القتال في طبقتين هو تجديد في التاريخ العسكري. ويستوجب طرقاً جديدة وحذرة
تاريخ المقال
المصدر
- كثرة الصور والتقارير، وأيضاً مؤتمرات الناطق الرسمي بلسان الجيش التي تصل جميعها من قطاع غزة في هذه الأيام، تخلق اعتقاداً أننا نعلم ونفهم كيف تدور الحرب، إلا إن الحقيقة مختلفة بعض الشيء. ليس لأن الناطق الرسمي بلسان الجيش لا يقوم بنقل الحقائق كما هي، ولا لأن المراسلين والمحللين لا يقومون بعملهم، إنما لأن القتال في قطاع غزة هو ظاهرة جديدة وفريدة في التاريخ العسكري، ولذلك، هناك صعوبة في نقلها وشرحها لمن لا يتدخل فيها بشكل حقيقي.
- عملياً، الحديث يدور حول "حرب طبقات". الطبقة الأكثر ارتفاعاً هي المنطقة المبنية فوق سطح الأرض، أما الطبقة السفلية، فهي مدينة الأنفاق ومواقع القتال تحت الأرض، والتي بنتها "حماس" على مدار 15 عاماً، واستثمرت فيها كمية هائلة من الأموال والتفكير المتطور. هذه المنظومة، في أغلبيتها، معروفة لدى أجهزة الاستخبارات والجيش و"الشاباك"، إلاّ إن حقيقة وجود معلومات استخباراتية عنها لا تعني الوصول إليها وتفكيكها بسرعة.
- وما بين الطبقتين، يوجد مفتاح الحرب: احتلال المساحة فوق الأرض، حتى لو تضمّن الكشف عن كميات كبيرة جداً من السلاح وقتل آلاف "المخربين"، لا يمكن أن ينزع عن "حماس" السيطرة على القطاع، وأيضاً تجديد البنى العسكرية الخاصة بها. فقط تفكيك البنى الموجودة تحت الأرض يقرّب الجيش من هذا الإنجاز. لذلك، فهو يحتاج إلى كثير من الوقت. وأمامه كثير من العمل.
كسر المقاومة المنظمة
- القتال داخل منظومات "حماس" فوق الأرض وتحتها، يجري على مرحلتين. المرحلة الأولى، تسمى "القتال الكثيف"، وفي إطارها، يسيطر الجيش على المنطقة المبنية فوق الأرض، ويبقى فيها. وتتم هذه السيطرة عبر استعمال مناطق محمية تشبه القواعد العسكرية، ومنها يخرج الجنود إلى عمليات "تطهير" فوق الأرض وتحتها. هذا ليس بجديد. القتال في مناطق مبنية دائماً ما يضمن السيطرة والتمركز، وبعدها، تبدأ عملية "التطهير" من العدو الذي لا يزال يتحصن ويختبئ. أما في غزة، فإن "التطهير" يتضمن مركّباً آخر خطِراً إضافياً، وهو تفكيك منظومة التحصينات تحت الأرض.
- القتال في منظومات محصّنة تحت الأرض، وتنتشر فيها ممرات وأنواع تحصين مختلفة، هو شيء غير معروف لأي جيش في التاريخ العسكري، القديم والجديد. صحيح أن الأميركيين تعاملوا، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، مع أنفاق الفيتكونغ تحت الأرض، لكن تلك الأنفاق كانت منظومات اختباء، وليست منظومات قتال. حتى إن تنظيم "داعش" أيضاً حفر أنفاقاً في الموصل والرقة في سورية، لكن أيضاً كان الهدف الاختباء فيها. "حماس"، على الرغم من ذلك، فإنها قامت ببناء منظومة تحت الأرض للقتال فيها ضد القوات الجيش التي تناور، وليس فقط للاختباء من الطائرات العسكرية والمسيّرات التابعة لسلاح الجو.
- القتال الكثيف فوق الأرض يدور ما دام "مخربو حماس والجهاد" ما زالوا يحافظون على مقاومة مسلحة من داخل الأماكن التي بنوها تحت الأرض. في البداية، لم يعرف الجيش أي مصطلح عليه أن يستعمل لوصفها، وسمّاها "مراكز ثقل". الآن، من الواضح أن الحديث يدور حول تحصينات ومواقع قتال من نوع جديد.
- القتال الكثيف الذي يجري أساساً فوق الأرض، ينتهي حين يفقد "المخربون" القدرة على المقاومة المنظمة والهرمية. فيمتنعون من الخروج في مجموعات كبيرة للاشتباك مع قوات الجيش، ويتحولون إلى قتال الشوارع الكلاسيكي، الذي يعني أن يقوم مقاتلان أو ثلاثة بضرب القوات التي توقفت عن الحركة في الميدان، ويحاولون تطهيره. هذه سلسلة من الكمائن الصغيرة التي يحاولون، في إطارها، مفاجأة القوات بإطلاق صواريخ RPG، وزرع العبوات والقنص من مسافات قصيرة جداً، ثم الانسحاب إلى فتحة النفق القريبة.
- عندما يتم كسر المقاومة المنظمة في منطقة كالشجاعية، أو في داخل مخيم كجباليا، فإن قوات الجيش تبدأ بالحركة في مركبات رباعية الدفع، وفي هذه المرحلة، يمكن أن يسقط الجنود بسبب الكمائن التي لا تزال في الميدان.
الفرق بين الشمال والجنوب
- نهاية القتال الكثيف يدفع إلى بدء المرحلة الثانية - القتال المركّز، الذي يهدف أساساً إلى إحباط المنظومات تحت الأرض، عبر التكنولوجيا والتقنيات الهندسية التي طوّرها الجيش خصيصاً لهذه المهمة. المثال الأفضل لهذا هو السيطرة على محيط مستشفى الشفاء، من دون إلحاق الضرر بالمستشفى نفسه، فبعدها فقط، بدأ الجيش بالكشف وإحباط المنظومة الموجودة تحت الأرض، والمبنية تحته.
- الميدان مختلف في مركز القطاع وجنوبه: تقريباً، لا يوجد هناك كتل كبيرة من المنازل المتعددة الطبقات، التي يمكن منها كشف قوات الجيش وهي تقترب. فضلاً عن أن المواقع غربي المخيمات تسمح للجيش بأن يكون له نقطة مراقبة جيدة، ويدير إطلاق النار عن بُعد. هذا على عكس القتال من المسافات القصيرة التي تميز بها شمال القطاع، المنطقة المبنية، وفيها بنايات كثيرة متعددة الطبقات، وتُستعمل كمواقع مراقبة وإطلاق صواريخ مضادة للدروع.
- لذلك، فإن القتال الكثيف في جنوب القطاع أسرع، إلاّ إن القتال المركّز تحت الأرض وفي البنى التحتية أصعب. وبدلاً من الحركة الثقيلة والبطيئة في الشوارع والأزقة ذات الكثافة العالية في شمال القطاع، تلك التي رافقتها مساندة جوية، فإن المساندة الجوية في الجنوب موضعية أكثر، وترافق القوة المقتحِمة في المكان المحدد، حيث يوجد معلومات استخباراتية.
- في هذه المرحلة من القتال، تعلّم الجيش كيفية الاشتباك مع "المخربين" الذين يحاولون الخروج من الخلف، عبر معلومات استخباراتية تحذيرية تصل إلى الجنود. الضباط في الميدان يقومون بأمور لا يمكن تفصيلها، لكنها تأتي بنتائج جيدة، ويتم قتل كثيرين من "المخربين"، وكذلك الكشف عن فتحات كثير من الأنفاق.
حصار تحت الأرض
- ما الذي يحاول الجيش تحقيقه عبر القتال الكثيف، وبعد ذلك عبر القتال المركّز؟ أولاً، كسر المقاومة المنظمة العسكرية لـ"حماس" وتفكيك الألوية والكتائب التي تعمل الحركة في إطارها، وضمنها قتل الضباط المحليين. في اللحظة التي لا يعود لدى "حماس" قدرة على المقاومة المنظمة، وتقوم فقط بنصب الكمائن، يمكن الانتقال إلى تفكيك البنى التحتية الكبيرة، كمنصات الإطلاق ومصانع إنتاج الصواريخ والأدوات القتالية، هذا بالإضافة إلى منظومات القيادة والسيطرة الموجودة تحت الأرض.
- وفي الوقت نفسه، يتم فرض حصار على القيادة الكبيرة، وأيضاً على المقاتلين الذين يختبئون، كما يبدو، في الأنفاق تحت الأرض، على عُمق عشرات الأمتار تحت سطح الأرض. وكما كانت عليه الحال في بيروت في سنة 1982، حيث قام الجيش بفرض حصار على ياسر عرفات ومقاتلي منظمة التحرير الذين تحصنوا فوق الأرض، فإن الجيش يفرض حصاراً على المنظومات الموجودة تحت الأرض والتابعة لقيادات "حماس"، وفي الوقت نفسه، يعمل بحذر كي لا يُلحق الضرر بالمخطوفين.
- الهدف من هذا الحصار الذي يتم فرضه على مناطق واسعة في القطاع، هو أيضاً تفعيل ضغط على قيادة "حماس"، وعلى رأسها يحيى السنوار، بهدف تحرير المخطوفين. وبحسب ضابط كبير في الميدان، فإنه تم استخلاص العبر، بعد قتل الرهائن الثلاثة بالخطأ، وأنه يوجد الآن تواصُل وطيد ومستمر من أجل تبادُل المعلومات بين منظومة الاستخبارات والعمليات لتحرير الرهائن، وبين القوات في الميدان. ولا يمكن التفصيل أكثر من ذلك. الهدف النهائي، هو تحييد، أو اغتيال القيادة الكبرى لـ"حماس" في القطاع، وبعدها الاستمرار في تفكيك السيطرة العسكرية والمدنية للحركة.
هذه ليست إلا مراحل اخترعناها
- حتى الآن، التقدم في جميع ساحات القتال جيد. الجيش يسيطر عملياتياً في الميدان على مساحة 60%. وفي الشمال، انتقلوا إلى مرحلة تفكيك بنى "حماس" وبدء تجهيز المنطقة في أطراف القطاع، لكي يصبح من الممكن، انطلاقاً منها، الدفاع عن بلدات النقب الغربي.أما في منطقة خان يونس، فتدور الآن معارك مركزة، عبر الاقتحامات، للحصول على معلومات استخباراتية.
- وفي منطقة "مخيمات وسط غزة" - البريج والنصيرات والمغازي- بدأت مرحلة القتال المكثف، بهدف السيطرة على الميدان، وتتقدم بوتيرة جيدة. يمكن الافتراض أنه خلال أسبوعين - أو ثلاثة، لن يكون القتال في القطاع كما كان عليه من حيث الكثافة، إنما سيتركز، ويتضمن اقتحامات تنفّذها القوات التي تخرج من مواقع التحصين في الميدان داخل القطاع، أو على أطرافه، وحتى من داخل إسرائيل. وفي الوقت نفسه، فإن حصار المنظومات تحت الأرض سيستمر حتى تحرير الرهائن وكسر قيادة "حماس"، عبر تحييدها، أو اغتيالها.
- لذلك، لا يوجد معنى حقيقي للأخبار بشأن أقوال السياسيين عن مراحل القتال في القطاع. نحن مَن اخترع هذه المراحل لإدارة الحوار مع حلفائنا الأميركيين الذين لم يفهموا أن على الجيش قتال ظاهرة فريدة تستوجب القتال الكثيف فوق الأرض، والقتال الطويل والمركّز تحتها. في بداية الحرب، حذّر الأميركيون القيادة الإسرائيلية من أن المرحلة البرية لن تُستكمل، وشاركوهم تجربتهم المرة خلال احتلال الموصل والفلوجة في العراق، وخلال الحرب ضد "داعش" التي استمرت وقتاً طويلاً وكلّفتهم كثيراً. إسرائيل قررت أن تعمل، على الرغم من ذلك، ومن أجل أن تبث التقدم، يتصاعد الحديث بين السياسيين والصحافيين عن الانتقال من المرحلة الثانية إلى الثالثة. إلاّ إن هذا التقسيم نحن الذين صنعناه، ولا يعكس الواقع في الميدان.
- القتال في القطاع قتال مختلط: هو قتال كثيف في المناطق التي لا تزال فيها "حماس" تملك مقاومة منظمة؛ لقد انتقل إلى المرحلة الثالثة، مرحلة القتال المكثف في المناطق التي تحولت "حماس" فيها إلى القتال عبر حرب شوارع في المناطق الآهلة. والدليل على أن القتال يدور بوتيرة جيدة هي حقيقة أن الجيش، كما يبدو، يخطط لإخراج بعض الكتائب المقاتلة كي ترتاح، وإعادة التنظيم من جديد.