تيار الوسط لا يمكنه تجاهُل القضية الأكثر مصيرية المرتبطة بمستقبلنا، أي الصراع مع الفلسطينيين
تاريخ المقال
المواضيع
فصول من كتاب دليل اسرائيل
مهند مصطفى
أسامة حلبي, موسى أبو رمضان
أنطوان شلحت
المصدر
هآرتس
من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".
- هل يحمل تيار الوسط السياسي بشائر إلى إسرائيل؟ نظرياً: ما يصلح للمستنيرين في الدول المتنورة، يجب أن يصلح لنا أيضاً. ففي دولة مشتعلة بالصراعات القبلية والخلافات الجوهرية، يبدو طريق الوسط مغرياً، فهو يعني التقريب بين الأطراف، وخلق التوازن بينهم، والتجسير فيما بينهم، وبالتالي، هو يمثل صبّاً لغراء العقلانية على الصدع الناشىء في النسيج الاجتماعي. لدى الوسط الإسرائيلي ما يستند إليه؛ فـ "الطريق الوسط" هي فكرة ترافق الفكر الإنساني منذ مئات السنين، ويمكن العثور على مظاهرها في العديد من الثقافات. لقد استقطبت مقولة أرسطو القائلة إن الفضيلة تقع دائماً بين قطبين مؤيدَين بارزَين، منهما الرامبام موسى بن ميمون، وحكماء البوذية، وتيار الوسط في الإسلام.
- إن إجراء تعديل طفيف على المقولة المأثورة المنسوبة إلى برنارد شو يجعلها تنطبق على حالتنا: "إذا لم تكن شيوعياً في العشرينيات، فأنت بلا قلب، لكن إذا لم تكن شخصاً وسطياً في الثلاثينيات من عمرك، فأنت بلا عقل". في الواقع، هل هناك ما هو أكثر نضجاً من السلوك البراغماتي الذي يسعى لحلّ الخلافات من خلال التسوية؟ إن مَن ينضج، ويودّع عاصفة شبابه الأيديولوجية، يتعلم أن يتصالح مع الطبيعة البشرية. إنه يدرك أن التوترات والتعقيدات والتناقضات متجذرة فينا. لذلك، فإن التسوية هي روح التنظيم البشري. والوصول إلى أرضية مشتركة أفضل من التعصب الأيديولوجي والعناد الميسيائي. ومن دون تسوية، سيزداد الشقاق والاحتراب، ويرفع كل إنسان سلاحه على أخيه، وتحل الفوضى محل النظام الاجتماعي.
- يعمل الوسط السياسي في إسرائيل جاهداً على العثور على الخيط الرفيع الفاصل بين المواقف المتضاربة والمصالح المتنافسة. بين المحافظة والليبرالية، بين المسؤولية الاجتماعية وحقوق الفرد، بين العالمية والقومية، بين دولة الشريعة والفصل بين الدين والدولة، بين الاقتصاد الحر والاهتمام بالفئات المستضعفة. إن الروح المستنيرة التي تشع من الوسطية تغري كثيرين في إسرائيل. ومن بين هؤلاء، مَن دفعت بهم الحرب الراهنة نحو القطب الأيمن من الطيف الأيديولوجي، وما زالوا يبحثون عن ملجأ سياسي في الوسط، الذي يُنظر إليه على أنه أكثر عقلانية ومسؤولية من القطبين.
- لكن واقعنا الفريد يعقّد حياة الوسط؛ إنه يفتقر إلى إجابة عن التحدي الأكبر الذي يعترض إسرائيل: الصراع مع الفلسطينيين. لقد نجحت السياسة، على مدار سنوات، في تهميش القضية الفلسطينية، لكن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر أعادها إلى صدارة جدول الأعمال. ما هي إجابة الوسط عن السؤال الذي يترك بصماته على كل مجال من مجالات حياتنا؟ إن الجهد المبذول لاستخلاص إجابة واضحة محكوم عليه بالفشل.
- في القضايا الحاسمة المتعلقة بحلّ الدولتين وبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال، ينصبّ تركيز التيار الوسطي على احتساب موقفه، بحيث يكون في النقطة الوسطى من الطيف الذي يمثل الكيانات الأيديولوجية. لكن في القضية الفلسطينية، لا يوجد لدى الوسط فكراً أيديولوجياً خاصاً به، فمواقفه تتولد من المسافة النسبية التي تفصلها عن أيديولوجيات الآخرين. وهكذا، فإن التحولات الفكرية للتيار الوسطي في القضية الفلسطينية مستمدة من ازدياد قوة التيارين اليميني أو اليساري، أو تفاقُم ضعف أحدهما على حساب الآخر. وعلى الرغم من أن القطبَين الأيديولوجيَّين هما اللذان يسبغان على التيار الوسطي جوهره، بصفته وسطياً، إلا إن أتباعه يميلون دائماً إلى إطلاق ألقاب مسيئة على أتباع القطبين: ميسيانيون، موهومون، متطرفون. السؤال هنا: ألا يوجد بعض الأوهام أيضاً لدى الوسطيين؟ أليس من الجنون أن نفترض أن الموقف الصحيح في الشأن الفلسطيني يجب أن يكون في منتصف الطريق بين اليمين واليسار؟
- يجب على الوسط أن يوضح إجاباته عن الأسئلة الرئيسية المرتبطة بوجودنا: كيف يمكن ضمان الإبقاء على الطابع اليهودي والديمقراطي لإسرائيل من دون تقسيم الأرض؟ هل من الممكن استمرار واقع الاحتلال إلى الأبد؟ إن التخبط تحت شعارات وسطية فاشلة لإدارة الصراع وتقليصه لا يقلل من العداء الفلسطيني، بل يقوي أولئك الذين ينكرون وجود إسرائيل، ويُضعف أولئك الذين هم على استعداد لتقديم تنازلات. إن المماطلة والتردد في اتخاذ موقف لا يمهّدان الطريق إلى تسوية مستقبلية، بل يشتريان وقتاً لترسيخ الاحتلال، وتعميق الاستيطان، وجعل تقسيم الأرض مستحيلاً، وبالتالي يؤديان إلى تدمير إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية.
- نُقل عن شمعون بيرِس طرفة، ففي إحدى زياراته لفرنسا، تم حجز موعد له مع زعيم حزب وسطي جديد. اهتم بيرس بمبادئ الحزب الأيديولوجية. فوجّه سؤالاً إلى محدثه الذي فوجئ بالسؤال، فتلعثم الرجل، ثم قال "يتمثل فكرنا في تمثيل التغييرات الجارية على الواقع". عندما يتخلى التيار الوسطي عن هذا الأسلوب المراوغ في الإجابة التي نطقها الفرنسي، ويكشف خياراته الأيديولوجية بوضوح: هل هو مع تقسيم البلد، أم الحفاظ على وحدة ترابه، فإنه يفقد هويته الوسطية، ويتم امتصاصه في أحد القطبين المتنافرَين.
- بناءً على ما تقدّم، ولكي يكون المرء وسطياً في إسرائيل، عليه أن يتبنى الغموض الأيديولوجي في أهم المواضيع المتعلقة بمستقبل إسرائيل: النزاع مع الفلسطينيين. وبعد السابع من تشرين الأول /أكتوبر، أصبح الثمن الوطني لهذا الغموض أثقل من أن يُحتمل، ولذا، من الواجب على تيار الوسط أن يوضح بصورة دقيقة وحادة تصوُّره فيما يتعلق بحلّ النزاع، حتى لو أدى ذلك إلى فقدان تصنيفه كتيار وسطي.