نتنياهو هو آخر مَن سيتمكن من القيام بنزع الراديكالية عن قطاع غزة
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • "بعد الحرب، يجب نزع سلاح قطاع غزة، وبعدها يجب نزع الراديكالية عن سكانها، تماماً كما جرى مع النازيين في ألمانيا، وإلّا فما هو الغرض من تدمير حركة حماس؟" هكذا أوضح، هذا الأسبوع، بنيامين نتنياهو النظرية كلها، باختزال وعجالة شديدَين، في مقابلة أجرتها معه قناة التلفزة الألمانية اليمينية "وولت". لا يقوم نتنياهو بالتوضيح لماذا يسعى لنزع سلاح قطاع غزة وحدها، من دون أن يضيف الضفة الغربية إليها، وبصورة أساسية، لم يوضح أيضاً كيف سيقوم بنزع سلاح قطاع غزة، في حين أنه غير قادر على نزع السلاح حتى في إسرائيل، من أيدي عصابات القتَلة.
  • لكن القسم الأكثر إثارة من رؤية نتنياهو كامن، بالذات، في فكرة "نزع الراديكالية" من السكان. الصحيح أن نتنياهو بارع بالذات في فهم كيف يمكنه "ردكلة" السكان، فهو خبير ذو سمعة عالمية في هذا الشأن، أما بشأن نزع الراديكالية، في المقابل، فقد يمثل الأمر، بالنسبة إليه، تجربة مثيرة للاهتمام. لكن إلى أن يتمكن من دراسة المواد اللازمة لفعل ذلك، ففي إمكانه أن يستند إلى خبرة زعماء لديهم خبرة في هذا الاختصاص.
  • لديكم، مثلاً، الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، الذي سعى لتبرير حربه ضد العراق بعدة أعذار، من ضمنها ضرورة "إقامة نظام جديد في العراق، يُعتبر مثالاً دراماتيكياً وموحياً بشأن الحرية، لدول أُخرى في الشرق الأوسط". بل إن الإدارة الأميركية خصصت نحو 100 مليون دولار لتسويق قيم الديمقراطية والليبرالية في الدول الإسلامية. أما في داخل العراق نفسه، فقد عُمد إلى إطلاق عملية تطهير تهدف إلى إقصاء ناشطي حزب البعث، حزب صدام، عن جميع المناصب، فتم إقصاء الموظفين، والقضاة، والضباط، والجنود، والمعلمين، والمحاضرين الجامعيين، وكل مَن كان يتقلد منصباً في النظام العراقي، عن وظائفهم، لكن الإدارة المدنية الأميركية واجهت مصاعب في العثور على بدائل من هؤلاء.
  • كان على العراق البدء من الصفر، وفي موازاة ذلك، نمت الراديكالية وازدهرت. لقد عثر تنظيم القاعدة في البلد المحتل على تربة خصبة لنشاطه، وكذلك الحركات الشيعية الراديكالية التي حلّت محل السّنة الذين تم فصلهم من وظائفهم في الحكومة، وقاموا بترويج أجندات مناهضة للولايات المتحدة، صحيح أن الديمقراطية أنتجت حكومات جديدة في العراق، لكن هذه الحكومات حولت العراق إلى محمية إيرانية، حيث تعمل على أراضيه ميليشيات مسلحة تعمل ضد الولايات المتحدة.
  • في آب/أغسطس الماضي فقط، أي بعد حوالي 20 عاماً على إسقاط نظام صدام، قررت الحكومة العراقية إدراج دورات أكاديمية إلزامية في الجامعات، تتعلق بجرائم حزب البعث ونظام صدام. أما بخصوص الردكلة السياسية التي نمت في العراق، فلا توجد حتى الآن مساقات إلزامية، وذلك لعدة أسباب، من ضمنها أن ما ينظر إليه الغرب بصفته أفكاراً سياسية راديكالية، على غرار الأفكار التي يعتنقها الزعيم الشيعي الانفصالي مقتدى الصدر، تُعتبر في العراق أفكاراً وطنية لائقة.
  • لم يكتفِ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بإقصاء جماعة الإخوان المسلمين عن السلطة، عندما قام بإسقاط محمد مرسي في تموز/يوليو 2013، الرئيس الذي تم انتخابه في العملية الانتخابية الحرة الأولى في مصر، منذ نحو عقدين. ومنذ انتخاب السيسي للرئاسة في سنة 2014، وهو يروّج فكرة "الخطاب الديني الجديد"، الذي يهدف، بحسب تعريف السيسي، إلى محاربة الراديكالية الدينية والأفكار المتطرفة للحركات الإسلامية.
  • في مؤتمر الشباب العالمي، الذي عُقد في أيلول/سبتمبر 2019، أوضح السيسي أن تفسير بعض النصوص القرآنية تشوبه النزعة المحافظة، ولم يتطور على مدار أكثر من 800 عام، وهو ما يؤدي، بحسب رأيه، إلى نشر الأفكار المتطرفة والعنف الديني. ومن أجل اجتثاث الراديكالية الدينية، فإن السيسي بحاجة إلى أئمة ووعّاظ في المساجد، يتم تزويدهم برخص مميزة تُصدرها الحكومة، من أجل تكييف محتوى المواعظ، بحيث تتسق مع المحتوى الذي ترغب فيه الهيئة الحكومية المسؤولة، إلى جانب الإلزام بتسجيل جميع المساجد " الخاصة"، التي تم إنشاؤها بالآلاف في الأحياء والمنازل المشتركة، في وزارة الأوقاف المصرية.
  • ظاهرياً، كان من المفترض أن مثل هذه الوسائل يمنح السيسي سيطرة كاملة على ما يجري في المساجد، إلى جانب سيطرته على الجهاز التربوي. لكن السيسي، الذي يشن حرب اجتثاث، لا هوادة فيها، ضد الإخوان المسلمين، بات يدرك أن نزع الراديكالية الدينية عن المؤسسات، لا تضمن بزوغ خطاب ديني جديد، وليبرالي، وتقدمي، كما أنه لا يضمن، على وجه الخصوص، الولاء للنظام، أو القضاء على الإرهاب المستند إلى اللادين. لقد تم تفسير ذلك "الخطاب الجديد" بأنه جهد يبذله النظام من أجل السيطرة على الدين أيضاً، ومن أجل فرض تفسير النظام للدين، من أجل ترسيخ شرعية النظام في أوساط المجاميع. وبشكل عام، عندما نرى نظاماً نرى فيمن يدعون إلى الديمقراطية "جهات راديكالية خطِرة" يجب القضاء عليها، فجأة يقوم بالتمسح بمسوح الليبرالية، فسنجد أن حتى مَن يعارض الأفكار الراديكالية بصورة جذرية، لن يمكنه الاتفاق مع ادعاءات مثل هذا النظام.
  • الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يخوض "حرباً وجودية قومية" ضد الحركات والمنظمات التي تعارضه، تحت غطاء الحرب على الإرهاب والراديكالية الطائفية التي تهدد وحدة أراضي الدولة. إن حربه ضد حزب العمال الكردستاني، الذي تم تعريفه بأنه تنظيم إرهابي، تشبه حرب السيسي ضد جماعة الإخوان المسلمين التي تُعرّف هي أيضاً بأنها حرب ضد الإرهاب. لكن، مقارنةً بالسيسي، قام أردوغان بتطوير حربه هذه إلى حرب تبدو أنها موجهة ضد الأقلية الكردية بأسرها، لا ضد حزب العمال الكردستاني وحده. لم يتم فقط الزج بساسة أكراد في السجون، من ضمنهم أعضاء في البرلمان، بل أيضاً تم توجيه الهجمة إلى مؤيدي هؤلاء من صحافيين وأدباء وفنانين، يدعمون النضال من أجل المساواة في الحقوق، ومن أجل تمثيل سياسي لائق، إذ يجد هؤلاء أنفسهم أمام المحاكم، وبعضهم في السجون أيضاً.
  • هذا ما يقوم به أردوغان أيضاً منذ سنة 2010، ضد الحركة التابعة للداعية الديني فتح الله غولن، التي تعرَّف بأنها تنظيم "إرهابي"، على الرغم من أنها كانت حليفة لأردوغان على مدار سنوات عديدة. بعد محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في سنة 2016، التي يتهم أردوغان غولن بالتخطيط لها والمبادرة إليها، تمت المباشرة في حملة اصطياد لم تتوقف حتى الآن. وكما هي الحال في العراق، الذي سعى لتطهير صفوف نظامه من أعضاء حزب البعث، وكما هي حال مصر التي تبذل جهداً فائقاً في القضاء على جماعة الإخوان، فإن أردوغان طرد آلاف "المشبوهين" من وظائفهم، ومن ضمن هؤلاء قضاة، ومحاضرون جامعيون، وصحافيون، وموظفون في المؤسسات العامة، وطبعاً، جنود وضباط.
  • يسعى نتنياهو للانضمام إلى هذه الحملة المحبطة، بل الباعثة على اليأس أحياناً، التي يقودها زعماء كلٍّ من مصر، والعراق، وتركيا، ضد من يعرّفونهم بأنهم راديكاليون دينيون، أو قوميون، أو مزيج من العاملَين معاً. إلا إن هناك فارقاً شاسعاً بين سعي هؤلاء الزعماء، وبين مَن مثّل الرؤيا التافهة لبوش، والخيال الخصب لنتنياهو. فكلٌّ من بوش ونتنياهو عملا على تغذية الراديكالية المحلية، ووفّرا لها الشرعية، بفضل وجود جنودهما كقوات احتلال.
  • إن القوات الخارجية، وخاصة تلك التي تُعتبر عدواً وطنياً، لا تستطيع القضاء على التطرف الذي يغذيه النضال الوطني. هنا أيضاً يكمن الفشل في محاولة المقارنة بين "تنظيم الدولة" وحركة "حماس"، على الرغم من صحة المقارنة بين الفظائع التي ارتكبها التنظيم وتلك التي ارتكبها أعضاء الحركة. إن "تنظيم الدولة"، الذي لم يتم القضاء عليه بعد، كان يطمح إلى إقامة دولة شريعة إسلامية، وفقاً لتفسيره المتطرف، في جميع الأراضي العربية والإسلامية وخارجها. وهو بهذا، لم يهدد الأنظمة المحلية ومواطني دول الإقليم فحسب، بل شكّل تهديداً أيضاً للدول غير الإسلامية.
  • أما حركة "حماس"، في المقابل، فهي تتباهى بخوضها نضالاً وطنياً محلياً موجهاً ضد المحتل. صحيح أن الحركة، نظرياً، حالها في ذلك حال جماعة الإخوان المسلمين وتنظيم "القاعدة"، والزعماء الروحيين ل، "تنظيم الدولة"، تتبنى حلم نهاية العالم، الذي سيشهد إقامة دولة إسلامية واحدة لا تمزقها حدود قومية، على أكبر مساحة ممكنة. لكن شرعية نضال حركة "حماس"، بعكس "تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة"، مستمدة من الأساس القومي للمعركة ضد الاحتلال. إنها لا تقوم بتجنيد مؤيديها في الدعوة إلى الحرب ضد الغرب بأسره، أو ضد الكفار. إن "وحدة الساحات" لحركات المقاومة، في نظر حركة "حماس"، هي الوسيلة المناسبة للنضال ضد الاحتلال الصهيوني، لا من أجل إقامة ائتلاف ضد أعداء الإسلام.
  • يحاول نتنياهو، في المقابلة التي أشرنا إليها في بداية المقال مع قناة وولت، إظهار التهديد الحمساوي بأنه يهدف إلى "قيادة الشرق الأوسط، ثم العالم كله، وإعادته إلى عهد البربرية، والقرون المظلمة في العصور الوسطى. وسيكون التالي دوركم أنتم، في ألمانيا وأوروبا". هذا تهويل مرعب لتهديد يستوجب، بحسب نتنياهو، تجنداً دولياً، لأنه تهديد عالمي. إن مثل هذا التوصيف للتهديد يحجب السبب المباشر للنضال الوطني الفلسطيني، ويوفّر لأفعال "حماس" الفظيعة، سياقاً ما فوق قومي، منفصل، ظاهرياً، عمّا يحدث على الساحة الإسرائيلية - الفلسطينية.
  • ربما كان من الممكن أن تكون أطروحة نتنياهو مقنعة، لو أنه تعامل بصورة جادة مع الحركات الوطنية الفلسطينية الساعية لإقامة دولة مستقلة، وبالذات مع السلطة الفلسطينية، التي يصفها بأنها سلطة "إرهابية". إن الاعتراف بالمطامح الوطنية الفلسطينية، كما فعل في خطابه في جامعة بار إيلان [بضغط من إدارة أوباما، آنذاك] سيكون كافياً لتوفير الركيزة المثلى له، التي يمكنه من خلالها التمييز بين حركة "حماس"، كتنظيم راديكالي، أفعاله لا علاقة لها بالسياق المحلي، وبين حركة ومؤسسة فلسطينية شرعية، على غرار السلطة الفلسطينية، التي تعمل باسم مصلحة وطنية محلية تستوجب التفاوض معها. وعندما يتحدث نتنياهو عن "نزع الراديكالية عن قطاع غزة"، فهو لا يوضح مَن الذي سيقوم بهذه العملية. هل ستسيطر إسرائيل على قطاع غزة، إلى أن تقوم باقتلاع أي ذِكر، ليس فقط لسلاح وجنود يحيى السنوار، بل أيضاً لجذور الأيديولوجية الحمساوية، بحسب النموذج الفاشل الذي اقترحه بوش في العراق؟ أم أنه ربما يتوقع أن تقوم هيئة فلسطينية أُخرى بالشروع في حملة إعادة تربية الفلسطينيين في قطاع غزة، بتوجيه ورقابة إسرائيليَين؟ مهما يكن من أمر، لن يتمكن نتنياهو بكل تأكيد من إقناع زملائه في النضال ضد الراديكالية في بلادهم هم، على غرار أردوغان والسيسي، أن نضاله مشابه لنضالهما.