"الجيش يحقق" وفي هذه الأثناء، يتم تجاهُل التقارير الحية
تاريخ المقال
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- يقوم الجيش بالتحقيق في ادعاء، مفاده أن الجنود الإسرائيليين قتلوا رجالاً غير مسلحين أمام أنظار أبناء عائلاتهم. هذا ما أجاب به الناطق بلسان الجيش، رداً على سؤال وجّهته إليه صحيفة "هآرتس" فيما يتعلق بسيطرة قوة عسكرية إسرائيلية على أحد المباني السكنية في مدينة غزة، مساء الثلاثاء الموافق فيه 19 كانون الأول/ديسمبر.
- وصلت أولى المعلومات بهذا الشأن إلى منصة X (تويتر سابقاً) يوم الثلاثاء، قبل منتصف الليل، على هيئة نداءات صوتية مسجلة ويائسة تدعو إلى إنقاذ جرحى. في اليوم التالي، أضيفت تغريدات أُخرى، وبعدها أضافت مواقع الأخبار بضعة تفاصيل، بالاستناد إلى تقارير صادرة عن أبناء عائلات، وشهادة سيدتين. ظهر التقرير الأساسي في موقع منظمة المرصد الأورو-متوسطي لحقوق الإنسان، ويتضمن أسماء 11 رجلاً قُتلوا. في حين أشارت تقارير أُخرى إلى 13 اسماً و15 قتيلاً، أعمارهم تقارب الثلاثين عاماً. ومع ذلك، لقد شهدت إحدى النساء أن والدها قُتل بالرصاص أيضاً، إلى جانب زوجها وإخوتها.
- بعد أن قام الجنود بإطلاق النار على الرجال، بحسب الشهادات، تم تجميع النساء والأطفال، ويبلغ عددهم 27 شخصاً، في غرفة واحدة، وتم إطلاق شيء ما في اتجاههم، ثم انفجر. أشارت الشهادات إلى "قذيفة"، وتمت ترجمة الشهادة في أحد التقارير، إلى أنه تم إلقاء قنبلة يدوية وإطلاق رصاص حيّ. أصيب عدد من النساء، وطفلة رضيعة، وطفلان يبلغان من العمر ستة أعوام بجروح، بحسب التقارير. في مبنى العودة الذي تعرّض للهجوم، تقطن عائلة عنان، إلى جانب ثلاث عائلات تم تهجيرها من منازلها، وتربطها صلة قرابة بالعائلة القاطنة في البناية، هذه العائلات هي العشي، والغلاييني، والشرفا.
- كثير من التفاصيل ناقص، أو غير مفصّل بصورة كافية، ولم يتم طرح كثير من الأسئلة، ربما يعود ذلك إلى الصعوبات الموضوعية في الميدان: انتشار الجنود في المنطقة، وحظر الوصول إلى المكان، وانعدام القدرة على التواصل مع الشهود بصورة مستمرة. في حين أصدرت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة بياناً تحذيرياً بشأن "المعلومات المقلقة"، موضحةً أنه تم التحقق من مقتل الرجال، لكن ظروف الحادثة تتطلب التحقق.
- عادةً ما نقوم نحن، الذين نغطي أخبار الحياة في ظل منظومة الاحتلال في "الأيام العادية"، بالتحقق أولاً من التقرير بصورة مستقلة، والاستناد إلى التحقيقات المهنية لمنظمات حقوق الإنسان. لكن هناك عدة أسباب لتجاوُز هذا الإجراء العادي، وسأقوم بذكر أسبابي المبدئية:
- إلى أن نتمكن، هذا إذا تمكنّا فعلاً، من إجراء فحص خاص بنا، سيمرّ كثير من الوقت، ومن المنطقي أن نفترض أن عدد التحقيقات المستقلة سيكون ضئيلاً. في هذه الأثناء، تواصل القنوات التلفزيونية العربية عرض صور جثامين موزعة بين أكوام الخراب، والجثث المرمية بجانب المستشفيات في شمال القطاع، وعلى جوانب الطرقات، إن عدم الإتيان على ذكر هذه التقارير والمشاهد الميدانية، مهما تكن جزئية، وعاجلة، ومرعبة، يمثل تعاوناً مع الشعار الدعائي الكاذب الذي يطلقه الناطق بلسان الجيش، ومفاده أن "الجيش ملتزم أوامر فتح النار، والقانون الدولي، ويتخذ وسائل الحذر من أجل تقليص الأذى اللاحق بغير الضالعين في القتال".
- إن ردّ الناطق بلسان الجيش بأن الادعاءات في قيد التحقيق، على الرغم من أن "تفاصيل الحادثة الموصوفة غير معروفة [للجيش]"، يختلف عن الإجابة القاطعة التي أُرسلت إلى "هآرتس" عن سؤال آخر متعلق بطريقة استيلاء الجيش على مستشفى "كمال عدوان". ففي هذه الحالة، قال الناطق بلسان الجيش، يوم الأحد الماضي، إن "الادعاءات التي تقول إن الجيش قام بدفن مدنيين أحياء في محيط المستشفى، هي ادعاءات خطِرة وتفتقر إلى أي أسس". إن هذا التغيير في الصيغة يشير إلى أن هناك على الأقل ذرة من الحقيقة في نقل أحداث مبنى العودة.
- حتى في "الأيام العادية"، من الضروري التشكيك في الفرضية الإسرائيلية القائلة أنه إذا ما قُتل فلسطيني على يد جندي إسرائيلي، فهذا يعني أنه يستحق القتل. لكن بصورة خاصة في هذه الأيام، كما أوضح عالم الاجتماع ياغيل ليفي، في مقابلة أجرتها معه صحيفة "كالكاليست"، فإن مقتل ثلاثة من المخطوفين على يد جنود الجيش الإسرائيلي "يشير بصورة أساسية إلى أنه ما من التزام حقاً بقواعد إطلاق النار في غزة. هناك أوامر رسمية، لكن الجيش يتعامل مع غزة بصفتها منطقة معقمة: لقد أصدر أمره إلى جميع السكان بالفرار، وبناءً على ذلك، فإن أي إنسان يتجول في المنطقة هو هدف شرعي، في نظر الجيش". يضاف إلى ذلك، بحسب ليفي، "خوف وإنهاك الجنود"، إلى جانب نغمة الخطاب الإسرائيلي الذي يقول "إن التمييز بين الضالعين وغير الضالعين في القتال لا علاقة له بالواقع، بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لأننا نعتبر أن الغزي العادي يتحمل مسؤولية جماعية عمّا حدث، وحتى لو لم يكن يتحمل مسؤولية الأحداث، فلا يجب علينا أن نفكر في التمييز بين الضالعين في القتال وغير الضالعين فيه، من أجل تحقيق هدف النصر، والقضاء على ’حماس’".
- وعلى الرغم من أمر إخلاء شمال القطاع وخانيونس، ثم في وسط القطاع، فإن عدداً كبيراً من المدنيين بقي في هذه المناطق، من النساء والشيوخ والأطفال والشباب. هؤلاء، ببساطة، لا مكان لديهم ليذهبوا إليه، ولا ملجأ يمكنهم الاحتماء به، ولا يوجد في القطاع، في أي حال، مكان آمن. هؤلاء الناس يعانون العطش والجوع والإرهاق، ومفتقرون إلى الحماية والتعاطف من رؤساء دول العالم. لقد أدت عمليات القصف فعلاً إلى مقتل عائلاتهم وعائلات أصدقائهم، وينتشر بينهم جنود إسرائيليون مصممون، وخائفون، ومتعبون، يتدفق الأدرينالين والرغبة في الانتقام والغضب في عروقهم. في حين لم يعد في وسع الصحافيين والمنظمات الحقوقية في غزة التحقيق في ملابسات مقتل أي مدني، لكثرة القتلى، وبسبب الخطر الذي يهدد حياة كل إنسان، في كل مكان. ولهذا السبب، فإن تجاهُل الادعاءات والتقارير الفلسطينية الحية، يخلق ستاراً من الدخان يحمي الجيش الإسرائيلي وبياناته الغامضة، من دون إثارة أي علامات استفهام صحافية.