لا يزال من الممكن تلافي خطر التدهور نحو حرب متعددة الجبهات ودائمة
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

المؤلف
  • تُحيي إسرائيل، في هذه الأيام، ذكرى مرور عام على الحرب التي بدأت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والتي تتميز بتعدد الجبهات ("وحدة الساحات" كما يسميها أعداؤها): فقطاع غزة، الذي تم اعتباره الجبهة الأساسية خلال الـ 11 شهراً الأولى من الحملة؛ ولبنان الذي تم تصنيفه كجبهة رئيسية منذ 19 أيلول/سبتمبر، في حين من المحتمل أن تكون إيران هي الجبهة التالية. تشمل الجبهات الأُخرى البحر الأحمر، والضفة الغربية، وسورية، والعراق. يسعى أعداء إسرائيل، بقيادة إيران، لتدميرها من خلال حرب استنزاف مستمرة ومتعددة الجبهات، مستغلين الثغرات في المجتمع الإسرائيلي وفقدان الشعور بالهدف المشترك فيما بينه. كما يستغلون الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني كمحور رئيسي في حجتهم لنزع الشرعية عن دولة إسرائيل.
  • تُعتبر هذه الحرب ربما الفصل الأصعب في تاريخ إسرائيل منذ تأسيسها: فهي الحرب الأطول منذ حرب الاستقلال؛ وهي الأكثر تعقيداً، من حيث نطاق الأضرار والتهديدات للجبهة الداخلية؛ وبعد مرور عام على اندلاعها، ما زلنا نفتقد مساراً يضمن تحرير 101 رهينة ما زالوا محتجزين لدى "حماس" في غزة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر؛ تُدار الحرب من دون أهداف سياسية واضحة، أو آلية لإنهائها، مع انتقال الجهود العسكرية من جبهة إلى أُخرى، وبوتيرة متفاوتة، وسط شعور عام لدى الجمهور بأن "علينا أن نعيش بالسيف إلى الأبد". وكل هذا، في حين يشير الاتجاه العام إلى اندفاعنا نحو حرب إقليمية مستمرة، في الوقت الذي تتقدم إسرائيل بسرعة نحو حالة من العزلة الدولية الشاملة.
  • تواجه حكومة إسرائيل، إلى الآن، مصاعب في بلورة استراتيجية خروج في كلٍّ من جبهتَي غزة ولبنان. وعلى الرغم من أن خصوم دولة إسرائيل في هاتين الجبهتين هم كناية عن جهات غير حكومية، مدفوعة بأيديولوجيا دينية، لا تعترف بحق إسرائيل في الوجود، فمن الصعب، بل يكاد يكون مستحيلاً التوصل إلى ترتيبات سياسية مستقرة معها في المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، فإن النظام الدولي لا يعمل بفعالية، بسبب غياب التواصل الإيجابي بين القوى الكبرى (الولايات المتحدة في مقابل روسيا والصين)، وهو ما يجعل من الصعب اتخاذ قرار مشترك يفرض على الأطراف وقف القتال، ويضمن أمن إسرائيل. وعلاوةً على ذلك، فإن إسرائيل على وشك الدخول في حرب مباشرة مع إيران أقوى أعداء إسرائيل، والتي تلمح وتُهدد بشكل صريح بأن أيّ خطوة عسكرية إسرائيلية متطرفة ضدها، ستجبرها على تطوير قدرة نووية عسكرية (وإيران تمتلك كمية كافية من اليورانيوم المخصب لصنع عدة قنابل والمعرفة اللازمة لتجميع جهاز تفجير نووي، بالإضافة إلى الصواريخ القادرة على حمل رأس نووي).
  • ومع هذا كله، فإن إسرائيل ترفض أيّ مبادرة لإنهاء الحرب، بما في ذلك تلك التي قدمها الرئيس الأميركي جو بايدن، وكذلك المبادرات التي طرحتها الدول الإقليمية الشريكة، دول السلام والدول العربية البراغماتية. وصرّح وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، خلال مؤتمر صحافي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد بيان ممثلي الدول العربية، قائلاً: "جاء رئيس وزراء إسرائيل إلى هنا اليوم، وقال إن إسرائيل محاطة بأشخاص يسعون لتدميرها. نحن هنا أعضاء في لجنة تمثل 57 دولة عربية وإسلامية، ويمكنني أن أقول لكم بشكل واضح: إننا جميعاً، في هذه اللحظة، على استعداد لضمان أمن إسرائيل في سياق إنهاء الاحتلال وإقامة دولة فلسطينية". إلّا إن الحكومة الإسرائيلية الحالية تعتبر إقامة دولة فلسطينية تهديداً وجودياً لإسرائيل، ولذلك، فإن ما تبقى لها هو مواصلة القتال في قطاع غزة، ومنع السلطة الفلسطينية من العودة للسيطرة على المنطقة؛ وترك الضفة الغربية في حالة من الفوضى قد تؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية التي تشكل تهديداً، باعتبارها منصة محتملة لدولة فلسطينية؛ وتدمير البنية التحتية لحزب الله في لبنان؛ وإدارة معركة ضربات متبادلة مع إيران.
  • تؤدي الإجراءات التي تتخذها إسرائيل في قطاع غزة إلى احتلال القطاع وفرض حُكم عسكري عليه. وصوّت المجلس الوزاري الأمني المصغر في نهاية آب/أغسطس لمصلحة إبقاء قوات الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا. وقال رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إن كارثة 7 تشرين الأول/ أكتوبر حدثت بسبب عدم سيطرة إسرائيل على المحور. وأضاف أن هذا المحور كان يُستخدم لنقل كميات هائلة من الأسلحة التي استخدمتها المنظمات "الإرهابية" في غزة، وأن "هذا الوضع لن يتكرر مرة أُخرى"، مؤكداً أن إسرائيل مصممة هذه المرة على إبقاء هذه الحدود تحت سيطرتها. وهذا يعني أن المسؤولية القانونية والعملية عن قطاع غزة ستقع على عاتق إسرائيل.
  • إن السيطرة على المحور تعني حصاراً كاملاً لقطاع غزة؛ وتدعم الادعاء القائل إن غزة تعيش تحت الحصار وتحت الاحتلال الإسرائيلي فعلياً؛ وتُسقط الأساس الذي اعتمدت عليه إسرائيل سابقاً، بأنها ليست مسؤولة بالكامل عمّا يحدث في القطاع لأن غزة مفتوحة تجاه مصر. أمّا العواقب العملية لهذه السياسة فهي تحميل إسرائيل مسؤولية كاملة عن مليونَي فلسطيني يعيشون في منطقة كارثية، ومواجهة مستمرة مع "الإرهاب" وحرب العصابات التي ستقودها بقايا "حماس" والفصائل المسلحة الأُخرى المنتمية إلى "محور المقاومة".
  • إن رفض الحكومة الإسرائيلية، حتى الآن، أيّ خيار يضمن استقرار وإعادة تشكيل القطاع، وعدم اعتبار السلطة الفلسطينية لاعباً ذا صلة في إدارة القطاع، بدلاً من "حماس"، وعدم العمل على تنمية قيادة محلية معتدلة هناك، ترك "حماس" كجهة مسيطرة فعلياً على تقديم المساعدات الإنسانية، وعلى الملاجئ التي يقطن فيها معظم سكان القطاع.
  • ومع ذلك، فإن استمرار وجود "حماس" واحتجاز الرهائن يمثلان مصدر الشرعية الإسرائيلية لمواصلة الحرب في القطاع ورفض أيّ مبادرة بشأن وقف إطلاق النار. لكن بمجرد أن يعلن المجتمع الدولي أن القطاع يخضع للاحتلال الإسرائيلي، لن يتطوع أيّ طرف لتحمّل المسؤولية المدنية والأمنية (النظام العام) عن القطاع، أو للمساعدة في إعادة إعمار غزة، وستبقى إسرائيل وحدها مع مشكلة غزة فترة طويلة. حينها، سيكون لأعداء إسرائيل شرعية لمواصلة الحرب المستمرة ضدها؛ وستقل فرص استعادة الرهائن في إطار تسوية؛ وسيستمر "الإرهاب" والمقاومة من داخل القطاع، وستزداد دوافع إيران ووكلائها إلى مواصلة الهجوم على إسرائيل من جبهات متعددة في آن معاً؛ كما ستجد الدول العربية البراغماتية صعوبة في التقدم في عمليات التطبيع مع إسرائيل، وبالتأكيد في تشكيل تحالف إقليمي معها، وخصوصاً في مواجهة إيران.
  • أمّا فيما يتعلق بجبهة لبنان، فلم تحدد الحكومة الإسرائيلية هدفاً سياسياً واضحاً، ورفضت أيضاً مبادرة مشتركة من الولايات المتحدة وفرنسا بشأن إعلان وقف موقت لإطلاق النار والتفاوض بشأن تسوية سياسية تُبعد حزب الله والتهديدات الأمنية عن حدودها الشمالية. وعلى الرغم من أن التجربة في لبنان تشير إلى أن الترتيبات الأمنية في إطار القرارات الدولية، مثل قرار مجلس الأمن 1701، لا توفر حلاً فعالاً لنمو قوى "الإرهاب" بالقرب من الحدود الشمالية لإسرائيل، فلا ينبغي لإسرائيل أن تنبهر بالنجاح الكبير في اغتيال نصر الله وقيادة حزب الله وقدراته الاستراتيجية، وتنجرف إلى حرب طويلة في لبنان، من دون أهداف سياسية واضحة.
  • من الضروري وضع آلية لإنهاء القتال في أقرب وقت ممكن، قبل أن يتعافى حزب الله من الصدمة التي يعيشها، وينتقل إلى مرحلة البقاء والاستنزاف، وبمرور الوقت، ستتراجع فعالية ضربات الجيش الإسرائيلي ضد المنظمة. ولتفادي العودة إلى تسوية سياسية تتآكل مع الزمن، ولضمان تحقيق الأمن والشعور بالأمان الذي سيمكّن سكان الشمال من العودة إلى منازلهم، يجب على إسرائيل أن تضمن تنفيذ التسوية بصرامة، باستخدام القوة بشكل حاسم في حال لم يتم تنفيذ الترتيبات الأمنية. وهذا المبدأ ضروري أيضاً في قطاع غزة.

ملاحظات ختامية

  • كانت العقيدة الأمنية المتبعة في إسرائيل تنص على ضرورة السعي نحو خوض حروب قصيرة بقدر الإمكان، نظراً إلى نقص في مواردها البشرية والمادية وعُمقها الاستراتيجي، وعلى السعي نحو فترات هدوء طويلة تتيح بناء الدولة وازدهارها. ومع ذلك، لم تقم إسرائيل بتطوير عقيدة أمنية تتناسب مع حالة الحرب المستمرة، المتعددة الجبهات، والتي تحمل تداعيات ثقيلة على الجيش والمجتمع والاقتصاد، ولم يتم فحصها حتى الآن بشكل مهني.
  • علاوةً على ذلك، وبعكس الفكرة المنتشرة بين الجمهور الإسرائيلي أن "علينا أن نعيش إلى الأبد بالسيف"، فإن الهجوم والمبادرة لا يقتصران على ساحة المعركة فقط، بل يشملان أيضاً التحرك السياسي. أمام إسرائيل فرصة لمواصلة إضعاف المحور الإيراني، بعد الضربة القاسية لوكلائه الرئيسيين - حزب الله و"حماس" - وكذلك لبناء تحالف إقليمي أمني واقتصادي مع الدول العربية المعتدلة. ولهذا، يجب على إسرائيل الاستجابة للمبادرات السياسية، وخاصة تلك التي تقدمها الولايات المتحدة، كما ينبغي أن تُظهر التزاماً بالتقدم نحو تسوية سياسية مع التيار الوطني الفلسطيني/ "فتح"/السلطة الفلسطينية، برعاية وضمانات من الدول العربية المعتدلة، مع تجاوز الفجوات والتحديات في التنفيذ، عبر نهج متعدد الأطراف، وبمشاركة الدول العربية المعتدلة.