هذه المرة، التحذيرات الإيرانية غير بعيدة عن الواقع
تاريخ المقال
المصدر
- في الوقت الذي تقاتل إسرائيل في غزة، وتبحث في توسيع المعركة في مواجهة حزب الله، تتصاعد الأصوات التي تحذر من تطورات مقلقة في إيران. زعيم حزب "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان، حذّر من "محرقة"، وذلك في حوار مع إذاعة الجيش الإسرائيلي، وادعى أن إيران تخوض معركة إبادة، وأنه خلال عام أو عامين، سيتم ضرب إسرائيل من عدة جبهات لإبادتها. وحذّر جدعون ساعر في مقابلة في موقع "واينت" من أن إسرائيل تواجه تهديداً وجودياً بسبب خطة إبادة تقودها إيران. وشدد على أن هذا لا يعكس فقط رؤية أيديولوجية، بل أيضاً خطة عمل، الهدف منها تحقيق الهدف المعلن، أي إبادة إسرائيل. أيضاً رئيس الحكومة الأسبق إيهود باراك حذّر من شنّ إيران، خلال نصف عام، أو عام، حرب استنزاف متعددة الجبهات ضد إسرائيل، حتى انهيارها، وبعد ذلك إبادتها.
- أحياناً، اعتاد سياسيون ومحللون أيضاً المبالغة في التهديد الإيراني، مع التشديد على نية إيران السيطرة على المنطقة وإبادة إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، فإن التحذيرات بشأن نيات طهران في الوقت الحالي، كما يبدو، غير بعيدة عن الواقع. فمنذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تستمر إيران في تطبيق رؤيا "وحدة الساحات" ضد إسرائيل، وتفعّل شبكة منظمات من عدة جبهات في الوقت نفسه. وأكثر من ذلك، خلال الأشهر الماضية، انتشرت أخبار بشأن تقدُّم مقلق في خطتها النووية. لقد تحولت إيران إلى دولة على عتبة امتلاك أسلحة نووية، يمكنها البدء بتخصيب اليورانيوم إلى درجة عسكرية، بعد أسبوع من اتخاذ القرار السياسي. نداف إيال أشار في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، خلال شهر آذار/مارس، إلى أن إيران تعمل على التوصل إلى مركّبات السلاح النووي العسكري. أمّا باراك رافيد فنشر أن الولايات المتحدة وإسرائيل تبحثان في معلومات جديدة عن نماذج إلكترونية نفّذتها مجموعة من العلماء الإيرانيين خلال الآونة الأخيرة، ويمكنها أن تُستعمل في الأبحاث وتطوير السلاح النووي.
- هذه المعلومات تنضم إلى تصريحات المسؤولين الإيرانيين الذين يطالبون ببحث الاستراتيجيا النووية من جديد وعدم الاكتفاء بمكانة "دولة عتبة نووية". وعلى الرغم من أنه لا وجود لإشارات إلى هذا القرار في هذه المرحلة، فإن التطورات الأخيرة يمكن أن تبشّر بحوارات في هذا الموضوع داخل أروقة الحكم في طهران.
المعركة على الخريطة
- في ظل هذا الواقع، يُطرح السؤال عن هذه الخطوات ومعانيها بالنسبة إلى نيات إيران إزاء إسرائيل. العداء للقدس لا يزال مركزياً في سياسة الجمهورية الإسلامية، وأيديولوجيتها الثورية تلغي وجود إسرائيل كلياً، ويمكن اختزالها في الشعار التالي: "يجب محو إسرائيل من الخريطة". لا يمكن شرح مصادر الكراهية فقط بالأسباب التي تتطرق إلى سياسات إسرائيل والاحتلال، إنما بمجرد وجود إسرائيل.
- المسؤولون في النظام الإيراني يدّعون أن اليهودية ليست قومية، بل هي دين، ولذلك، فإن اليهود لا يستحقون دولة. وعلى مدار أعوام، اعتبرت إيران إسرائيل كياناً غير شرعي، ولادته كانت خطأً، وهي نتاج مبادرة غربية لإضعاف العالم الإسلامي ومأسسة السيطرة الكولونيالية في الشرق الأوسط. لا يمكن التقليل من أهمية هذه الرؤية الأيديولوجية الإيرانية إزاء إسرائيل، أو التعامل معها على أنها مجرد أقوال. هذا لا يعني أن مجرد فهم الرؤية الأيديولوجية سيكفي لفهم السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل. المزج ما بين الظروف الداخلية والإقليمية والدولية المتغيرة دفع بالقيادة الإيرانية إلى تبنّي سياسة تعتمد على محاولة الولاء للقيم الثورية وأخذ المصالح القومية بعين الاعتبار على أساس الربح، والخسارة، والمنطق السياسي.
- فضلت القيادة الإيرانية، في ظروف معينة، المصالح القومية على الرؤية الأيديولوجية، وفي حالات أُخرى، عملت بحسب الرؤية الأيديولوجية للدفع قدماً بتغييرات ثورية. حتى إن المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية مرّت بتغييرات على مدار السنوات. وعلى الرغم من العداء الأساسي لإسرائيل من طرف إيران منذ الثورة، فإن التهديد ما بين الدولتين تطور فقط خلال الأعوام العشرين التي تلتها.
- في الثمانينيات من القرن الماضي، رأت إيران في النصر على صدام حسين شرطاً لتحرير القدس، وقالت إن "الطريق إلى القدس تمرّ في كربلاء". وكلما احتدمت المواجهة بين الدولتين، كلما تعاظم التهديد من إيران التي رأت في إسرائيل التهديد الأمني الأكبر. فالمعركة الإسرائيلية ضد الخطة النووية الإيرانية، و"المعركة بين الحروب" في سورية، وكذلك توسيع العمليات الإسرائيلية إلى مناطق أُخرى، وضمنها الساحة البحرية والسايبر وتطبيق رؤية "رأس الأفعى"، والتي تنص على أهمية ضرب إيران في عقر دارها - أمور كلها دفعت بإيران إلى فهم الحاجة إلى تحسين ردها على الضغوط الإسرائيلية، عبر الاستناد إلى منظمات وأذرع، وتطوير قدرات عسكرية محسّنة، وزيادة التواجد، ومأسسة بنى عسكرية على الحدود مع إسرائيل، وعمليات انتقامية ضد إسرائيليين ويهود في الخارج.
- لو كانت السياسة الإيرانية تعتمد على الرؤى الأيديولوجية الثورية فقط، لكان يمكن التقدير أنها ستنضم إلى الحرب في غزة، أو على الأقل، تدفع حزب الله إلى مواجهة شاملة منذ المراحل الأولى، حين كان يبدو أن هناك فرصة تاريخية للدفع برؤيتها الثورية بشأن إبادة إسرائيل. هذه ليست إشارة إلى اعتدال من طرف إيران، إنما عقلانية وبراغماتية. إن أفضل مَن وصف هذا هو الباحث في الشأن الإيراني مئير ليتفاك الذي اعتقد أن القائد الإيراني الأعلى خامنئي لم يتدخل بصورة مباشرة لدى اندلاع الحرب لأنه يملك رؤية تاريخية، ولذلك، فهو "لا يتعجل إبادة إسرائيل غداً صباحاً". وبحسب ليتفاك، فإن رؤيته الأيديولوجية هي أنه يجب استنزاف إسرائيل والدفع بانهيارها كدولة يهودية.
حلقة نار حولها
- على الرغم من ذلك، فإن سلسلة تطورات خلال الأعوام الماضية عززت الشعور بالثقة لدى إيران. المعركة في غزة جاءت في الوقت الذي تعيش الجمهورية الإسلامية في خضم مسارات جدية، داخلياً وإقليمياً وخارجياً. على الصعيد الداخلي، الاحتجاجات التي اندلعت في أيلول/سبتمبر 2022، قُمعت في مطلع سنة 2023، ولا يبدو أنه يوجد أيّ تهديد جدي لبقاء النظام. أمّا على الصعيد الإقليمي، فإن إيران مأسست تأثيرها، وأحاطت إسرائيل بـ"حلقة نار". وبالإضافة إلى ذلك، حسّنت علاقاتها مع جيرانها العرب، ونجحت في تخفيف التوتر بينها وبينهم إلى حد ما، على أساس اعترافهم بقوتها وتأثيرها المتصاعد. هذا المسار بلغ ذروته في اتفاق تجديد العلاقات مع السعودية في سنة 2023.
- على الساحة الدولية، تستفيد إيران من التغييرات في النظام العالمي، وتتعاون مع روسيا والصين بشكل يسمح لها بالتعامل مع العقوبات الاقتصادية بصورة أفضل، ومنع الولايات المتحدة من بلورة إجماع عالمي ضدها. كما أن امتلاكها صواريخ بعيدة المدى ومسيّرات، ووجودها كـ"دولة عتبة نووية"، إلى جانب ضُعف إسرائيل داخلياً، هذا كله ساهم أيضاً في تقديرها أن ميزان القوى لمصلحتها.
- تم تسريع هذا الاتجاه مع اندلاع الحرب في غزة. طهران تعتبر هجوم "حماس" إشارة أُخرى إلى ضُعف إسرائيل، وهي في طريقها إلى الانهيار النهائي، في الوقت الذي يتم التعامل مع الهجوم الإيراني في نيسان/أبريل كنجاح استراتيجي، على الرغم من النجاح الإسرائيلي في الاعتراض. ويربط مسؤولون ومحللون إيرانيون بصورة مباشرة ما بين الأحداث، وطرحها على أنها "تحوُّل تاريخي" توقّعه القائد الأعلى لإيران منذ تسعينيات القرن الماضي.
- موقع إخباري إيراني محافظ قدّر أن الضربتين اللتين تلقّتهما إسرائيل تشكلان نقطة تحوُّل تاريخية وتطبيقاً للرؤية الخاصة بالقائد الأعلى بشأن ترتيبات إقليمية ودولية جديدة. فازدياد الدعم للمسلمين يتصاعد، ودعم الفلسطينيين ينتشر من اليابان إلى الجامعات في الولايات المتحدة، والشعوب المقموعة ستنتفض قريباً، بعد أن أشعلت الضربة الإيرانية لإسرائيل "نار الأمل" في أوساط الشعوب، وأثبتت أن لديها القدرة على تحويل مسار التاريخ.
- وفي الوقت نفسه، يشدد المسؤولون الإيرانيون الكبار على أن نهاية إسرائيل قريبة. ففي ذكرى وفاة مؤسس الثورة الإسلامية، قال القائد الإيراني الأعلى إن هجوم "حماس" وضع "الكيان الصهيوني" على مسار الانهيار الذي لن يستطيع النهوض منه. وفي لقائه قيادة "حماس"، على هامش جنازة الرئيس رئيسي، قال خامنئي إن وعد الله بمحو إسرائيل سيتحقق. وبعدها، أكد كلامه كلٌّ من قائد "قوة القدس" والقائد الأعلى للجيش، اللذين صرّحا بأن هجوم "حماس" وضربة إيران سرّعا في إبادة إسرائيل.
شرق أوسط إيراني
- يمكن التطرق إلى هذه التصريحات على أنها شبيهة بتصريحات سابقة، كتصريحات فارغة، أو أقوال، الهدف منها إخفاء فشلٍ عملياتيّ تكتيكي. وعلى الرغم من ذلك، فإنه من المفضل عدم الاستهتار، والتعامل معها كتعبير حقيقي عن المزاج الجديد الذي يمكن أن يدفع القيادة الإيرانية إلى محاولة تسريع تطبيق رؤيتها الأيديولوجية، وبصورة خاصة في ظل التقديرات أن ميزان القوى يميل لمصلحتها، ومع أخذ قدراتها العسكرية المحسّنة بعين الاعتبار.
- انجرار إسرائيل إلى حرب استنزاف مع "حماس" وحزب الله، وكذلك مأسسة مكانة إيران كـ"دولة عتبة نووية عسكرية"، وتعاظُم قوتها العسكرية، والتطورات الدولية، هذا كله، في نظر طهران، تعبير عن مسار تاريخي يتميز بتراجع الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، وبناء شرق أوسط جديد بقيادتها. هذه التطورات تعزز تقديرات طهران أن الميزان الاستراتيجي يميل لمصلحتها. حتى لو كانت هذه التقديرات تستند إلى تفاؤل وأمنيات، إلا إنها يمكن أن تشجعها على المخاطرة أكثر من الماضي، وأن تتبنى سياسة مواجهة أكبر، وضمنها تجاه إسرائيل.
- أيضاً، ازدياد التطرف في النظام السياسي الإيراني وتعاظُم قوة الحرس الثوري يمكن أن يشجعا القائد الأعلى لإيران على تبنّي سياسة متوازنة وحذرة بصورة أقل. كما أن تحويل المواجهة بين إسرائيل وإيران من أيديولوجية إلى استراتيجية، والقدرات الإيرانية المتطورة، وكذلك مركّبات المحور الداعم لإيران في المنطقة، وضعف إسرائيل الداخلي، والتوتر المتصاعد بينها وبين الولايات المتحدة، أمور كلها يمكن أن ترسم في أوساط القيادة الإيرانية صورة، مفادها أن الظروف نضجت للتقدم في اتجاه تطبيق الرؤية الأيديولوجية بشأن إبادة إسرائيل، ولو عبر الاستنزاف وقتاً طويلاً.
- وعلى الرغم من ذلك، فإن استمرار الاتجاه الحالي ليس قدراً، وتستطيع إسرائيل تغييره عبر بلورة استراتيجيا شاملة في مواجهة إيران، بالتعاون مع الولايات المتحدة ودول الغرب والدول العربية المعتدلة، على أساس رؤية تستند إلى واقع إقليمي، وتحسين مكانة إسرائيل الدولية، وردع إيران عن الذهاب إلى امتلاك سلاح نووي. كما أن إلغاء اللقاء الاستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة بشأن إيران، رداً على الفيديو الذي نشره رئيس الحكومة نتنياهو وهاجم فيه الإدارة بسبب "تأجيل إرسال أسلحة"، يخلق شكوكاً في قدرة القيادة السياسية الحالية على التقدم في الاتجاه المطلوب.