يريدونكم أن تغادروا البلد، لكن مسؤوليتكم البقاء فيه وإصلاحه
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • إن المزيد من الأشخاص الطيبين يغادرون البلد؛ من أصدقاء، وجيران، وزملاء، وأفراد من العائلة، ولا يريدون العيش في مكان خطِر كهذا، ويخافون على حياتهم، ويبحثون عن سبل للمغادرة. وليس مَن يحملون جوازات أجنبية وأصحاب المهن الحرة وحدهم مَن يبحثون عن طرق مبتكرة لتحرير أنفسهم من الأغلال الخانقة لهذا البلد القاسي والميؤوس منه، بل أيضاً الأشخاص الذين تُعد هجرتهم إلى بلد أجنبي أمراً صعباً ومعقداً. وهذا أمر محزن، لأنه يوجد هنا كثير من الأشخاص الطيبين ومن الفرح والجمال، لكن هذا أمر طبيعي ومنطقي.
  • أي شخص عاقل يتمنى لأولاده أن يعيشوا وأن تكون لهم جذور في مكان عنيف إلى هذا الحد وغير عادل ويأكل أهله، وتحدث فيه اعتداءات جنسية في المعتقلات، وبلد قتل قرابة 50,000 من جيراننا، بينهم قرابة 10,000 طفل؟ ومن يشعر بالأمان في مكان يجري فيها إجلاء عائلات من منازلها، وعائلات تخاف من الابتعاد عن الغرف المحصنة وتعرف معرفة وثيقة أشخاصاً خُطفوا أو قُتلوا؟ ومن يريد العيش في مكان فيه عدد كبير من السكان ينتخبون مِراراً شخصاً فاسداً بلا كوابح أو قلب أو رحمة زعيماً لهم؟ ومن يمكنه العيش في بلد أغلبية مواطنيه تشجع أولادها على التجند في الجيش الذي هدفه المركزي الاحتلال والقتل والخطف والكذب واحتضان شبان التلال، ويضمن بأفعاله استمرار المأساة التي نعيش ونموت فيها؟
  • ربما يكون مغرياً أن نبني حياة عاقلة وهادئة في مكان آخر، بعيداً عن كل الفظائع التي اعتدنا العيش فيها وإلى جانبها. أنا نفسي، نظراً إلى أن زوجتي ليست إسرائيلية، ولدى أولادي حياة وعائلة أُخرى في بولندا، وكوني منذ بداية الحرب ملاحَقاً من اليمين الفاشي والعنيف لأنني تجرأت على التعبير عن تعاطفي مع ألم الناس والأولاد في غزة، أُعَد جزءاً من هذا المسار. وعلى الرغم من حبي لهذا المكان المميز، وعلمي أنني لن أشعر أبداً بالانتماء وهذا الحب لأي مكان آخر، فمن حق كل إنسان راشد أن يقرر ما هو الأصح والأفضل بالنسبة إلى عائلته. أنا لا أحكم على الذين قرروا مغادرة البلد، فمن الممكن أنهم يقرأون الوضع بصورة صحيحة، ويقومون بالأمر الأكثر منطقية؛ إنقاذ أنفسهم من السفينة الغارقة.
  • قبل 90عاماً، عندما سمع جدي، وهو يسير في شوارع برلين، ألمانيين يقولون: "سيكون من الجيد أن تغسل دماء اليهود الشوارع"، قال لوالديه إنه لا يوجد خيار سوى مغادرة هذه المدينة التي أحبوها، لكن والديه اعتقدا أنه يبالغ، وأن "الأمور ستمر وتهدأ وكل شيء سيكون على ما يرام"، إلى أن نجح، بعد مرور عام، في إقناعهم بالقيام بالخطوة التي أنقذت حياته وحياتهما، وهاجروا إلى البلد [فلسطين].
  • إن الفرار من مكان يتخلى في كل يوم عن طبقة أُخرى من إنسانيته هو أمر إنساني وعاقل ومفهوم، وأتمنى لكل من يعقل ذلك النجاح من كل قلبي.
  • لكن أقول لإخوتي اليهود كما أقول لنفسي طبعاً: "لسنا اليهود في قصة جدي، إنما نحن الألمانيون." وكما كنت أنتظر من كل الألمانيين في الثلاثينيات من القرن الماضي محاربة النظام النازي بكل قواتهم والوسائل المتاحة، فإنني كذلك أنتظر من إخوتي اليهود الذين يعيشون هنا التغلب على الرغبة في الرحيل، وأن يفعلوا العكس؛ أن يعمقوا ويحسنوا ويعززوا آليات مقاومة النظام والاستمرار في وضع العِصِي في عجلات الاحتلال والعنصرية والفصل العنصري والحصار. هذه الأمور هي التي تدمر الشيء الجيد، وهي المسؤولة عن كل الشرور والوضع البائس الذي نعيشه حتى قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، ومنذ 15 أيار/مايو 1948.
  • نحن مسؤولون عن الوضع المرعب الذي وصلنا إليه، وعلينا أن نفعل كل ما يمكننا فعله من أجل أن ننقذ أنفسنا منه، أو على الأقل، يجب ألاّ نسكت. كما يجب أن نفعل كل ما في وسعنا كي يعرف أكبر عدد من الناس ما يفعله النظام الصهيوني كي لا نعرف ما يحدث؛ في أماكن العمل، وفي المناسبات العائلية، وفي اللقاءات العامة، تحدثوا وتظاهروا وأقنعوا الآخرين، ووثّقوا ما يحدث.
  • لا تتخلوا عن الفلسطينيين وعن طالبي اللجوء، والذين من حقهم الحصول على مساكن عامة. لا تتخلوا عن المجموعات الضعيفة التي يسيء النظام معاملتها، فهؤلاء لا يملكون ترف الرحيل، وهُم عالقون في هذا المأزق المأساوي، الذي يتحمل مسؤوليته آباؤنا وأجدادنا. وإذا كان من الصعب علينا أن نتمرد، فإنه من المستحيل عليهم أن يفعلوا ذلك، وإذا كان الوضع بالنسبة إلينا معقداً، فإنه بالنسبة إليهم يشكل خطراً على حياتهم، فهم لم يتمتعوا يوماً بالامتيازات التي تمتعنا بها، والآن هو الوقت، أكثر من أي وقت آخر، لاستخدام هذه الامتيازات من أجل الوقوف إلى جانب كل من يحاول النظام الصهيوني إسكاته وقمعه وقتله. وهذا ليس واجباً أخلاقياً وحسب، بل أيضاً هو السبيل الوحيد لكي يبقى هذا المكان الذي وُلدنا فيه وعشنا فيه معاً كل اللحظات الحلوة، ولكي يكف كل الأشخاص الطيبين عن الحلم بمغادرته .