نتنياهو أجبر إسرائيل على الدفاع عن صورتها في الماضي، وها هو الآن يجبرها على الدفاع عن حياتها
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • خلال حرب الاستقلال [1948]، جاء الكاتب والصحافي أرثر كستلر في ساعات الليل لزيارة دافيد بن غوريون. "إنه يكتب كتاباً عن الحرب الإسرائيلية وتأسيس الدولة،" حسبما كتب بن غوريون في مذكراته، وأضاف "إنه يريد التعرف إلى موقعنا الحقيقي بين الشرق والغرب... هل نحن أوفياء للديمقراطية الغربية؟ لقد قلت له... أنا مع الديمقراطية اليهودية، فالديمقراطية ’الغربية‘ غير كافية. إن حقيقة كوني يهودياً، ليست مجرد حقيقة بيولوجية، بل هي أيضاً حقيقة أخلاقية، قِيَمية. نحمل في جوهرنا محتوى يهودياً خاصاً. يجب أن يسير العالم على هَديه.  إن قيم الحياة وحرية الإنسان متأصلة لدينا بعمق، بحسب تباشير الأنبياء، وهي أعمق مما هو موجود في الديمقراطية الغربية.. إنني أرغب في أن يكون مستقبلنا مرتكزاً إلى الأخلاق النبوية ("خلق الإنسان على صورة الله"، و"أحب لجارك كما تحب لنفسك").
  • في الأسبوع الذي وصف بنيامين نتنياهو هذه الأيام الفظيعة بأنها "حرب الاستقلال الإسرائيلية الثانية"، تبدو إسرائيل التي صممها بعيدة جداً عن رؤية الأب المؤسس الطموحة. إن طلقة بداية حملة التدمير انطلقت قبل سبعة أعوام، حين أصبح رئيس الحكومة مشتبهاً فيه، وبدأ بالسعي للانتقام من أجهزة إنفاذ القانون، وتقويض أساساتها. وواصل دربه هذه بتأليف الحكومة الحالية، التي تُدار كما تُدار منظمات الإجرام. لقد سعى أعضاء الائتلاف الحكومي الـ 64، جميعهم، لهدف واحد: تجميع القوة في يد سلطة واحدة، بحيث يمكنهم القيام بما يحلو لهم من دون إزعاج. لم يأبه هؤلاء حتى بإخفاء الأمر، كما تشهد إجراءاتهم التي اتخذوها على مدار الأشهر الماضية: محاولات الاستيلاء على الشركات الحكومية؛ التعيينات بالجملة للأصدقاء والمقربين، الذين سيحملون في أعناقهم ديوناً لأعضاء الحكومة، عندما يحين موعد الانتخابات الداخلية؛ النهب الممنهج للمال العام من أجل تغطية الحاجات السياسية الضيقة؛ التنكيل بالإعلام الحر؛ السعي الدؤوب والمنظم لتهشيم العمود الفقري لنظام الخدمات العامة والجهاز القضائي. لقد خرق هؤلاء قوانين اللعبة المتفق عليها كلها، والتي تجمع الأفراد المختلفين في بوتقة مجتمع واحد، ولم يكن هناك مَن يقف في وجه هؤلاء.
  • في عهد نتنياهو، تم استبدال "حراس التخوم" [اللقب الذي يُطلق على أصحاب المناصب العامة، الذين تكمن مهمتهم في حماية النزاهة] لتحل محلهم شخصيات باهتة تسمح لنهج الحكومة بمواصلة انتشاره. على سبيل المثال، لدينا مفوض الخدمة المدنية دانيئيل هيرشكوفيتس، الذي ساعد على الاستيلاء العدائي على مؤسسات الخدمة العامة. وكان هناك آخرون فرّوا من مواقعهم، خوفاً من السلطة والآلة التحريضية المسمومة التي تحركها هذه السلطة. لقد شاهد هؤلاء بأم العين كيف تم كبح ترقية ضباط شرطة كانوا يتولون ملفات التحقيق في تهم الفساد الموجهة إلى نتنياهو، كما كانوا شاهدين على التهديدات التي تلقاها وكلاء النيابة العامة المترافعين في الشأن. أما النائب العام للدولة، العاجز، عميت إيسمان، ورؤساء قسم التحقيقات في الشرطة، فقد أهملوا تماماً مكافحة الفساد السلطوي...
  • ثمن الانفلات لا يتجسّد في النتائج المروعة المترتبة على المذبحة فحسب، بل يظهر أيضاً في الإخفاق المستمر في معالجة موضوع المهجّرين من بلدات "غلاف غزة" ومصالحهم التجارية التي تنهار. "لقد أدت هذه الحرب إلى جعل كل العفن يطفو على السطح،" حسبما قال أحد قدامى المسؤولين، بأسى شديد. "المحسوبيات، الفوضى، التهرب من المسؤولية". في هذا السياق، علمت "هآرتس" بأن ديوان نتنياهو توجّه خلال الأسابيع الماضية إلى سكرتاريا الحكومة، طالباً منها الحصول على وثائق مصنفة بأنها سرية، من مداولات المجلس الوزاري المصغّر في حكومات سابقة. ويبدو أن ديوان نتنياهو بدأ، منذ الآن، بالتخطيط من أجل خوض معركة لكسب الرأي العام، بعد انتهاء الحرب.
  • إن الفساد المؤسساتي، ليس سوى وجه واحد من وجوه الضرر الهائل الذي لحِق بنا في هذا البلد، طوال سنوات حُكم نتنياهو الطويلة، فهناك أمور أشد خطورة: لقد روّج رئيس الوزراء، بنجاح منقطع النظير، طوال السنوات الماضية، فكرة إمكان إدارة النزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى الأبد، بدلاً من محاولة حله، والتوصل إلى معاهدات سلام من دون الاضطرار إلى دفع ثمن، في ظل تجاهُل أهم المشاكل. لقد استخفّ نتنياهو بنبوءة الغضب التي أطلقها إيهود باراك وآخرون، إذ إنهم حذّروا من أن تكريس الركود وتقديسه، سيدفعان إسرائيل إلى الاصطدام بالجدار، واصفاً هذه النبوءات، بسخريته المعهودة، بأنها "وسواس قهري". لقد انهار مذهب نتنياهو صبيحة السابع من تشرين الأول/أكتوبر. "أوضحت ’حماس’ للعالم العربي، بالذات في الوقت الذي كادت إسرائيل تتوصل إلى تطبيع مع المملكة العربية السعودية، أن الأمر لن ينجح من دون الفلسطينيين،" بحسب قول شخصية شغلت مناصب رفيعة في الماضي لـ"هآرتس"، "إن هذا التنظيم الذي عزّزه نتنياهو وقام بتدليله، كافأه بقسوة فتاكة، وما فعله التنظيم في صبيحة السابع من تشرين، يشعل الآن خيال مئات الملايين من المسلمين."
  • في يوم واحد فقط، تمت تعرية إسرائيل من رداء السيلوفان الرقيق، الذي يُصدر ضجيج "القوة الإقليمية العظمى". وما تكشّف عنه غطاء السيلوفان هذا، كان دولة بقاؤها غير مضمون، وتقف في مواجهة عالم منعزل عنها، حتى بعد الأحداث المرعبة. من المتوقع أن يتعاظم هذا الاغتراب طالما استمرت الحرب. "بهذه الوتيرة، لن يمكنك تقريباً أن تجرؤ على التحدث بالعبرية في شوارع بلاد العالم،" بحسب تحذير أحد رجال القانون المتخصصين في القانون الدولي. "في هذه الحرب، يسقط مدنيون أكثر مما يسقطون في أي حرب أُخرى، والساعة الرملية التي تمثل شرعية إسرائيل، باتت تنقلب الآن. إن تقويض ’حماس’ هو هدف شرعي، لكن يجب تحقيقه بذكاء. سلوك الحكومة يسرّع المعارضة ضدها. يقوم وزير مجنون بإغلاق أنبوب المياه الرئيسي الداخل إلى غزة. هل رأيت وزيراً أميركياً يغلق أنابيب المياه المتوجهة إلى الفالوجة؟ فالأميركيون أنفسهم، قد ينفد صبرهم. سيتعمق عزل إسرائيل بعد الحرب، هذا مؤكد."
  • تسود التقديرات حتى صفوف الحلقة المقربة المحيطة بنتنياهو، أن الأمر قد انتهى. والسؤال الآن هو ما إذا كان الانهيار سيبدأ من الداخل. قال وزير الدفاع يوآف غالانت لأحد الوزراء جملة تبعث على تجمّد الدم: "إن الهدف من وراء هذه الحرب، كما صرّح، هي "أن نخلق في غزة مشهداً غير تقليدي، بوسائل تقليدية." وقد ترسخ لدى مَن تحدّث معه انطباع أن نتنياهو إذا حال بين غالانت وبين تحقيق صورة النصر هذه، وحال دون انهيار "حماس"، فإن غالانت سيترك مفاتيح المكتب، ويتّهم رب عمله بعدم القدرة على الحسم، وهي خطوة من شأنها أن تؤدي إلى انهيارات سياسية داخلية. يمكن أن تؤدي ظاهرة الدومينو أيضاً إلى اختراع منصب هو "منصب المسؤول عن الكارثة"، ياريف ليفين. فمن تحدثوا مع وزير القضاء في الأيام الأولى للحرب، خرجوا بانطباع مفاده أنه يفكر في الاستقالة بصورة جدية. وبتوجيه أصابع الاتهام إليه، والإدراك أن الانقلاب القضائي قد انتهى، دفعاه إلى الاستنتاج أنه لا جدوى من البقاء في المنصب.
  • ينبغي لنا أن نتناول هذه السيناريوهات، وأن نضع نصب أعيننا عبارة تحذيرية: ففي ضوء بؤس قادة الليكود، في أيام الجنون التي سبقت الحرب، ليس من المستبعد أن يتشبّثوا بزعيمهم، حتى بعد الحرب. إذ لا يزال جزء منهم يجرؤ على توجيه أصابع الاتهام، ولو في الجلسات المغلقة، في اتجاه "الاحتجاجات"، و"رافضي الخدمة العسكرية". وعندما ينقشع غبار المعركة، فإن هذا الخطاب السام قد يعود ليطفو على السطح في العلن مجدداً. "إن غرائز البقاء ستكون هي أول ما يستيقظ لدى أولئك الذين يكتفون اليوم بوجيه تهديداتهم بالقيام بأمر ما،" حسبما قدّر هذا الأسبوع أحد المقربين من نتنياهو.
  • ومهما يكن من أمر، من المشكوك فيه ما إذا كان الغضب الشعبي سيسمح لنتنياهو وشركائه بالتشبث بمقاعدهم. يستعد قادة الاحتجاجات ضد الحكومة، منذ الآن، لمحاصرة منازل الوزراء وأعضاء الائتلاف الحكومي، ومبنى الكنيست وديوان رئاسة الوزراء، ومساكن الرفاهية المتزايدة للمسؤولين. هذا العصيان المتوقع، يشغل بال المسؤول عن إدارة شؤون الحرب، حتى في هذه الأيام. "نتنياهو لا يقول إنه يتحمل المسؤولية عمّا حدث لأنه يدرك أن معارضيه سيهاجمونه لحظة قيامه بذلك، مطالبين إياه بالاستقالة،" حسبما فسّر هذا الأسبوع أحد المقربين من نتنياهو، هذا التنصل المستمر من السؤال الملحّ والقابل للانفجار. ويقول أحد المطّلعين داخل الحركة الاحتجاجية إن عليها تغيير وجهها، استعداداً للهجوم: "يُحظر على الحركة الاحتجاجية أن تقبل تصنيفها ضمن الوسوم القديمة، فلا ’إخوة سلاح‘ ولا ’رايات سوداء‘، ولا التغني بشعار ’انصرف‘ [الشعار الرئيسي لمعارضي نتنياهو]، بل توجّه نحو تبنّي شعار يطالب بإقصاء نتنياهو اليوم. الشخصيات التي تقود الاحتجاجات يجب أن تكون من أبناء أسر القتلى، وسكان "غلاف غزة" الذين ذاقوا الأمرّين. هؤلاء يملكون الصلاحية الأخلاقية للمطالبة بتنحية نتنياهو، وهؤلاء هم الذين ستنضم الجماهير إليهم."
  • على الرغم من كل ما تقدّم، وحتى لو قام نتنياهو بإخلاء المسرح بعد صراع مرهق، فإن إسرائيل لن تتحول إلى جنّة فجأة. فالإرث الذي تركه نتنياهو خلفه، هو إرث كارثي، ولا يتوفر الآن زعيم شجاع قادر على تحويل مسار السفينة بحدّة، ومواجهة صراع قومي دامٍ، وعالم ينقسم بين اللامبالاة تجاه إسرائيل، أو معاداتها، واقتصاد مأزوم، ومجتمع مدني مفتت ومنقسم، وكاهانية منفلتة. لن يموت نهج نتنياهو وتيّاره فور رحيل المعلم الأكبر، نتنياهو. فالطوائف لا تنهار بضربة واحدة. إن الطاقات التي أوصلت حكومة الرعب إلى الحكم، لن تتبخر فور نزول الستارة على المشهد، ومن المقبول الافتراض أن دائرة النزيف الدموي لن تنتهي أيضاً.

....

 

المزيد ضمن العدد