلية محتملة على مرافقها النووية. وبحسب هذا التصور، فإن المنطق الذي يقف خلف قرار تزويد حزب الله بعشرات الآلاف من الصواريخ المتطورة، وتحويل التنظيم إلى جهة فاعلة هائلة القوة، هو قرار مرتبط برغبتها في استخدام التنظيم لردع إسرائيل، والرد في حال قامت إسرائيل بأيّ تحرُّك مُعادٍ ضدها. وعلى الرغم من الحذر الزائد المطلوب، وخصوصاً في هذه الأيام، فيما يتعلق بتقديراتنا تجاه نيات أعدائنا، فإن تصريحات شخصيات كبيرة في النظام في طهران، وتحليل السلوك الإيراني حتى الآن، يعززان التقديرات السائدة، ظاهرياً. صحيح أن إيران صعّدت رسائلها التهديدية لإسرائيل، لكن يبدو أنها لا تزال تتحفظ عن فتح جبهة حزب الله بصورة شاملة في مواجهة إسرائيل، إذ إن فتح هذه الجبهة قد يكلف التنظيم ثمناً باهظاً، وربما يكلف إيران نفسها أثماناً باهظة، وقد يؤدي إلى تدخُّل عسكري أميركي في المعركة. تشير تصريحات شخصيات إيرانية نافذة إلى أن إيران لا ترى أن إقحام حزب الله في معركة شاملة ضد إسرائيل هو الخيار الوحيد والفوري، وأن من شأنها النظر في القيام بنشاطات ضد إسرائيل، بواسطة ميليشيات شيعية مؤيدة لإيران في كلٍّ من العراق وسورية واليمن، كما بدا واضحاً في محاولة الحوثيين اليمنيين إطلاق الصواريخ في اتجاه إسرائيل.
  • ومع ذلك، فإن مدى صحة التقييم المتعلق بنيات إيران، سيظل موضع اختبار على امتداد أيام الحرب في غزة، وخصوصاً في حال تحقيق نجاحات عسكرية إسرائيلية تهدد بقاء "حماس"، أو قدرة الحركة على الاحتفاظ بسيطرتها على القطاع بصورة ناجعة. وحتى في هذه المرحلة، يبدو أن إيران تقوم باحتساب خطواتها بحذر، فاستعدادها للمخاطرة، قد يكون أكبر من ذي قبل، بسبب عدة عوامل أساسية. أولاً: قد تنظر إيران إلى الحرب في غزة على أنها فرصة لا تتكرر لتحقيق الرؤية الثورية المتمثلة في القضاء على إسرائيل. ما زال العداء الإيراني الأيديولوجي لإسرائيل يمثّل حتى اليوم أحد أسس السياسة الخارجية الإيرانية، ولا يزال هذا العداء يشكل مكوناً مهماً من رؤية النظام. وعلى الرغم من أن الحديث هنا يدور حول رؤية أيديولوجية ثورية، لا حول "برنامج عمل"، فإن الضربة التي تلقتها إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، قد يتم تفسيرها في إيران بأنها فرصة لإضعاف إسرائيل بصورة هائلة، على طريق تحقيق رؤيتها الثورية.
  • علاوةً على ما تقدّم، فإن الحرب في غزة قد تؤثر، ليس فقط في توازُن القوى بين إسرائيل و"حماس" في غزة، بل أيضاً في توازُن القوى المستقبلي في الشرق الأوسط بين "جبهة المقاومة" التي تقودها إيران، وبين ائتلاف القوى الدولية والإقليمية المعتدلة. في هذه المرحلة، يمكن لإيران أن تكون راضية عن إنجازات "حماس"، وأن تعتبرها تعبيراً إضافياً عن ضعف إسرائيل، وقوة "جبهة المقاومة". يُبرز الناطقون باسم إيران التقارير المتعلقة بتجميد الاتصالات الهادفة إلى التطبيع بين السعودية وإسرائيل، على أنها شاهد إضافي على نجاح الجهود الهادفة لإحباط هذه الخطوة. ومع ذلك، فإن الإيرانيين يدركون أيضاً أن انتصاراً إسرائيلياً محتملاً، وتركيع "حماس"، قد يؤديان إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط، وخلق واقع سياسي جديد، يزعزع مكانة إيران الإقليمية. في مثل هذا الواقع، من شأن إيران أن تقدّر أن امتناعها من الانخراط الكامل لقدرات "جبهة المقاومة" في الحرب، سيتيح لإسرائيل مواصلة تركيز جهودها الحربية ضد "حماس" في غزة، والإضرار بالسردية الإيرانية المتمثلة في "وحدة الساحات: وإظهار ضعفها أمام كلٍّ من حلفائها وخصومها في الإقليم.
  • وقد يكون للتطورات في البرنامج النووي الإيراني، في السنوات الماضية، تأثير في استعداد إيران لتصعيد تدخُّلها في المواجهة. فالتقدم الهائل في البرنامج النووي، واستقراره الفعلي على عتبة قدرة التصنيع النووي العسكري الفعلي، من دون أن يؤدي الأمر إلى استجابة عسكرية من جانب إسرائيل، أو الولايات المتحدة، من شأنه أن يعزز التقديرات في إيران أن فرص الهجوم العسكري ضد مرافقها النووية في هذه المرحلة ليست كبيرة، إلا في حال قررت إيران التقدم إلى الأمام في اتجاه صناعة السلاح النووي. وبناءً عليه، فإن طهران تقدّر أن استخدامها حزب الله ليس "تبديداً" لقدرات مخصصة للسيناريو المتمثل في شن هجمة إسرائيلية ضد إيران، بل كأداة ضرورية من أجل الدفع قدماً بأهدافها الاستراتيجية الفورية، في لحظة انفتاح نافذة فرصة تاريخية، هناك شك في أن تتكرر في الوقت القريب. وعلى الرغم من أننا نسمع في إسرائيل أصواتاً داعية إلى استغلال الحرب من أجل القضاء على التهديد النووي الإيراني، فمن المشكوك فيه ما إذا كانت هذه الأصوات تؤخذ بجدية أكثر من اللازم في إيران، وخصوصاً لأنه من الواضح أن إسرائيل غير معنية بتصعيد إضافي، حتى لو اقتصر ذلك على الحدود الشمالية.
  • فضلاً عن المذكور أعلاه، فإن عملية صُنع القرارات في إيران مجتمعة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، في أيدي النخب التي تتميز بتوجهات أكثر تطرفاً وهجوميةً من الماضي. وعلى الرغم من أن المرشد الأعلى الإيراني هو صاحب الكلمة الأخيرة في عمليات اتخاذ القرارات، فإن تركيبة الشبكة التنفيذية والمجلس الأعلى للأمن القومي، الذي يخدم الهيئة الرائدة في ترسيم سياسات الأمن القومي الإيراني، لها تأثير كبير في الاستراتيجيا الإيرانية. لقد أدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران سنة 2021، والتغييرات المتصاعدة في القيادة الإيرانية في السنوات الماضية، إلى سيطرة نخب ذات معتقدات أكثر راديكالية، بمن فيهم الرئيس ووزير الخارجية وسكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي، على دوائر صنع القرار في إيران. كما أن الحرس الثوري يلعب اليوم دوراً أكثر مركزيةً في ترسيم الاستراتيجيا الإيرانية، ويتبنى الحرس في كثير من الأوقات توجهات هجومية وقومية، وأكثر تحدياً تجاه الغرب وإسرائيل.
  • في الخلاصة، يمكن التقدير أن إيران في هذه الأيام تُجري تقديرات شاملة للوضع، وليس من الواضح ما إذا ما كانت قد قررت كيف ستتصرف في مراحل الحرب المقبلة. إن المعضلة التي تقف إيران أمامها ليست سهلة. فمن جانب، هناك الخشية من التضحية بقدراتها الاستراتيجية المتمثلة في حزب الله، والمخاطرة بخوض مواجهة مع الولايات المتحدة، ومن ناحية أُخرى، هناك خشية من انهيار "حماس"، وتغيير موازين القوى الإقليمية في غير مصلحة إيران، أو "جبهة المقاومة". في هذه المرحلة أيضاً، يبدو أن إيران غير معنية بتصعيد القتال إلى حد يبلغ مرحلة المواجهة الشاملة والمتعددة الجبهات ضد إسرائيل، وعلى إسرائيل أن تأخذ في اعتبارها الاحتمالات القائلة إن تقديرات واعتبارات طهران قد تتغير بمرور الوقت، وقد تقوم إيران بالمخاطرة التي يمكن أن تؤدي إلى اشتعال مواجهة إقليمية غير مقصودة.