ما الذي يدور في رأس هرتسي هليفي
تاريخ المقال
المصدر
- يوم الجمعة، زرت عائلتين فقدتا أبناءهما خلال الأسبوع الماضي في لبنان، في تلك الحادثة المأساوية التي قُتل فيها ستة مقاتلين من الكتيبة رقم 51 التابعة للواء غولاني. وسمعت العائلتان عن الأبناء الشجعان الذين قُتلوا في اشتباك مباشر مع مقاتلي حزب الله، جنباً إلى جنب، مع رفاقهم، وعن القيم التي تربوا عليها، وعن استعدادهم الكبير للمخاطرة، وهم على وعي تام بالثمن الذي قد يدفعونه. كما أدركت من حديث العائلات مدى الإنهاك الذي تسببه الحرب الطويلة، على الرغم من الحافز الكبير لديهم. ولم أستطع، في الوقت نفسه، تصديق الإحصاءات المتعلقة بتراجُع عدد الجنود في وحدات مختلفة، إلى درجة تثير الشكوك في الجاهزية العملياتية.
- كقاعدة، يطرح عدد الجرحى الذين يخسرهم الجيش الإسرائيلي خلال القتال شهرياً إحصاءً مثيراً للقلق بحد ذاته. وفي الوقت نفسه، فإن ازدياد الضغط على قوات الاحتياط بدأ يظهر في انخفاض نسب التجنيد، بالإضافة إلى تصريحات واضحة من الضباط تفيد بضرورة السماح لأفراد الاحتياط بالعودة إلى حياتهم الطبيعية، والتقليل من استدعائهم بسبب ازدياد الإرهاق لديهم. تُضاف إلى ذلك ظواهر مُقلقة تتعلق بتراجع الانضباط العملياتي.
- عندما نضع حجم الاستنزاف الكبير والثمن الباهظ للإصابات في كفة، في مقابل التراجع التدريجي في الإنجازات في كفة أُخرى، وفي ظل وجود وزير دفاع يفتقر إلى الصلاحيات المهنية لفهم الوضع، ويعجز عن مواجهة الحكومة بثبات، تُطرح التساؤلات: هل يدرك رئيس الأركان، اللواء هرتسي هليفي، أن مسؤوليته باتت الآن تتطلب الوقوف بحزم أمام دوائر صُنع القرار السياسي لتأكيد ضرورة إنهاء الحرب؟ هل سيتخذ موقفاً جريئاً من دون خوف، ويصرّ على تحقيق أهداف الحرب، وفي مقدمتها إعادة الأسرى؟
- هل رئيس الأركان، الذي أدار الحرب بشجاعة وأداء يستحقان التقدير، في هذه اللحظة التي يعاني الجيش جرّاء استنزاف كبير، وفي ظل بقاء جنوده ومجنداته في الأسر منذ 14 شهراً، يعانون مع المدنيين، يبذل كل جهد، وبكل وسيلة، لإنهاء الحرب واستعادة الأسرى الآن؟
- إذا استمر الجيش، حتى بعد 14 شهراً من القتال، في نهج تنفيذ مهمات تكتيكية فقط، تتمثل في القصف وقتل المسلحين، فهذا يشير إلى مشكلة خطِرة من الانفصال عن الواقع. وعلى الرغم من كل الإنجازات المهمة والمثيرة للإعجاب، فإن الجيش يبدو كأنه يتجاهل الواقع، ويمتنع من اتخاذ القرارات الجوهرية المطلوبة في هذه المرحلة.
شعار "النصر المطلق" لا يشكل استراتيجيا
- إن مطاردة ما تبقى من "المخربين" ليست هي الأولوية التي يجب التركيز عليها. فهذه الحرب تنطوي على قضايا أكثر تعقيداً وأهميةً تحتاج إلى مقاربة، مثل كيفية إنهاء الحرب بانتصار حاسم، قبل أن يغطي تمديدها على الإنجازات المحققة. يجب العمل على منع الاستنزاف، ووضع استراتيجيا جديدة تماماً، بناءً على المكاسب التي أُحرزت. ويبدو الإصرار على توسيع العمليات التكتيكية كأنه طريق للهروب، أو على الأقل، محاولة للتملص من مواجهة الأسئلة الكبيرة والمصيرية في هذه المرحلة المتعلقة بإنهاء الحرب والتعافي الضروري لقواتنا.
- أمّا تكرار الشعار الفارغ الذي يتحدث عن "النصر المطلق" وتقديمه كاستراتيجيا، فهو في جوهره، ليس سوى تلاعُب يتعارض مع المنطق الاستراتيجي. إن محاولة إلصاق سِمة الاستراتيجيا بما حدث، بأثر رجعي، ليست سوى ديماغوجية بحتة، لأن الاستراتيجيا يجب أن تُحدَّد مسبقاً لتكون الإطار العام الذي يوجه الخطوات العملياتية والتكتيكية. هذه المبادئ واضحة، وليست شعارات سياسية لإعادة صوغ الواقع بمفعول رجعي، بناءً على التجربة والخطأ، على الرغم من أنه لا يمكن إنكار الإنجازات المتراكمة.
- الاستراتيجيا لها أهداف واضحة قابلة للتحقيق، ويمكن قياسها. كما أنها تتضمن مراحل محددة وزمناً معيناً، وخطة تكتيكية متناسقة، تتيح تعديلها في أثناء التنفيذ، وتقييم مدى نجاح، أو فشل الاستراتيجيا. والأهم من ذلك، يجب أن تكون الاستراتيجيا مكتوبة، لا أن تقتصر على التصريحات الشفهية المجردة. هذه "الاستراتيجيا" التي يحاولون تسويقها لنا ليست سوى إعادة صوغ، هدفها تبرير غياب استراتيجيا حقيقية، وتهدف إلى توفير حرية مطلقة وخطِرة لرئيس الوزراء في إدارة الحرب، وفقاً لرؤيته، وهو ما يفسّر أيضاً إقالة غالانت.
- وفي ظل غياب استراتيجيا واضحة، يستغل الجيش الإسرائيلي حرية العمل للاستمرار في عملياته التكتيكية، واستهداف مزيد من المسلحين في غزة ولبنان. وعلى الرغم من أن القضاء على المسلحين أمر إيجابي، فإنه من الواضح عدم التمكن من تحقيق هذا الهدف بالكامل. لقد بقينا في غزة ولبنان أعواماً طويلة، ولم نتمكن من القضاء على آخر المسلحين هناك، تماماً مثلما هي الحال في عملياتنا الممتدة منذ عقود في الضفة الغربية. ولن يكون الوضع مختلفاً هذه المرة. إن الحكمة والمسؤولية القيادية تقتضيان تحديد اللحظة التي يصبح فيها الاشتباك كافياً، عندما تصبح التكلفة أعلى من الإنجاز، وعندها يجب إنهاء الجهد العسكري والانتقال إلى تسوية سياسية.
- ونظراً إلى وجود حكومة متجانسة بالكامل، تتعارض مصالحها السياسية مع الحاجة الوطنية إلى خوض حرب فعالة، وتسيطر عليها اعتبارات سياسية بحتة، يبقى رئيس الأركان هو الوحيد القادر على رؤية الصورة بوضوح. الشعب يتطلع إليه للوقوف بصدق أمام الحقائق ومنع الانجرار إلى حرب ممتدة تزيد تكاليفها، يوماً بعد يوم، وتتسبب بتكبيدنا خسائر فادحة، سواء على مستوى الإنجازات، أو أرواح الجنود الثمينة.
- كانت زيارة الوزير سموتريتش إلى نير عوز،[1] بعد 14 شهراً، عملاً شائناً. فسموتريتش، بمواقفه المسيانية، لم يقف بشجاعة أمام عائلات الضحايا ليقول لهم بصراحة إن "المجزرة" التي ارتُكبت بحق عائلاتهم وأحبائهم، الذين يعانون في الأنفاق، ليست سوى أضاحٍ على مذبح الاستيطان الذي يسعى لإعادته إلى غزة، وإنه يعتزم منع استعادة الأسرى، بل تركهم لمصيرهم المؤلم.
- أمّا رئيس الوزراء، فهو لم يشعر حتى بالحاجة، بعد 14 شهراً من الحرب، إلى الوقوف أمام الشعب لشرح الوجهة التي تتجه إليها الأمور. وكلما ازداد التناقض مع الواقع، كلما زادت أدواته الإعلامية في نشر المعلومات المضللة وإثارة البلبلة، وهو ما يعمّق حالة اليأس التي يدفع الجمهور لقاءها ثمناً باهظاً جداً.
- إسرائيل بحاجة الآن إلى إنهاء الحرب، ووقف معاناة شعبها، والحد من هذا النزيف المستمر من دماء أبنائها. يجب توقيع اتفاق مع لبنان من دون الإصرار غير الضروري على بنود لا تتطلب موافقة من أيّ طرف لتطبيقها عند انتهاك الاتفاق. وحتى لو نصّت اتفاقيةٌ ما على هذه البنود، وظل حزب الله معارضاً دخول إسرائيل، فإن إسرائيل ستدخل في أيّ حال. الأهم أن ينسحب حزب الله فعلياً إلى ما وراء الليطاني، وأن ينتشر الجيش اللبناني في الجنوب، وهو ما يتيح إعادة السكان الإسرائيليين إلى الشمال.
- أمّا في غزة، فهناك مهمة واحدة حرجة فقط، وهي استعادة الأسرى. إن عدم إعادتهم يعدّ جريمة أخلاقية. فإذا ما قررت إسرائيل عدم تغيير النظام في غزة، فسيمكنها الانسحاب، ثم العودة إلى أيّ مكان في القطاع في غضون عشر دقائق.
- ومع دخول دونالد ترامب، يجب توجيه الجهود نحو تحقيق الهدف الكبير الممكن: التوصل إلى اتفاق جيد لمصلحة إسرائيل بشأن وقف البرنامج النووي الإيراني وإنشاء تحالف إقليمي.
- أمّا رئيس الأركان، فهو الشخص الذي يقع على عاتقه واجب وطني وتاريخي، متمثل في إيقاف الحرب والعمل على استعادة الأسرى.
- فيا رئيس الأركان، كن شجاعاً بما يكفي لاتخاذ هذا الموقف.
____________
[1] قام بتسلئيل سموتريتش بزيارة إلى كيبوتس نير عوز، في شهر تشرين الثاني / نوفمبر 2024، أي بعد 14 شهراً على اقتحام المقاومة للكيبوتس في اليوم الأول من معركة طوفان الأقصى، وخلال هذه الزيارة، واجه سموتريتش انتقاداً من عائلات المختطفين والقتلى الإسرائيليين، نظراً إلى تأخّره في تحمّل المسؤولية، وفي زيارة الكيبوتس، وعدم التوصل إلى تسوية تتيح إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة [المترجم].