من دون توقيع معاهدة مع الفلسطينيين ستستمر جولات العنف إلى الأبد
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

  • وُلدت الصهيونية في أوروبا الشرقية في أواخر القرن التاسع عشر. وعلى مدار العقود الأولى من عمرها، حققت نجاحاً محدوداً. وابتداءً من سنة 1880، وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، وهي المرحلة التي شهدت هجرة نحو مليونَي يهودي من شرق أوروبا، لم يستجِب سوى 60 ألفاً (أي 3%) من هؤلاء لدعوة الحركة الصهيونية إلى الهجرة إلى "أرض إسرائيل".
  • أهم ما يمكن أن يقال عن الصهيونية، إن هذه الحركة تطلعت إلى الاستيطان في أرض آهلة. ففي نهاية القرن التاسع عشر، كان يعيش في "أرض إسرائيل" نحو 700 ألف نسمة، وعُشر هؤلاء فقط كانوا يهوداً. كان هناك مَن حذّر من النتائج الوخيمة التي ستنجم عن الهجرة إلى بلد آهل، بينهم "أحاد هعام"[1]، والمربي والباحث اللغوي إسحق إبشتاين، وآخرون. وفعلاً، تصاعدت إلى جانب القومية اليهودية أيضاً حركة وطنية فلسطينية كافحت من أجل الحفاظ على مكانتها في البلد.
  • استمر فشل الحركة الصهيونية في زيادة عدد المهاجرين اليهود إلى البلد طوال النصف الأول من القرن العشرين. وبسبب هذا الفشل، كان العرب ما زالوا يشكلون الأغلبية حتى عشية "حرب الاستقلال". فمثلاً، كانت نسبة العرب من سكان الدولة اليهودية، التي كان من المفترض أن تنشأ، وفقاً لقرار التقسيم في سنة 1947، نحو 40%. وفي "حرب الاستقلال"، طُرد، أو هرب، نحو 700 ألف عربي، ودُمِّرت 400 قرية عربية تقريباً. هذه النكبة الفلسطينية الكبيرة حكمت على إسرائيل بالاستمرار في عنف استمر عقوداً بعدها. لم يتم ضمان وجود أغلبية يهودية كبرى داخل الدولة اليهودية، إلّا بعد وقوع النكبة، وحتى مع ذلك، ظل العرب يمثلون نحو 15% من مجموع سكان الدولة.
  • وبسبب وجود مجموعة عربية كبيرة في "أرض إسرائيل"، تعيّن على الصهيونية تبنّي استراتيجية التصالح والتسوية مع سكان البلد، منذ نشأتها. لكن منذ الثورة العربية في الفترة 1936-1939، تبنّت الصهيونية نهجاً عسكرياً يؤسس العلاقات مع العرب، استناداً إلى القوة. تعزز هذا النهج خلال "عمليات الثأر" في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، حين قُتل خلالها عشرات العرب في كل عملية. هذه العمليات، التي كان محركها السياسي رئيس هيئة الأركان موشيه دايان، أحبطت أيضاً جهود موشيه شاريت من أجل التوصل إلى تسوية سياسية مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
  • مثّلت حرب الأيام الستة مرحلة فاصلة مهمة في تاريخ العلاقات بين الصهيونية وسكان البلد، فخلال هذه الحرب، وقعت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي. ثم جاء تحوُّل كبير آخر في سنة 1977، مع صعود حزب "الليكود" إلى السلطة. وفي ظل حكومات اليمين، اعتبرت الصهيونية أن الاستمرار في السيطرة على "أرض إسرائيل" كلها، والاستيطان فيها - وليس تحقيق السلام مع الشعب الفلسطيني - هو الهدف الوطني الأعلى. وبهذا، حكمت حكومات اليمين على مواطني إسرائيل بالاستمرار في حالة الحرب مع الشعب الفلسطيني أعواماً طويلة.
  • تجلّت سياسة اليمين بصورة واضحة خلال سنوات حُكم بنيامين نتنياهو. وكما هو معروف، لقد صاغ نتنياهو سياسة الفصل بين السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وبين "حماس" في قطاع غزة، بهدف تجنُّب الحاجة إلى تسوية سياسية في الضفة الغربية، وهو ما كان يتطلب الاعتراف بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني والانسحاب من مساحات شاسعة، إذ سعى نتنياهو للحفاظ على حُكم "حماس" في غزة، لكي يصون ادّعاءه بشأن عدم إمكان التوصل إلى تسوية سياسية مع الفلسطينيين، لأن "منظمة إرهابية" تسيطر على نصفهم تقريباً. وفي الوقت نفسه، بذل نتنياهو كل ما في وسعه لتقويض مكانة السلطة الفلسطينية التي تحكم الضفة الغربية، وتتعاون مع إسرائيل منذ اتفاق أوسلو. كما سعى نتنياهو لتطوير سياسة تهدف إلى "تجاوُز" المطالب السياسية الفلسطينية من خلال توقيع اتفاقيات سلام مع دول بعيدة، مثل المغرب ودول الخليج.
  • بسبب هذه السياسة، فوّت نتنياهو فرصة تحقيق السلام مع الفلسطينيين في إطار معاهدة سلام إقليمي تشمل أيضاً السعودية. كان مثل هذا السلام يتطلب الاعتراف بالحقوق السياسية للفلسطينيين وانسحاباً واسعاً من الضفة الغربية، وهو ما لم يكن نتنياهو مستعداً له.
  • إن الخطاب الذي يسود إسرائيل منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر هو خطاب تقني-عسكري في الأساس. ونادراً ما يتم تناوُل السياق السياسي للأحداث، ومفاده أن واحداً من الأسباب الرئيسية للعنف الفلسطيني الممارَس ضد إسرائيل هو رفض حكومات اليمين السعي لتسوية تعترف بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني. وما دامت إسرائيل لم تعترف بهذه الحقوق، فإنها تحكم على نفسها بجولات عنف لا نهاية لها. هذا العنف سيقوّض مكانة الديمقراطية الليبرالية في الدولة، ويُبرز قوى متطرفة، مثل إيتمار بن غفير، ويشجع هجرة الذين لا يرغبون في المشاركة في جولات العنف، أو العيش في نظام تصبح مكوناته الغربية أكثر هشاشةً، شيئاً فشيئاً.
  • طبعاً، يستند مؤيّدو الحفاظ على الوضع القائم إلى الذرائع الأمنية: فهم يزعمون أن الانسحاب من الضفة الغربية سيشكل تهديداً وجودياً للدولة. في المقابل، يجب الاستشهاد بما يقوله إيهود باراك وأعضاء حركة "ضباط من أجل أمن إسرائيل"[2]  وآخرون: فحتى بعد انسحاب إسرائيل، يمكن إجراء ترتيبات أمنية في الضفة الغربية (نزع السلاح، الإبقاء على قواعد عسكرية إسرائيلية) توفُّر استجابة كافية لحاجات الدولة الأمنية.
  • إذا ما كانت إسرائيل ترغب في تجنُّب جولات العنف المستمرة مع جيرانها، والتي ستقوّض أسس وجود الدولة، فعليها أن تتبنى نهجاً يعتبر التوصل إلى اتفاقيات مع الشعب الفلسطيني هدفاً وطنياً أعلى. وللأسف الشديد، فإن هذا الموقف لم يعد يتحدث عنه أحد من الناطقين باسم المعارضة، ولا من الذين يتحدثون في قنوات التلفزة. وعلى الرغم من الإخفاقات المتواصلة من جانب اليمين، والتي باتت أثمانها أكثر فداحةً، يوماً بعد يوم، فإن الخطاب السياسي الإسرائيلي برمّته، تقريباً، لا يزال خاضعاً لطريقة التفكير اليمينية. مثلُ هذه الحالة يعرّض استمرار وجود الدولة للخطر المحقّق.

__________

[1] أحد أبرز الشخصيات في حركة الصهيونية الثقافية. وُلد في أوكرانيا، وكان له تأثير كبير في تطور "التيار الصهيوني الروحاني" من خلال دفاعه عمّا سمّاه "النهضة الثقافية اليهودية". كان تركيز هذا التيار، بعكس تيودور هرتزل، الذي ركز على الصهيونية السياسية وأسس الدولة اليهودية، بصفتها حلاً عملياً للمسألة اليهودية في أوروبا، ينصبّ على إحياء الهوية والثقافة اليهودية، بافتراض أن "المجتمع اليهودي" يجب أن يؤسَّس أولاً على أساس ثقافي وروحي قوي، قبل أن يسعى لإنشاء دولة. كتب أحاد هعام العديد من المقالات عن اليهودية، والأخلاق، والثقافة، ودعا إلى تأسيس "مركز روحي" للشعب اليهودي في فلسطين، مع تركيزه على التعليم والثقافة أكثر من التركيز على النشاط السياسي.

[2] حركة غير حزبية تضم أكثر من 300 ضابط رفيع من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي، بالإضافة إلى مسؤولين سابقين في كل من الشاباك، والموساد، والشرطة الإسرائيلية. تسعى الحركة للحفاظ على الصبغة "اليهودية الديمقراطية" لإسرائيل. ويؤمن أعضاؤها بأن الانفصال عن الفلسطينيين في إطار مبادرة إقليمية هو أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف.

 

المزيد ضمن العدد