100 يوم من القتال ضد حزب الله - ميزان مرحلي
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

  • تتواصل الحرب المحدودة الدائرة بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله على الحدود اللبنانية منذ 8/10/2023 (فيما خلا المرحلة التي شملت وقفاً لإطلاق النار بادر الحزب إليه، بالتوازي مع وقف إطلاق النار في قطاع غزة في الفترة 24 - 30 تشرين الأول/أكتوبر). إن حزب الله، الذي بادر إلى فتح النار، يخوض القتال وهو يرشد ويشرف على الهجمات التي ينفّذها شركاؤه من بقية عناصر "جبهة المقاومة" على عدة جبهات، وعلى رأسها الجبهة اللبنانية، ويسمح بانطلاق هجمات تنفّذها حركة "حماس" من الأراضي اللبنانية. ومنذ نحو ثلاثة أشهر، يدور تبادُل يومي لإطلاق النار بين الطرفين، في إطار ما يمكننا أن نطلق عليه اسم "أيام قتال طويلة". يهتم حزب الله بإعلان مسؤوليته عن عملياته ونشر عدد هجماته في وسائل التواصل الاجتماعي بصورة يومية. ويدّعي الحزب أنه يهاجم أهدافاً عسكرية، باستثناء الحالات التي يردّ فيها على استهداف الجيش الإسرائيلي للمدنيين اللبنانيين.
  • إن تتبُّع أنماط نشاط حزب الله، يشير إلى محاولة الحزب ترسيم حدود للقتال، مع استثناءات سببها ديناميات التصعيد المتبادل. إذ يدور القتال في مساحة جغرافية محدودة تنحصر في بضعة كيلومترات في عمق الحدود وعلى طولها، وضد أهداف ثابتة نسبياً، باستخدام صواريخ قصيرة المدى مضادة للدروع، فيما عدا استثناءات متبادلة في المدى الأطول في العمق. ويُحجم الحزب عن استخدام كامل الترسانة الموجودة تحت تصرّفه، وهو ينفّذ هجماته بصورة أساسية باستخدام الصواريخ المضادة للدروع، والصواريخ الموجهة، والصواريخ القصيرة المدى، والطائرات المسيّرة (التي فشلت في أغلبية الحالات في الوصول إلى وجهتها). إن الجزء الأكبر من الضرر اللاحق بالجانب الإسرائيلي في هذه المعركة ناجم عن الصواريخ الموجهة المضادة للدبابات والقذائف من طراز بركان (التي تحمل كمية كبيرة نسبياً من المواد المتفجرة)، ويحرص حزب الله على الالتزام بمعادلات ردة الفعل في نشاطه ضد الجيش الإسرائيلي، في محاولة منه للتحكم في سخونة المواجهة. وفي الوقت نفسه، يظهر أنه من المهم للحزب الإثبات أن قتاله ضد إسرائيل واسع النطاق، ويكبّد إسرائيل خسائر فادحة للغاية، بل يتبجح الحزب أحياناً بنجاحات تفوق نجاحاته الفعلية بكثير. على سبيل المثال، ادّعى نصر الله في خطابه في 14 كانون الثاني/يناير، أن إسرائيل تخفي حجم خسائرها عن الجمهور الإسرائيلي. وفي معرض حديثه عن سمات القتال، ادّعى نصر الله في 3 كانون الثاني/يناير، أن تنظيمه يعمل بطريقة محسوبة جداً، لكن إذا أراد العدو الحرب، فإن حزبه سيردّ بحزم، ويستخدم كامل قدراته.
  • وعلى الرغم من النشاط المحدود لحزب الله، والرد الإسرائيلي الحذر عليه، على الأقل خلال الشهرين الأولين من القتال، فإنه بعد عودة التنظيم إلى القتال في أعقاب وقف إطلاق النار في غزة، يظهر اتجاه للتصعيد في كل من نطاق الاشتباك وطبيعته، بسبب تطور الديناميات القائمة بين الطرفين خلال الأسابيع الأخيرة، ويعود ذلك أساساً إلى تصاعُد نشاط الجيش الإسرائيلي الذي انتقل، بالتدريج، من عمليات احباط الهجمات والهجمات الدفاعية، إلى زيادة نشاطه الهجومي، مع محاولة كسر قواعد اللعبة التي حاول نصر الله فرضها.
  • في هذا الإطار، تبرز الهجمات الإسرائيلية المنفّذة في عُمق الجنوب اللبناني، وعمليات ضرب البنى التحتية الاستراتيجية والأهداف الفائقة الجودة التابعة لحزب الله على مسافات بعيدة عن الحدود. علاوةً على ذلك، قام الجيش بتنفيذ هجوم في الضاحية (2/1/2024)، معقل التنظيم في بيروت، ليغتال صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي في "حماس"، مع 6 من ناشطي الحركة. كان ذلك تحدياً إسرائيلياً خارجاً عن قواعد اللعبة المتبعة عشية الحرب وخلالها، على الرغم من تهديدات نصر الله بضرب مَن يتجرأ على مهاجمة أهداف في لبنان، وضمنها رؤساء التنظيمات الفلسطينية الموجودة في أراضيه. لقد وعد نصر الله بعد الاغتيال بأن الحزب سيردّ على الهجوم على بيروت، وقام حزب الله، فعلاً، باستهداف مركّز لقاعدة الرقابة الجوية التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي في جبل ميرون (6/1/2024)، وبحسب ادعاء الحزب، تم استخدام 62 صاروخاً (40 صاروخ أرض - أرض و22 صاروخاً مضاداً للدروع)، وأسفر الهجوم عن وقوع أضرار في القاعدة من دون خسائر في الأرواح، على الرغم من ادعاءات نصر الله أن 18 من الصواريخ المضادة للدروع أصابت أهدافها. طرأ تصعيد إضافي في أعقاب الرد الإسرائيلي على الهجوم، الذي شمل غارات في العمق وسلسلة من الاغتيالات لقادة قوة الرضوان، وعلى رأسهم وسام الطويل، القائد التنفيذي للقوة (8/1/2024)، وبعد ذلك بيوم، اغتالت إسرائيل حسين برجي، الضابط في الوحدة الجوية الجنوبية التابعة لحزب الله، المسؤولة عن إطلاق المسيّرات في اتجاه إسرائيل (أنكر حزب الله أن هذا هو منصب الرجل).
  • لدى النظر إلى الميزان الموقت لنتائج القتال، بات من الواضح أن الجانبين تعرّضا لضرر كبير في الأملاك والمعدات، لكن يتضح أن الضرر الذي أصاب البنى التحتية لحزب الله كان أكبر من ذاك الذي أصاب الجيش الإسرائيلي، إذ دمّر الجيش جميع مواقع الحزب ونقاط المراقبة التابعة له على امتداد الحدود، إلى جانب نقاط القيادة ومستودعات السلاح والأهداف الاستراتيجية التابعة للتنظيم. وقال الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي في تقريره اليومي في 7 /1/2024، إن غارات الجيش تسببت بتفكيك منظومة مضادات الطائرات التابعة لحزب الله، وأن الجيش بات يعمل بحرية تامة في الأجواء اللبنانية. كما ادّعى أن الجيش نجح في دفع ناشطي قوة الرضوان إلى الانسحاب إلى الخلف، بعد تراكُم المصاعب أمام استمرار نشاطهم. وهكذا، بتاريخ 30/12/2023 قال الناطق بلسان الجيش أن 80% من الصواريخ التي تم إطلاقها من لبنان في اليوم السابق، سقطت في الأراضي اللبنانية. كما تم تكبيد حزب الله أيضاً خسائر جسيمة في الأرواح، إذ بلغ التعداد الرسمي للحزب 160 قتيلاً في صفوف ناشطيه (ويبدو أن العدد أكبر من ذلك)، مقارنةً بتسعة قتلى من قوات الجيش [ذكرت تقارير إسرائيلية أخرى أن العدد هو 11]. في المقابل، تتمثل إنجازات حزب الله في الحيز المدني، إذ إن الإنجاز الأكبر المستحق للحزب يتمثل بصورة أساسية في التهجير الفوري منذ بداية الحرب لنحو 60 ألفاً من سكان البلدات القريبة من الجدار على الجانب الإسرائيلي، إلى جانب بضعة آلاف من سكان الشمال الذين هجروا منازلهم بقرار منهم، فضلاً عن التدمير الواسع النطاق للمنازل في البلدات والكيبوتسات الحدودية (المطلة والمنارة، على سبيل المثال)، إلى جانب الأضرار الاقتصادية اللاحقة بسكان الشمال. أمّا على الجانب اللبناني، فقد تم إجلاء نحو 80 ألفاً (بحسب الإحصاءات الرسمية) من سكان القرى الواقعة في المناطق القريبة من الحدود، وتعرّض روتين حياتهم للضرر.
  • ويبدو أن الثمن الباهظ الذي يدفعه الحزب في القتال الدائر، يظل محتملاً بالنسبة إليه، لأنه يخدم أهدافه الاستراتيجية وأهداف المحور الذي يقف على رأسه إلى جانب إيران. أمّا الأهداف التي دفعت الحزب إلى قراره بفتح الجبهة الشمالية فهي:
  1. في السياق الفلسطيني: لقد هدف القتال، إلى جانب التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين، إلى جذب الجيش نحو جبهة إضافية، والحؤول دون القضاء على سلطة "حماس" في قطاع غزة، أو تقليص إنجازات إسرائيل في الحرب.
  2. في سياق المواجهة مع الجيش الإسرائيلي: الحفاظ على توازن القوى وتوازن الردع، بل تحسينهما لمصلحة التنظيم، فيما يتعلق بـ "اليوم التالي للحرب".
  3. في سياق تقديم الخدمة لإيران: المساهمة في تحقيق المصلحة الإيرانية المتمثلة في الإضرار بإسرائيل وإضعافها، وبصورة خاصة في ظل رغبة إيران المحدودة في الرد بشكل مباشر ضد نشاطات إسرائيل التي تستهدفها.
  4. في سياق مصلحة "جبهة المقاومة": قيادة استراتيجيا "وحدة الساحات" في الحرب ضد إسرائيل، التي يُعتبر حزب الله شريكاً مهماً في صوغها، بالتعاون مع إيران، وعنصراً أساسياً في تنفيذها.
  • والسؤال الأساسي الذي يطرح نفسه الآن على الطاولة هو كيفية تحقيق المصلحة الإسرائيلية، والإظهار العملي لقدرة إسرائيل على إلحاق ضرر كبير بحزب الله، وتكبيده ثمناً باهظاً، وإبعاد قواته عن الحدود، من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوب حرب شاملة مع لبنان على الجبهة الشمالية. ويصبح هذا السؤال أكثر إلحاحاً في ظل الحاجة الإسرائيلية الماسة إلى عودة سكان الشمال المهجرين من منازلهم، مع ضمان سلامتهم وتوفير الشعور بالأمان لهم، وهو الذي تضرر بصورة جسيمة بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
  • حتى اللحظة، يدور القتال في الشمال بكثافة عالية، وعملياً، يُعتبر حرب استنزاف متبادلة، إلا إنها لم ترقَ بعد إلى مستوى الحرب الشاملة، على الرغم من احتمالات الوصول إلى هذه المرحلة. وعلى الرغم من ذلك، تتوفر في الطرفين عوامل كابحة من الداخل، ومن الخارج، وخصوصاً الضغط الذي تمارسه الولايات المتحدة على الطرفين، وبصورة أكبر على إسرائيل، وعلى إيران أيضاً، على ما يبدو، من أجل تلافي نشوب حرب إقليمية شاملة، إذ تعمل على تعزيز حل دبلوماسي يؤدي إلى وقف الحرب. يبدو أن حزب الله ليس معنياً بحرب شاملة في هذه المرحلة، وهو ما يمكن إدراكه من سمات القتال التي يمارسها، ومن خطابات نصر الله، على الرغم من أن الحزب يهدد، بوضوح، بأنه إذا اندلعت حرب على هذا النطاق، فإنه سيحارب من دون رادع، ويستخدم جميع الوسائل التي في حوزته، من دون قوانين أو حدود. أمّا إسرائيل، فهي تتعامل في هذه المرحلة مع الجبهة الشمالية على أنها جبهة ثانوية، وأقل أهمية من جبهة غزة التي تتطلب جهوداً كبيرة، في حين يوفر لها الانتقال إلى المرحلة الثالثة من القتال في غزة، حيز مناورة أوسع لمواصلة عملياتها في الشمال.
  • وعلى الرغم من مساعي الولايات المتحدة وفرنسا للدفع قدماً بالتحرك الدبلوماسي، يبدو أن وسائل الضغط السياسي على حزب الله لا تزال محدودة، ولا توجد مقترحات مطروحة على الطاولة من الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين، من أجل إغراء الحزب، أو إجباره على وقف إطلاق النار، والموافقة على تنفيذ انسحاب كبير لقواته من الحدود، وخصوصاً في الوقت الذي يستمر القتال في غزة. وفي أي حال، يبدو في هذه المرحلة أن الحكومة اللبنانية تتماهى مع مواقف حزب الله: فهي تطالب بوقف القتال الدائر في قطاع غزة، وتتصلب في موافقها إزاء ما يتعلق بالتفاوض مع إسرائيل بشأن ترسيم الحدود البرية.
  • بناءً على ما تقدم، وما دام القتال مستمراً على الحدود اللبنانية، فعلى إسرائيل مواصلة، لا بل تصعيد نشاطها العسكري بصورة ممنهجة وحاسمة من أجل إلحاق أضرار خطِرة بالبنى التحتية التابعة لحزب الله وقوات الرضوان، وعلى هذا النحو، إظهار الثمن الفادح الذي سيدفعه التنظيم ولبنان بأسره نتيجة استمرار استفزاز إسرائيل، والاقتراب من الحدود والبلدات الإسرائيلية. يحمل الوقت الراهن في طياته فرصة لإسرائيل في فرض قواعد لعبة تصب في مصلحتها، وتختلف عن تلك التي حاول نصر الله فرضها حتى تاريخ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر. مثل هذا النشاط العسكري قد يخلق واقعاً جديداً على امتداد الحدود، يتيح في المرحلة الأولى عودة سكان الشمال المهجرين إلى منازلهم، ويخلق أساساً متفقاً عليه لخطوات سياسية لاحقة، من أجل تسوية الأوضاع على امتداد الحدود في المدى البعيد، في الوقت الذي تُمسك إسرائيل بالقرار المتعلق برغبتها في الدفع في اتجاه خطوة عسكرية واسعة لإزالة تهديد حزب الله، وبشأن موعد تلك الخطوة.