الحقائق الفارغة والأكاذيب الأُخرى
المصدر
قناة N12

موقع إخباري يومي يضم، إلى جانب الأخبار، تعليقات يكتبها عدد من المحللين من الشخصيات الأمنية السابقة، ومن المعلّقين المعروفين.

المؤلف
  • بتاريخ 14/5/1974، سيطرت خلية من "المخربين" تابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على مدرسة "نتيف مئير" في بلدة معلوت [في شمال فلسطين المحتلة]، وأخذت أكثر من ثمانين تلميذاً ومعلماً كرهائن. طالب الخاطفون بإطلاق سراح 20 من رفاقهم في السجون. لم يكن لدى وزير الدفاع، آنذاك، موشيه دايان، ولا رئيسة الحكومة غولدا مائير، أيّ نية للاستسلام لمطالب الخاطفين. قُتل 22 طفلاً في أثناء محاولة الجيش الإسرائيلي السيطرة على المدرسة. وفي ذلك الوقت، لم يخطر في بال أيّ إسرائيلي، سواء من اليمين أو اليسار، أن يصف مائير ودايان بالقتَلة.
  • وفي 9 تشرين الأول/أكتوبر 1994، تم اختطاف الجندي في لواء "غولاني"، نحشون فاكسمان، واحتُجز في منزل في بلدة بير نبالا. وطالب الخاطفون من "حماس" رئيس الوزراء إسحاق رابين بالإفراج عن أحمد ياسين و200 آخرين من المعتقلين. فشلت عملية الإنقاذ، وقُتل فاكسمان، ولم يتهم أيّ شخص رابين بالمسؤولية عن القتل. واليوم، عندما يتهمون الحكومة بأنها، عندما ترفض الاستسلام التام لحركة "حماس"، فإنها "تتخلى عن القيم التي تربينا عليها"، وعن "التضامن المتبادل"، فهل يعني ذلك أن غولدا ورابين لم يكن لديهما قيم؟ يبدو أن القيم التي "نشأنا عليها" هي بالضبط تلك التي وجهت قادة إسرائيل في الماضي. وهي قيم انتهكها شمعون بيرس (في صفقة جبريل [صفقة التبادل مع الجبهة الشعبية - القيادة العامة])، وأريئيل شارون (صفقة تيننباوم [صفقة التبادل مع حزب الله])، وكان بنيامين نتنياهو أكبر المجرمين، في صفقة شاليط.
  • لكن عندما قرر مجلس الوزراء الأمني، الأسبوع الماضي (وبخلاف رأي غالانت)، رفض طلب "حماس" الانسحاب من محور فيلادلفيا (في إطار مطالب الحركة بشأن "صفقة الأسرى")، واستمرت عمليات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، فقُتل ستة من الرهائن كانوا محتجزين لدى "حماس" منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر. ربما كان هؤلاء يخشون من اقتراب قوات الجيش الإسرائيلي من النفق الذي كانوا يحتجزون فيه الرهائن. ربما كان هذا رداً من السنوار على قرار "الكابينيت". انتشل الجيش الإسرائيلي جثث الرهائن القتلى من النفق، وعلى الفور، اندلعت العاصفة. من أصغر المعلّقين في الإنترنت إلى رئيس المعارضة، اتهموا نتنياهو وحكومته بقتل الرهائن. ليس أقل من ذلك.
  • إن قرار عدم الاستسلام لمطالب المنظمات "الإرهابية" ومحاولة إنقاذ الرهائن بالقوة، سواء في عملية واحدة، أو سلسلة من العمليات العسكرية، هو من دون شك، من أصعب القرارات التي يمكن أن يتخذها رئيس وزراء في إسرائيل. في الماضي، كان هذا الأمر يُعتبر علامة على الثبات الأخلاقي، وإشارة إلى المستوى العالي من القيم. أمّا اليوم، فإن مجرد الرفض للاستسلام لحركة "حماس" يُعتبر جريمة أخلاقية، في نظر عدد كبير من أفراد المجتمع. أنا لا أُدرج هنا، في هذه المعادلة، عائلات الرهائن. لكن السياسيين الذين يرقصون على دماء القتلى هم أحطّ مَن امتهن هذه المهنة.

إذا انسحبنا، فلن نعود

  • هذا الجدل الذي يقسّم المجتمع الإسرائيلي رهيب. فحياة العشرات من الرهائن الذين ما زالوا يعيشون في ظل خطر محقق، في مقابل الخطر الوجودي لإسرائيل، إذا ما نجت "حماس" كتنظيم، وخرجت منتصرة من هذه الحرب. تُعد الحجج المؤيدة والمعارضة أمنية، واجتماعية، وأخلاقية، ودينية، وسياسية. لكن الذرائع الحقيقية، للأسف، هي في معظمها، سياسية. لا أريد التحدث كثيراً عن هذا الموضوع الدامي. لقد قيل كل ما يمكن قوله هنا. لكننا نرى يومياً، عبر نشرات الأخبار الرئيسية، جوقة من الجنرالات السابقين. وهم الأبناء الروحيون (وفي بعض الأحيان الأبناء البيولوجيون) لأولئك الذين كانوا يعرفون أنه لا يجب الاستسلام لـ"الإرهاب"، إنهم تلامذة أولئك الذين ضحوا بحياتهم من أجل هذه المبادئ، وهؤلاء الجنرالات المنافقون أنفسهم الذين تحدثوا سابقاً، عن ضرورة سحق وتدمير "حماس". حتى في ذلك الوقت، كانوا يعلمون بوجود رهائن. كنا جميعاً نعلم بذلك. لكنهم الآن، غيّروا مواقفهم من أجل مصالحهم السياسية.
  • ما من خلاف على أن محور فيلادلفيا وما تحته هما شريان حياة "حماس". بتعاون كامل من مصر، وبغضّ النظر عمّن شغل مقاعد الحكومات الإسرائيلية على مرّ السنين، فإن هيئة الأركان العامة، القيادة تلو الأُخرى، ورؤساء جهاز الأمن العام (الشاباك) والموساد، الذين كانوا يعرفون وغضّوا الطرف، خدعوا أنفسهم وخدعونا بأنه عندما يحين الوقت، فإن إسرائيل ستعرف كيف تسحق "حماس". هؤلاء، بسماحهم بتدفّق الأموال بشكل علني، وغضّ الطرف عن تجارة السلاح وتهريب الذخيرة إلى غزة وبناء مدينة الأنفاق تحتها، قاموا بتربية "وحش" "حماس". إن الحكومات الإسرائيلية وقادة أجهزتها الأمنية، الذين كانوا يعِدوننا قبل أوسلو، وقبل الانسحاب من غزة، بأنهم سيقلبون الدنيا، إذا ما تم إطلاق صاروخ واحد من وراء الحدود، خدعونا عمداً. حسناً، لا يُلزم المرء بدفع ضريبة على كلماته. كما لو كان هناك تناغُم بين اثنتين من البغايا، إحداهما قادة الأجهزة الأمنية، والأُخرى رؤساء الحكومات الإسرائيلية.
  • لم يرغب الجيش في خوض حرب شاملة في غزة، في حين اعتمدت القيادة السياسية على الوعود الفارغة من قادة الأمن، الذين يتماشون مع سياستها الضعيفة. لقد روّجوا معاً أكذوبة أن "حماس ترغب في التهدئة"، وأنه "إذا توفّر مصدر رزق في غزة، فإننا سنحصل على الهدوء". لكن "الوحش" استمر في النمو. لقد غفلت القوات المسلحة الإسرائيلية و"الشاباك" عن الحذر، لأن السِنوار ورفاقه، الذين أطلق نتنياهو سراحهم في صفقة شاليط، كانوا أذكى وأكثر حيلةً منهم. لكن طوال هذا الوقت، كان الجنرالات الذين جلسوا في هيئة الأركان العامة، وهم الآن يجلسون في الاستوديوهات، يعرفون ما يحدث جيداً وأنا أتذكر وعودهم الفارغة في لجنة الخارجية والأمن في الكنيست في أثناء فك الارتباط كانوا يدركون تماماً أنه لا يمكن خنق "حماس"، إلّا إذا قمنا بقطع محور فيلادلفيا والسيطرة على أعماقه. لكنهم وحكوماتهم لم يرغبوا في الحرب، لأن تكاليفها باهظة، ولأنها ليست جيدة للاستقرار الاقتصادي والسياسي في البلد، ولأن هذا ما طلبه الأميركيون. ولم تكن أيّ "جولة قتالية" كافية لكي تُظهر لنا ضرورة شن حرب شاملة في القطاع.
  • إلا إن "مجزرة" السابع من تشرين الأول/أكتوبر واختطاف الرهائن وفّرا لإسرائيل الذريعة التي كانت تنتظرها. إذ شهدت إجماعاً داخلياً وخارجياً، وهو أمر لم يحدث منذ أعوام طويلة. كل مَن يعِدنا بأنه إذا ما انسحبنا من محور فيلادلفيا "فيمكننا دائماً العودة" لإكمال مهمة القضاء على "حماس"، بعد صفقة الأسرى، يكذب عمداً. يكذب لأنه يعلم بأن "حماس" لن تقوم بتسليم كل الرهائن. ربما تشتري لنفسها انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع بأكمله، ومن شريان حياتها، محور فيلادلفيا، بصورة خاصة، في مقابل عشرين رهينة. لكنها لن تتخلى طوعاً قط عن بوليصة التأمين أي الرهائن المتبقين. ولهذا السبب بالتحديد، أمر السنوار بعدم قتل الجميع، وإبقاء العديد من "بوالص التأمين".
  • هؤلاء يكذبون عن سابق ترصّد، لأنهم يعِدوننا أنه إذا توقف السنوار، بعد المرحلة الأولى من الصفقة، ولم يفرج عن الجميع، فنحن قادرون دائماً على العودة والسيطرة على محور فيلادلفيا، ومحور نيتساريم، وكل معاقل "الإرهابيين" التي ستُبنى خلال الهدنة. هؤلاء يكذبون قصداً لأنهم يعرفون جيداً ما سيفعله السنوار في اليوم الذي تتحرك أول دبابة لإعادة السيطرة على ما تم تحريره بدماء كثيرة. في ذلك اليوم بالضبط، ستقتل "حماس" عدداً آخر من الرهائن، وتهدد بقتل رهينة يومياً، إذا لم ينسحب الجيش الإسرائيلي فوراً. كل هؤلاء الذين يعِدوننا اليوم بأننا نستطيع العودة دائماً سيظهرون في استوديوهات الغد، ويصفون رئيس الوزراء بأنه قاتل لأنه لم يستسلم لـ "صفقة جديدة". إن أفضل دليل يرشد السنوار إلى أنه يجب ألّا يتخلى عن جميع الرهائن، وأنه يجب عليه دائماً الاحتفاظ بأوراق مساومة، سيكون الاستسلام الآن. إن التخلي عن محور فيلادلفيا يعني التخلي عن إمكان قتل السنوار، وهزيمة "حماس"، ومنع عودتها من خلال إمدادات الأسلحة والأموال، عبر معبر رفح ومحور فيلادلفيا، وتحت الأرض.
  • هناك كليشيه فارغ آخر يلوح في الأفق هذه الأيام: " إن 'حماس' لم تتمكن من اختراق الحاجز التحت أرضي." هذا صحيح، لم يتمكن "الإرهابيون" من اختراق ما تحت الجدار، لكنهم عبروا فوقه. كما لم يتم اختراق خط ماجينو في الحرب العالمية الثانية، إلّا إن الألمان تجاوزوه واحتلوا فرنسا. الأمر نفسه جرى في خط بارليف في حرب "يوم الغفران"، حيث تجاوز المصريون المعاقل التي أصبحت مصائد للموت والأسر. فماذا يهم، إذا ما تم اختراق الحاجز تحت الأرض، أو فوقها؟ عندما يتمكن آلاف "الإرهابيين" من عبوره فوق الأرض باستخدام بضع عشرات من الكيلوغرامات من المتفجرات، والجرارات الزراعية القديمة، والدراجات النارية، والعربات؟ إن الجنرالات الذين يقدمون المشورة اليوم لإنشاء حاجز مشابه على طول محور فيلادلفيا، هم الذين تسببوا بإخفاقات الماضي.