نحن في الطريق إلى التسبب بضرر لا يمكن إصلاحه في غزة
تاريخ المقال
المصدر
- ينصبّ الاهتمام العام والإعلامي حالياً، وبشكل طبيعي، على ما يحدث على الحدود الشمالية، وما قد يحدث في الجبهة الشرقية، فهذا الاشتباك مع حزب الله، الذي يستمر بكل قوته على الرغم من الضربات التي تلقاها التنظيم، أوقع خسائر فادحة في الأرواح؛ وإلى جانب ذلك، فإن تهديدات إيران بالردّ على هجوم سلاح الجو الإسرائيلي قد تتحقق في الأيام القليلة المقبلة. ومع هذا، تدور حالياً أهم أحداث الحرب، وتحديداً في قطاع غزة.
- تنبع هذه الأهمية النسبية لِما يحدث في القطاع من وجود هدف سياسي واضح، ومن الممكن أن يرسي الإنجازات العسكرية فيه، بعكس ما يحدث على الجبهة الإيرانية، أو اللبنانية؛ في غزة، تُفرض الوقائع على الأرض كل يوم، والتي من شأنها أن تؤدي إلى الإضرار بإسرائيل إضراراً لا رجعة عنها خلال وقت قصير. فهذا الخليط المكون من نشاط عسكري لا يجري الكشف عن كامل تفاصيله للجمهور، والممزوج بدفع جزء من دوائر صُنع القرار السياسي الإسرائيلي في اتجاه تبنّي رؤية لم تعرّفها الحكومة قط على أنها هدف من أهداف الحرب [ضمّ القطاع]، إلى جانب غياب أيّ مبادرة سياسية إلى حل لِما يجري هناك، كل هذا يدفع بإسرائيل لتصبح المحتل في قطاع غزة، بصورة عملية، وهو ما سيكبّدها أثماناً لا يمكن تصوُّرها، سواء من ناحية مكانتها الدولية، أو الخسائر التي ستلحق بالجيش. وبعكس الكلام اللامتناهي المكرس لتحليل خياراتنا في مواجهة إيران، فإن كل ما يحدث في غزة يجري تقريباً من دون أيّ مناقشات عامة.
- تعود قيادة الجيش الإسرائيلي لتكرر وتتعهد أنها لا تنوي تنفيذ "خطة الجنرالات". لكن الجيش يقوم، عملانياً، بتطبيق هذا المخطط الخطِر: فهو يمارس ضغطاً هائلاً وعنيفاً على سكان بعض مناطق شمال القطاع من أجل دفعهم إلى الهجرة جنوباً (وهو أمر لم يستجب له سوى جزء من السكان المدنيين)، والجيش يستخدم قوة نارية تؤدي إلى مقتل عدد كبير من الغزيين، وتبدو انعكاساتها عبر وسائل الإعلام العالمي، كأنها وصلت إلى عتبة جرائم الحرب. صحيح أن إسرائيل لا تنوي تنفيذ الجزء الذي أثار الضجة في هذه الخطة، وهو تجويع مَن يبقى في شمال غزة، بادّعاء أن مَن لم يهجرها سيُعتبر من عناصر "حماس". لكن في ظل ما يمارسه الجيش حقاً على الأرض، قد لا تكون النتيجة أقل خطراً من ذلك.
- أمّا البديل من الحصار والتجويع، إذا اختارته إسرائيل، فهو يتمثل في تحمُّل إسرائيل مسؤولية مصير مئات الآلاف من الأشخاص، بما في ذلك ضرورة توفير حاجاتهم الأساسية. حتى لو نفّذ ذلك متعاقدون أجانب. وبغض النظر عن الجهة التي ستتحمل التكاليف، فإن إسرائيل هي التي ستكون مسؤولة عن الوضع الإنساني لهؤلاء، وعن الأحداث الحتمية التي تتمثل في الاضطرابات ومقتل المدنيين، نتيجة الصراع على الغذاء والماء، والحوادث التي ستقع، من دون شك، عندما تُجابَه تلك الشركات الخاصة بعمليات حرب العصابات و"إرهاب" خلايا "حماس".
- قد ينجح، على المستوى الداخلي، التظاهر بأن هذه المسؤولية لن تكون على عاتق إسرائيل، في ظل لا مبالاة الإسرائيليين تجاه مصير سكان غزة. لكن خارجياً، سيمثل الأمر خطوة كبيرة، وربما غير قابلة للتغيير، لتثبيت صورة إسرائيل كدولة مارقة وخارجة على القانون. دولة من النوع الذي يجب عدم التعامل معه تجارياً، ولا يجري إمداده بالأسلحة (وتصريحات بعض أصدقائنا المقربين بشأن حظر توريد السلاح ليست سوى بداية المشوار)، سنصبح بلداً يُحرم من المظلة الدبلوماسية، وبذا، فإن إسرائيل، التي سيُنظر إليها على أنها دولة محتلة لغزة، ستكون دولة منبوذة، ومَن يستخف بذلك، أو يعتقد أننا قادرون على تحمّل هذه العواقب، فهو إمّا واهم، وإمّا يعتنق رؤية مسيانية.
- هذه العمليات التي يقوم بها الجيش منذ اليوم، وتلك العمليات التي سيضطر إلى القيام بها في إطار ممارسة الضغط على المدنيين، بدافع من مسؤوليته الإنسانية، بات لها أثمان باهظة، وأساساً في داخل الجيش نفسه. في هذا الشأن أيضاً، تعاني التغطية الإعلامية [الإسرائيلية الموجهة إلى الجمهور الإسرائيلي] نقصاً؛ لكن مَن يصغي إلى ما يجري في الميدان سيتمكن، بوضوح، من رؤية هذه الظواهر المسيانية التي عانى جرّاءها الجيش في حالات مماثلة، لكنها أقل خطورة، على غرار ما جرى خلال فترة بقاء الجيش في لبنان في الفترة 1982-1985. وهذه المرة، تترافق هذه الظواهر أيضاً مع مظاهر خرق الجنود القانون بحماسة، بذريعة الانتقام لـ"فظائع" 7 أكتوبر، والتي يتم تبريرها بلغة مشبعة بالكراهية. فمن يقول إن "ما يُرتكب في غزة هو نتاج مشاعر الجنود"، يتجاهل أن هذا لا يتّسق مع روح الجيش الإسرائيلي. بيْد أن هذه الظواهر، حتى لو نظرنا إلى الجانب العملاني الصرف منها، ستتسبب بتآكل قوة السلاحَين النظامي والاحتياطي، أكثر فأكثر، وهما الآن، ينوءان أصلاً تحت ضغط عبء القتال المتواصل على مدار سنة في ثلاث جبهات برية (غزة، ولبنان، والضفة الغربية).
- لم يكن الجيل الحالي من كبار قادة الجيش التحق بالخدمة العسكرية خلال سنوات حرب لبنان الأولى، في ذلك الحين الذي سجّل الجيش الإسرائيلي فيه تراجعاً حاداً في إقبال الجنود على التطوع للمناصب من رتبة ضابط، وارتفاعاً ملحوظاً فيما يسمى "الرفض المحايد" للخدمة في سلاح الاحتياط. ربما لهذا السبب، وربما بسبب عدم قدرة الضباط الكبار على مواجهة القيادة السياسية، أو عدم سماح القيادة السياسية لهم بقول الأمور كما هي، وتحمُّل مسؤولياتهم كقادة عسكريين، بات هؤلاء القادة شركاء كاملين في المسار المدمر الذي يقودونه، ويبررون هذا المسار بحجج عملياتية تبدو فارغة من محتواها عند مواجهة الواقع في الميدان.
- نحن جميعاً نتشارك الأمل بأن تفضي صفقة ما بشأن الأسرى إلى عودة مواطنينا الذين يعانون معاناة لا حد لها، ونحن شركاء في المسؤولية الأخلاقية بسبب ترك هؤلاء لمصيرهم المأساوي، وفي الوقت نفسه، فقد توفر هذه الصفقة سلّماً لنزولنا عن هذه الشجرة العالية والسامة التي تسلّقناها. لطالما تحدثت المنظومة الأمنية، على مدار شهور، عن ضرورة التوصل إلى مثل هذه الصفقة، لكن ما دامت هذه الصفقة لم تتحقق، إمّا بسبب العقبات التي يضعها رئيس الوزراء، وإمّا بسبب رفض "حماس"، فإن المؤسسة لم تضع أيّ بديل سوى الاستمرار بكل طاقتها في هذا المسار الكارثي. وعندما يحدث ذلك، فإن التساؤل عمّا إذا كان المذنبان نتنياهو وسموتريتش، أم غالانت وهاليفي، سيظل موضوعاً مطروحاً للنقاش السياسي، أو التاريخي؛ لكن الضرر الذي سيلحق بإسرائيل وجيشها واقتصادها وروحها، سيكون من الصعب تغييره.