معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- نظراً إلى طبيعة المعركة في لبنان، والتي لا تهدف إلى تحقيق حسم عسكري جذري، وتوسيعها إلى الخط الثالث من القرى، فإن الوضع لن يتغير بصورة جوهرية، فالحاجة إلى إنهاء الحرب واضحة عبر اتفاق سياسي، وهو أمر يجري النقاش بشأنه حالياً. ومع ذلك، فقد تبقّت الأسئلة الرئيسية بشأن الشروط التي يمكن عن طريقها، من الناحية العسكرية، تحقيق الهدف المعلَن للحرب، وإقناع سكان الشمال بأنه في إمكانهم العودة بأمان إلى منازلهم، وبشأن المطلوب لضمان أمنهم بصورة ملائمة ومستدامة على المدى الطويل. ومن أجل صوغ هذه الشروط، سواء في الاتفاق نفسه، أو في السياسات المعتمدة لليوم التالي، فإن علينا استخلاص الدروس من إخفاقات الماضي ومن الأخطاء التي ارتكبتها إسرائيل، سواء في فشلها في فرض تنفيذ الاتفاقيات السابقة، أو في استعداداتها الدفاعية، أو في تعزيز شعور السكان بالأمان.
- كي لا نعود إلى الحالة السابقة غير المحتملة التي سادت على حدود الشمال حتى 6/10/2023، علينا أن نسعى لتحقيق التالي:
- صوغ "خطوط حمراء" إسرائيلية لاتفاقية 1701 مجددة، تشمل تطبيقاً أكثر فعالية على الجانب اللبناني من الحدود، وإشرافاً استخباراتياً إسرائيلياً دقيقاً، وأهم من ذلك، سياسة صارمة لا تسمح بأي محاولة من جانب حزب الله للعودة إلى منطقة خط الحدود أو إعادة بناء البنى التحتية التي دمرها الجيش الإسرائيلي.
- تطبيق مفهوم دفاعي جديد على الحدود يتسق مع العقيدة العسكرية، مع إجراء تحقيق، واستخلاص العِبر من الإخفاق الدفاعي المروع على الجبهة الجنوبية في 7 تشرين الأول/أكتوبر.
- إعادة الشعور بالأمان إلى المواطنين عبر الحضور العسكري المكثف، وخصوصاً في السنة الأولى التي تتلو عودتهم.
- في حرب "السيوف الحديدية"، تكبدت إسرائيل عدداً من الإخفاقات الاستراتيجية غير المسبوقة؛ إذ احتل عدو لا يرحم، منطقة بأكملها لبضع ساعات، وتم خوض الحرب بصورة تتناقض مع مفهوم الأمن القومي ومبنى القوة العسكري الذي كان راهناً آنذاك، وهو ما حوّل هذه الحرب إلى الأطول في تاريخ إسرائيل. كما أُخليت منطقة بأكملها شمال البلد من سكانها من دون أن ينجح العدو في احتلالها، ولم يعد سكانها إلى منازلهم حتى الآن.
- ومنذ بداية الحرب، تم تحقيق العديد من الإنجازات التكتيكية اللافتة، ومنها: التعافي من الإخفاق في غلاف غزة، وإلحاق هزيمة عسكرية بحركة "حماس"، ونجاح النشاط الدفاعي في الشمال ضد حزب الله، واحتواء "الإرهاب" في الضفة الغربية، والمواجهة الفاعلة لهجمات إيران ووكلائها من الدوائر البعيدة، وتصفية قيادات حزب الله، وتقويض قدراته الاستراتيجية، وإحباط خطة الاقتحام التي أعدّتها وحدة الرضوان. ومع ذلك، تجد إسرائيل صعوبة في ترجمة هذه الإنجازات إلى تحقيق أهداف الحرب، كما حددتها القيادة السياسية في 16/10/2023، والمتمثلة في إسقاط حُكم "حماس"، وتدمير قدراتها العسكرية والإدارية، وإزالة أي تهديد غزّي لإسرائيل، وإعداد شروط لإعادة الأسرى، وتعزيز الردع الإسرائيلي في المنطقة، وترسيخ الشعور بالأمن لدى مواطني إسرائيل.
- في شهر أيلول/سبتمبر، وبعد عام من حرب الاستنزاف ضد حزب الله، أُضيف هدف سادس إلى الأهداف التي حددها الكابينت في بداية الحرب، وهو إعادة سكان الشمال إلى منازلهم بأمان. ولتحقيق ذلك، فقد بدأ الجيش الإسرائيلي بتنفيذ عملية "سهام الشمال"، إلى جانب غارات سلاح الجو التي استهدفت قيادات التنظيم وقدراته النارية، وقد نفذت القوات البرّية عمليات توغُل محدودة في القرى الشيعية القريبة من الحدود بهدف تدمير البنى التحتية التي تم إعدادها هناك استعداداً لهجوم وحدات الرضوان.
- وفي الوقت نفسه، تجري منذ بداية الحرب مفاوضات بوساطة الولايات المتحدة بين إسرائيل ولبنان بهدف إنهاء الحرب في الشمال، وقد هدفت الضربة التي وُجّهت إلى حزب الله أيضاً إلى فك الارتباط الذي أنشأه حسن نصر الله، الأمين العام السابق لحزب الله، بين المعركة في قطاع غزة والمعركة في الشمال.
- وقبل العملية البرّية، كانت أمام الجيش الإسرائيلي عدة خيارات لتحقيق الهدف السادس للحرب، وقد جاء القرار بتجنُب القضاء على حزب الله كمنظمة عسكرية، أو بدلاً من ذلك احتلال الأراضي حتى نهر الليطاني واعتبارها منطقة أمنية، نتيجة اعتبارات تتعلق بقدرات الجيش بعد عام من الحرب وغياب الشرعية الدولية. وكان الخيار الذي تم تبنّيه هو الأكثر محدودية وتواضعاً: عمليات توغل محدودة تستهدف البنية التحتية، بهدف القضاء على تهديد حزب الله لبلدات الشمال. وبناءً على ذلك، فقد كان من الضروري توضيح هذا الأمر للجمهور الإسرائيلي، وخصوصاً لسكان الشمال، وهو أنه بما أنه تم اختيار تنفيذ خطة محدودة، فإن القدرة على ترجمة الإنجازات التكتيكية إلى وضع دائم محسّن ضمن إطار المفاوضات مع لبنان تبقى أيضاً محدودة.
- وتؤكد قيادة الجيش الإسرائيلي صراحةً، وإن ليس بصورة علنية، أن هذه العملية قد استنفدت أهدافها، وأن الهدف المتمثل في تدمير البنية التحتية الهجومية قد تحقق. ومع ذلك، وفي غياب اتفاق سياسي، فإنه يمكن أن توسَّع العملية إلى نطاق "خط القرى الثالث" الممتد نحو المنحدرات المؤدية إلى الليطاني، لكن هذه الخطوة لن يكون لها تأثير حقيقي في الاتفاق المقترح، فبينما يُظهر حزب الله علامات تعافٍ من الضربات التي تلقاها؛ إذ بات قادراً على الرد على الغارات الجوية والعمليات البرّية بتوسيع نطاق إطلاق النار في اتجاه إسرائيل، سواء من حيث الكمية أو المدى، ويبعث برسائل تفيد بقدرته على الاستمرار في هذا النهج على الرغم من الأضرار التي لحقت به، فإن قواته تتجنب خوض مواجهة مباشرة مع الجيش الإسرائيلي، لكنها تسعى لإلحاق الخسائر به عبر هجمات حرب عصابات محلية، وهي هجمات أسفرت عن وقوع إصابات بين قوات الجيش.
- وفي الخلفية، فإن هناك توقعات من الإدارة الأميركية المقبلة، مع دخول الرئيس ترامب البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير، بإنهاء الحرب في الشمال قبل موعد تنصيبه، ومن الواضح أن إسرائيل ليست معنية بتصعيد التوتر مع الرئيس الجديد - القديم في بداية ولايته. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك تحدياً آخر كامناً في جهوزية الجيش الإسرائيلي، سواء من حيث القوى العاملة أو الأسلحة والذخائر، بعد استنزافها على مدار أكثر من عام من الحرب.
- وتُبرز هذه القيود الحاجة الملحّة إلى إنهاء الحرب في الشمال عبر التوصل إلى اتفاق سياسي، وهو مصلحة مشتركة لجميع الأطراف، بما في ذلك إيران، ومع ذلك، يُثار التساؤل بشأن كيفية تحقيق الهدف المعلَن للحرب، وهو إعادة سكان الشمال إلى منازلهم. كذلك يُثار، من الناحية العسكرية، سؤال الشروط المسبقة، سواء في الاتفاق نفسه، أو في آليات تنفيذه على المدى الطويل، التي من شأنها أن تمكّن سكان الشمال، ليس فقط من إعادة إعمار بلداتهم، بل أيضاً من العيش فيها بأمان.
- ولتحقيق هذا الهدف، يجب الاستفادة من دروس الماضي وتجنُب الإخفاقات التي أدت إلى الوضع المستحيل الذي كان قائماً على الحدود الشمالية في تاريخ 6/10/2023، والذي كاد يُلحق بإسرائيل كارثة مضاعفة لو نفذ حزب الله خطة "احتلال الجليل" بالتزامن مع هجوم "حماس" في الجنوب. وفي السياق العسكري، يتطلب الأمر ما يلي:
- التعلم من إخفاقات الماضي في مواجهة حزب الله بعد الانسحاب من لبنان وحرب لبنان الثانية، وصوغ "خطوط حمراء" إسرائيلية جديدة ضمن اتفاق محدث للقرار 1701.
- الاستفادة من إخفاقات 7 تشرين الأول/أكتوبر لتحصين الحدود الشمالية وتطبيق رؤية جديدة للدفاع عن الحدود.
- إعادة الشعور بالأمن إلى السكان المدنيين.
تحليل إخفاقات الماضي في مواجهة حزب الله، كأساس
لاستنباط العِبر على المستوى المنهجي والاستراتيجي
- "الجنون هو أن يفعل المرء الشيء نفسه مراراً وتكراراً وينتظر نتائج مختلفة..."
- كانت لدى إسرائيل فرصتان لترسيم الحدود الشمالية مع لبنان: الأولى بعد الانسحاب من الشريط الأمني سنة 2000، والثانية بعد حرب لبنان الثانية سنة 2006. وفي كلتَي المناسبتين، أخفقت إسرائيل.
- في أيار/مايو 2000، انسحبت إسرائيل من الشريط الحدودي في لبنان بعد 18 عاماً من تواجدها هناك، وتم هذا الانسحاب بالتنسيق مع الأمم المتحدة وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 425، لكنه تم دون التوصل إلى اتفاق مع الدولة اللبنانية. وقد حذّر إيهود باراك، رئيس وزراء إسرائيل آنذاك، حزب الله من أنه إذا انتهك السيادة الإسرائيلية وهاجم إسرائيل بعد الانسحاب، فإن "كل انتهاك من هذا القبيل يمكن أن يُعتبر إعلاناً للحرب، وسيتم التعامل معه وفقاً لذلك. لا أنصح أحداً باختبارنا بمجرد أن نصبح داخل حدود إسرائيل."[1]
- وتقريباً، تم خرق هذا التعهد فوراً، وبصورة ملفتة، بعد اختطاف ثلاثة جنود في منطقة هار دوف في تشرين الأول/أكتوبر 2000، ومنذ تشرين الأول/ أكتوبر 2000 وحتى تموز/يوليو 2006، قُتل 15 جندياً وخمسة مدنيين في حوادث حدودية متعددة، ومع ذلك، فقد اختارت إسرائيل سياسة ضبط النفس.
- وفي تموز/يوليو 2006، هاجم حزب الله دورية إسرائيلية محمولة قرب بلدة زرعيت، وانتهى يوم القتال بمقتل ثمانية جنود إسرائيليين واختطاف جنديَين، فتطور الرد الإسرائيلي إلى حملة عسكرية عُرفت لاحقاً بـ "حرب لبنان الثانية"، وخلالها، تبيّن أنه، بالإضافة إلى أعوام من انتهاك السيادة والهجمات على إسرائيل، فقد استغل حزب الله سياسة ضبط النفس الإسرائيلية لتعزيز قوته؛ فتم إنشاء منظومة دفاعية على طول الحدود الشمالية، وامتداداً إلى عمق الأراضي اللبنانية حتى نهر الليطاني، شملت مناطق مبنية ومعقدة، ملأى بأسلحة ذات مسار منحني، وصواريخ مضادة للدروع، وعبوات ناسفة.
- واعتُبرت حرب لبنان الثانية في إسرائيل فشلاً عملياتياً مدوياً؛ إذ خيضت بأسلوب وصفته لجنة فينوغراد[2] بـ "التخبط"، وعندما بدأت المناورة البرّية الحقيقية تصل نحو نهايتها، واجهت القوات البرّية الإسرائيلية صعوبة في تنفيذها، وهو ما جعل الجيش الإسرائيلي يختتم الحرب بشعور بالفشل. أمّا إطلاق آلاف الصواريخ على العمق الإسرائيلي، فقد ظل بلا رد حاسم، وأسفر عن مقتل 44 شخصاً، وإجلاء آلاف السكان. وفي المقابل، كانت الحرب مدمرة أيضاً لحزب الله، وعلى الرغم من إعلان حسن نصر الله تحقيق ما وصفه بـ "نصر إلـٰهي"، فقد اعترف لاحقاً بأنه لو كان يتوقع الرد الإسرائيلي القوي على عملية الاختطاف لما أمر بتنفيذها.
- وانتهت الحرب بصدور القرار رقم 1701 عن الأمم المتحدة، وتم بموجبه نشر قوات "يونيفيل" إلى جانب الجيش اللبناني في جنوب لبنان لضمان عدم تنفيذ أي أنشطة عدائية من أي نوع، ومنع إدخال أسلحة إلى حزب الله، وفرْض حظر على توريد الأسلحة إلى الحزب. كما دعا القرار إلى إطلاق سراح الأسرى وتطبيق القرار 1559 القاضي بحل الميليشيات المسلحة في لبنان.
- ولم يُنفَّذ قرار 1701 قط؛ فعلى الرغم من نزول الجيش اللبناني إلى الجنوب وتعزيز قوات "يونيفيل"، فقد قام حزب الله بانتهاك شروط القرار بصورة منهجية ومتدرجة، وأعاد بناء بنيته التحتية، وشيّد منظومة دفاعية وهجومية جديدة وأكثر قوة استناداً إلى الدروس التي استخلصها من تحليل الحرب.
- ولتوضيح ذلك، أستند إلى تجربتي كضابط عمليات في فرقة الجليل خلال الأسابيع الأولى بعد حرب لبنان الثانية؛ ففي غرفة الاجتماعات التابعة للفرقة في بيرنيت، عُرضت على قائد "يونيفيل" الانتهاكات الأولى التي قام بها حزب الله لاتفاقية 1701، وفي كل اجتماع، كان القائد يهز رأسه بجدية، لكن على الأرض، كان رجاله يخشون حزب الله، ولم يتخذوا أي إجراء، والأمر نفسه انطبق على القيادات العليا في الجيش والمستوى السياسي، وفي كل زيارة، كانت تُعرض الأدلة الاستخباراتية التي أشارت بوضوح إلى أن حزب الله كان يعيد بناء قوته، وكان القادة في المستويَين السياسي والعسكري يهزون رؤوسهم بجدية، لكنهم لم يفعلوا شيئاً. لو كانت إسرائيل أصرت على منع حزب الله من إعادة بناء قوته سنة 2007، لكان من الممكن تجنُب التهديد غير المسبوق الذي تواجهه إسرائيل الآن من لبنان.
- في سنة 2011، كشف حسن نصر الله لأول مرة عن مخطط حزب الله لاحتلال الجليل قائلاً: "أقول لمجاهدي المقاومة الإسلامية استعدوا لليوم الذي إذا فُرضت فيه الحرب على لبنان، فستطلب قيادة المقاومة منكم السيطرة على الجليل." ومنذ ذلك الحين، بدأ حزب الله عملية بناء قوة طويلة الأمد لوحدة الرضوان النخبوية، بهدف احتلال الجليل، وفقاً لنموذج مشابه لما نفذته "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر في النقب الغربي.
- أمّا إسرائيل، التي لم تقم، على الرغم من الانتهاكات الصارخة للقرار 1701، بمنع حزب الله من إعادة بناء قوته في جنوب لبنان، فقد بدأت خلال تلك السنوات بشن غارات ضمن إطار "المعركة التي بين الحروب"[3] على الأراضي السورية، وهدفت بهذه الغارات إلى منع نقل أسلحة متطورة إلى حزب الله، ولاحقاً منع تمركُز الميليشيات التابعة لإيران في سورية. وجاءت جميع هذه الغارات ضمن "الخطوط الحمراء" التي وضعها نصر الله، والتي تضمنت الامتناع من مهاجمة لبنان مباشرة، أو اغتيال عناصر حزب الله في أماكن أُخرى، وحينما تم تجاوُز هذه الخطوط، لم يتردد حزب الله في الرد حتى داخل الأراضي الإسرائيلية، وكان من الأمثلة على ذلك ما حدث في عملية "شمس شتوية" في كانون الثاني/يناير 2015، عندما هاجم حزب الله بدقة دورية للجيش الإسرائيلي في هار دوف بصواريخ مضادة للدروع، وهو ما أسفر عن مقتل جنديَين إسرائيليَين، رداً على اغتيال جهاد مغنية (مع قيادي إيراني آخر) في الجولان. وجاء الرد الإسرائيلي ضعيفاً، وهو ما أظهر الرغبة في إنهاء الحادثة بسرعة.
- لقد أدى هذا النمط الذي ركّزت فيه إسرائيل على عمليات "المعركة بين الحروب" وتفتخر بإنجازات أنظمتها الاستخباراتية وضرباتها الجوية، مع التزامها الصارم بـ "الخطوط الحمراء" التي وضعها نصر الله، إلى تآكُل الردع الإسرائيلي بالكامل، وإلى إلغاءٍ عمليٍ لشروط القرار 1701، والأمثلة على ذلك كثيرة: فعلى الرغم من اكتشاف شبكة أنفاق عابرة للحدود سنة 2018، فإن إسرائيل لم تتخذ أي إجراءات لمواجهة تهديد اقتحام حزب الله للحدود، واكتفت بتدمير شبكة الأنفاق فقط من دون دخول الأراضي اللبنانية، إلى جانب إطلاق النار بالقرب من خلية تابعة لحزب الله توغلت في هار دوف بدلاً من القضاء عليها. وخلال نزاع على الحدود البحرية الاقتصادية، أطلق حزب الله طائرات مسيّرة في اتجاه منصة الغاز "كاريش"، ومع ذلك، وقّعت إسرائيل اتفاق الغاز مع لبنان، وهو خطوة رآها حزب الله دليلاً على الضعف الإسرائيلي. أيضاً، هناك العملية التي نفذها حزب الله داخل الأراضي الإسرائيلية، والتي انتهت بتفجير عبوة ناسفة عند مفترق مجدو، والتي لم تقابَل بأي رد. وفي حزيران/يونيو 2023، انتهك حزب الله السيادة الإسرائيلية بصورة فاضحة عبر إقامة موقع عسكري (خيمة) داخل الحدود الإسرائيلية في "هار دوف"، ومع ذلك، فقد امتنعت إسرائيل من الرد.
- استناداً إلى تحليل الفترتين (2000– 2006، و2006-2023)، يتضح أن حزب الله وإيران لا يعيران أي أهمية لقرارات الأمم المتحدة أو الاتفاقيات الدولية، ففي كلتَي المرحلتَين، لم تستخدم إسرائيل القوة العسكرية لمنع تسلُح حزب الله، ولم تردع التنظيم عن مهاجمتها، وتمثلت نتيجة ذلك في بناء قوة هائلة برعاية إيرانية، تشكّل تهديداً غير مسبوق للجبهة الداخلية الإسرائيلية وسكان الشمال، مع تآكُل الردع الإسرائيلي.
- والخلاصات بشأن طبيعة أي اتفاق جديد واضحة: أولاً، يجب ضمان تطبيق رقابة دولية أكثر صرامة للاتفاق، ومنع انتهاكات حزب الله. ثانياً، يتعين على إسرائيل استثمار موارد كبيرة في جمع المعلومات الاستخباراتية التفصيلية بشأن محاولات الانتهاك من جانب حزب الله. ثالثاً، وبغض النظر عن محتوى الاتفاق، يجب أن تحتفظ إسرائيل بحرّيتها في التحرك العسكري لإحباط إعادة تسليح حزب الله أو تعزيز قوته، ويجب أن تكون الردود الإسرائيلية فورية على كل انتهاك، صغيراً كان أم كبيراً.
تحليل فشل الدفاع عن الحدود في الجيش الإسرائيلي
كأساس لتعلّم تحصين الحدود الشمالية
- في 7 تشرين الأول/أكتوبر، هزم 1500 مقاتل من فرقة النخبة في "حماس" فرقة غزة خلال وقت لم يتجاوز الساعة، والموجة الثانية من 1500 "مخرب" والثالثة كانتا من المدنيين الذين استغلوا النجاح. إن السهولة التي لا يمكن تصورها التي استطاع بواسطتها جيش "إرهابي" أضعف كثيراً من الجيش الإسرائيلي الانتصار على فرقة عسكرية إسرائيلية نجمت قبل كل شيء عن الأوضاع الاستهلالية؛ فبعكس عقيدتها الأمنية، سمحت إسرائيل لفرقتَي كوماندوز (فرقة الرضوان في الشمال، والنخبة في الجنوب) تضمان أفضل المقاتلين، ومزودتَين بالسلاح المتطور بالتمركز على حدودها، وبأن تكونا قادرتين على الانتقال من الحياة الطبيعية إلى حالة الطوارئ خلال 3 ساعات فقط.
- ومنذ اللحظة التي انتهى فيها بناء قوات النخبة وفرقة الرضوان، أصبحت الكارثة أمراً حتمياً، وهذا أيضاً لأن الاستخبارات الإسرائيلية لم تكن لديها طوال الوقت القدرة على منع هجوم مفاجئ على المستوطنات المحاذية للحدود.
- ومع ذلك، فإن حجم هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر كان يمكن أن يكون أصغر كثيراً. لإسرائيل 3 أنواع من الحدود: حدود قتالية (سورية، ولبنان، وقطاع غزة)، وحدود فيها اتفاقات (مع مصر والأردن)، وخطوط داخلية (الضفة الغربية). في الحدود القتالية، دافع الجيش الإسرائيلي عن هذه الحدود حتى 7 تشرين الأول/أكتوبر بطريقة تتعارض مع عقيدته القتالية، وتجاهل مبدأً أساسياً في هذه العقيدة، وهو الدفاع.
- أولاً، تنظم العقيدة العسكرية مجال الدفاع على محاور طويلة وواسعة ضمن نطاقين: الاستحواذ والأمن، وعن طريق تحديد المناطق المهمة للدفاع عن الأراضي الحيوية. وفي لبنان وقطاع غزة، عمل الجيش الإسرائيلي من دون مناطق آمنة، ومن دون أن يقيم مواقع وتحصينات تعتمد على مبدأ المعاملة بالمثل والحجم، ومن دون قوة نار كبيرة مستقلة للفرق المناطقية (طوافات ومدفعية)، وبلا احتياطي متنقل كبير في عدد الكتائب، أو بنى تحتية مناسبة للدفاع وحجم قوات مناسب. ولم تكن لدى مقاتلي الجيش الإسرائيلي في غرب النقب فرص للتصدي لخطة "حماس" وقدراتها، ولو شنت قوة الرضوان هجوماً مشابهاً في الشمال، لأدى ذلك إلى فشل مشابه في قيادة الشمال، وإلى نتائج أخطر كثيراً.
- وكان القرار في تحديد أماكن قيادات السيطرة والتحكم للقوات على الجبهة وفي المعسكرات غير مسؤول، فاستغلت "حماس" حقيقة "وضع كل البيض في سلة واحدة"، وقامت بإسكات فرقة غزة، وضربت بسرعة قدرات القيادة والتحكم التي تعتمد على منظومات متقدمة للتنصت وجمع المعلومات عبر تدمير 37 موقعاً للتنصت في منطقة الغلاف لم تكن محصنة كما يجب، وقضت على قيادة الفرق والألوية المناطقية في برعيم. ومن دون قيادة وتحكّم، قاتلت القوات من دون تنسيق أو سلاح الجو أو قوات احتياط توجَّه إلى الأماكن الصحيحة.
- وفي الواقع، لو كانت الثقافة العملانية مختلفة، لكانت قد ساهمت في تقليص الضرر الكبير. وقد انتشرت قوات الجيش الإسرائيلي في منطقة الغلاف بناء على نيات العدو وليس بناءً على قدراته، وتسبب ذلك بمفاجأة الجيش وهزيمته. لقد كان جنود الجيش الإسرائيلي أقل عدداً وعتاداً، وقد أدى عدم الانضباط والخلل في الثقافة العملانية إلى أن قسماً من الوحدات لم يكن في وقت الهجوم في حالة استعداد للرد عليه، ويُضاف إلى ذلك عدم وجود تحذير محدد. لقد كان نصف عدد فرقة غزة موجوداً بسبب قرار إعطاء الجنود فرصة في نهاية الأسبوع والعيد، وذلك وفقاً لسياسة 11:3 (11 يوماً في الوحدة و3 أيام في البيت). وبسبب ظاهرة سرقة السلاح والعتاد العسكري من القواعد، وخوفاً من وقوع حوادث، لم يكن لدى مقاتلي الجيش قنابل يدوية وصواريخ كتف ووسائل تفخيخ، بينما كان لدى "مخربي" "حماس" كميات كبيرة من السلاح.
- كما كانت لدى "حماس" ميزة أُخرى؛ استخبارات نوعية وحميمة عن القوات الإسرائيلية في الغلاف. وقد استغلت الحركة عدم إجراء تغييرات طوال سنوات في انتشار قوات الجيش الإسرائيلي في المنطقة، وفي الإجراءات، والثقافة الأمنية والاستخباراتية الضعيفة، فلم تكن في حاجة إلى جواسيس، لأن الجنود الإسرائيليين أنفسهم قدّموا هذه المعلومات النوعية والحميمة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ فالفيديوهات والصور التي نُشرت عن معسكرات الجيش ومستوطنات الغلاف والجنود والمدنيين كلها موجودة على وسائل التواصل الاجتماعي، وقدّمت معلومات عملانية استغلتها "حماس" من أجل التخطيط للهجوم.
- وعلى الرغم من مرور عام، فإن تحليل فَشَلِ 7 تشرين الأول/أكتوبر لم يرسخ تحقيقاً عسكرياً شاملاً. ومن أجل تحصين الحدود الشمالية للدولة في نهاية المعركة في الشمال، وتجديد ثقة المواطنين في القدرة على الدفاع عنهم، فإن المطلوب من الجيش أن يُجري تحقيقاً في أسرع وقت ممكن في هذه الأحداث، وأن يعرض على الجمهور الاستنتاجات الأساسية والدروس، فضلاً عن عقيدة دفاعية جديدة ومختلفة. وقد سمى الجيش العقيدة الدفاعية الجديدة "الدفاع القوي"، لكن الدفاع بحسب العقيدة القتالية يجب أن يكون قوياً، ولا وجود لدفاع ضعيف، إلاّ إذا جرى تنفيذه بصورة غير صحيحة.
- وفي مواجهة لبنان (كما في مواجهة قطاع غزة)، يجب أن تركز العقيدة الجديدة ليس فقط على المستوطنات، بل أيضاً على المحاور، وخصوصاً على التقاطعات المركزية كمناطق حيوية. وسيضطر الجيش إلى أن يعتمد في الحدود القتالية خطة دفاعية في حالات الطوارئ والحرب، بالإضافة إلى خطة تتدرب عليها قواته بصورة منتظمة للسيطرة الفورية في حال أي تصعيد على خط المواقع الأمامية في المناطق الأساسية المشرفة والموجودة في الأراضي اللبنانية (مارون الراس على سبيل المثال)...
- وبدلاً من إعادة إعمار العائق، وبناء أسوار ينجح العدو في تفكيكها في لحظة، يجب على الجيش أن يوظف جهوده في إقامة منظومة من المواقع والمحاور والبنى التحتية المحصنة الآمنة، وقيادات الألوية والفرق تحت الأرض، وتنفيذ عمليات روتينية للكشف وإغلاق كل المناطق القريبة من السياج الحدودي التي تُستخدم كممرات للتسلل إلى الأراضي الإسرائيلية، وإقامة منظومة جمع للمعلومات خفية وسرّية بالإضافة إلى العلنية، لا يمكن تدميرها بالصواريخ المضادة للدروع من بعيد...
كيف تعيد إسرائيل الإحساس بالأمان إلى سكان الشمال؟
- إن انهيار الجيش في 7 تشرين الأول/أكتوبر، و"المذبحة" في الغلاف، وإخلاء مستوطنات الشمال ودمارها أثار أزمة ثقة حادة بين المواطنين الإسرائيليين والجيش النظامي ومؤسسات الدولة؛ فعودة سكان الشمال إلى منازلهم ليست مرتبطة فقط بوقف الحرب، بل أيضاً قبل كل شيء استعادة الثقة.
- ومن أجل ترميم الثقة، يجب تحقيق أمرين أساسيَين: سياسة رد مباشرة وموثوقة على أي خرق للاتفاق ومنع حزب الله من إعادة بناء قدرات هجومية ونارية بالقرب من الحدود، واستعداد دفاعي قوي بناء على عقيدة قتالية واضحة للعيان. لكن ثمة شك في أن تحقيق هذين الأمرين بالكامل سيعيد سكان الشمال إلى منازلهم إذا لم تتحرك دولة إسرائيل عبر مؤسسات الدولة والجيش إلى إعطاء الشعور بالأمان، وليس فقط تحقيق الأمن.
- وفي هذا السياق، يجب أن نتذكر أن لسكان الشمال وجزء كبير من سكان إسرائيل مطالب محقة، لكن غير واقعية من الجيش، وتقديراً مبالغاً فيه للإنجاز العسكري الممكن في الشمال. وفي ضوء الخيار المحدود الذي نفذه الجيش في الشمال (مع عدم القدرة على تحقيق حسم عسكري كامل على حزب الله)، فإن الإنجاز في هذه التسوية سيكون محدوداً، والمطالبة بمنع سكان القرى الشيعية المدمرة من العودة إلى منازلهم، والمطالبة بتواجد الجنود الإسرائيليين في منطقة أمنية وراء الحدود أو تدمير قدرات حزب الله بصورة نهائية هي أمر غير واقعي.
- لقد أنهك الجيش مقاتليه النظاميين وفي الاحتياط طوال عام كامل من الحرب، وإطالة أمد الحرب يعرّض وجود الجيش النظامي والاحتياط للخطر؛ فمخازن الذخيرة وقِطع الغيار للجيش هي معطيات سرّية، لكن من الواضح للجميع أنها ليست "بئراً بلا قاع". كما تبرز توقعات الإدارة الأميركية الجديدة بشأن إنهاء الحرب في الشمال قبل تنصيب الرئيس المنتخَب ترامب، ومن الواضح أن المستوى السياسي في إسرائيل يتطلع إلى التعاون الكامل مع هذه الإدارة. ومن هنا، فإن السعي لاتفاق في الشمال في الوقت الحالي هو ضرورة إسرائيلية، على الرغم من خيبة أمل سكان الشمال، وإعلانهم أنهم لن يعودوا إلى منازلهم مع اتفاق من هذا النوع.
- ومن أجل إعادة الشعور بالأمان، هناك أوجه كثيرة ليست كلها عسكرية؛ فمن الناحية العسكرية فقط يتعين على الجيش زيادة قواته عبر انتشار جديد ومكثف على طول الحدود وفي مستوطنات التماس، وعلى الرغم من أن سيناريو حدوث هجوم لم يعد ذا دلالة في السنوات المقبلة بعد تدمير البنى التي أعدها حزب الله لذلك، وبعد سياسة رد مناسبة للمحافظة على استمرار الوضع على الحدود لزمن طويل، فإن الوجود المكثف للجيش الإسرائيلي في مستوطنات التماس ضروري من أجل الشعور بالأمان...
خلاصة وتوصيات
- بعد أكثر من عام من الحرب، لدى إسرائيل فرصة لترجمة نجاحاتها في ميدان القتال إلى إنجاز استراتيجي: إنهاء المعركة في الشمال، وقطْع العلاقة التي أنشأها حزب الله بالمعركة في قطاع غزة، وإعادة سكان الشمال إلى منازلهم. ومن أجل ذلك، فالمطلوب من إسرائيل القيام بثلاث خطوات مركزية:
- تنفيذ دروس الماضي فيما يتعلق بالاتفاق مع لبنان؛ أي التركيز على تشديد الرقابة الدولية ضد الخروقات من جهة، ومن جهة ثانية سياسة متشددة لتطبيق الاتفاق بالقوة العسكرية ضد أي خرق أو "تسلل" لقوات حزب الله وبناء بنى تحتية بالقرب من الحدود.
- تحصين الحدود الشمالية في ضوء عقيدة دفاع عن الحدود تستند إلى التحقيق وتعلُّم دروس إخفاق 7 تشرين الأول/أكتوبر.
- وجود عسكري كثيف في منطقة الحدود والمستوطنات على الأقل خلال السنة الأولى من الاتفاق.
ـــــــــــــــــــــ
[1] Lisa Beyer, “Making the Call: An Iron Fist for the Enemies of Israel”, TIME magazine, 3/6/2000.
[2] لجنة فينوغراد: وهي لجنة تحقيق رسمية في إسرائيل تشكلت في أيلول/سبتمبر 2006 بعد حرب لبنان الثانية، وذلك بهدف فحص إخفاقات الجيش الإسرائيلي وصانعي القرار السياسي خلال الحرب. وترأّسها القاضي المتقاعد إلياهو فينوغراد، وركزت تحقيقاتها على أداء القيادة السياسية والعسكرية في مراحل التخطيط والتنفيذ للحرب. وخلصت اللجنة إلى وجود إخفاقات استراتيجية وعملياتية، منها غياب أهداف واضحة للحرب، وسوء إدارة العمليات العسكرية، وعدم الجاهزية للتعامل مع تهديد الصواريخ على الجبهة الداخلية. وقد أثار تقرير اللجنة جدلاً واسعاً، وأدى إلى تداعيات سياسية، أبرزها تآكل الثقة في حكومة إيهود أولمرت آنذاك.
[3] "المعركة التي بين الحروب" هي استراتيجيا عسكرية وأمنية تبنّتها إسرائيل لمواجهة التهديدات العسكرية المتزايدة، وخصوصاً من جانب إيران وحزب الله. وتهدف هذه الاستراتيجيا إلى تقليص قدرات الأعداء مع تلافي الانجرار إلى حرب شاملة، وهي تشمل غارات جوية وعمليات سرّية في مناطق متعددة، كسورية، وإيران، لتعطيل نقل الأسلحة المتطورة أو منع إنشاء بنى تحتية عسكرية تهدد إسرائيل. وتعتمد الاستراتيجيا على استخدام القوة بحذر، مع التزام عدم التصعيد إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.