وقف إطلاق النار في لبنان فرصة لإسرائيل كي لا تكرر أخطاء الماضي
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • مع بدء وقف إطلاق النار الهش بين إسرائيل وحزب الله، يسود شعور وسط الذين درسوا التاريخ العاصف للبنان بأن النزاع الحالي يذكّر كثيراً بأحداث الماضي، والمسألة ليست فقط "كيف يجب أن نتصرف الآن؟"، بل أيضاً "ماذا تعملنا من الماضي؟"، وخصوصاً خلال الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990). يومها كما الآن، تطلعت إسرائيل إلى صوغ مستقبل لبنان عبر محاولة الالتفاف حول لاعب إقليمي مهيمن في الثمانينيات، هو سورية، واليوم هو إيران.
  • لقد اعتمدت الاستراتيجيا الإسرائيلية في الحرب الأهلية اللبنانية على الاعتقاد في قدرتها على تحقيق أهدافها من دون الأخذ في الحسبان مصلحة السوريين، وخلال حكم الأسد، كانت سورية هي المسيطرة على كل ما يجري في لبنان. وفي تلك الفترة، وانطلاقاً من رغبة إسرائيل في تعزيز حدودها الشمالية وتقليص تواجد الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان، اعتقدت أنها قادرة على دفع سورية جانباً، وتأييد حزب الكتائب المسيحي وفصائل أُخرى، وتأكد أن هذا الافتراض قصير النظر وكارثي، وكشف غزو لبنان سنة 1982 هذا الخطأ العميق في التفكير.
  • في البداية، ظهر أن النجاحات العسكرية لإسرائيل أعطت الشرعية للاستراتيجيا التي جرى اختيارها: طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، واستعداد حلفاء إسرائيل لإحكام قبضتهم على السلطة، لكن الحِلف الهش تفكك فور اغتيال بشير الجميل... وبقي النفوذ السوري على ما هو عليه، وفي نهاية الأمر، انسحبت إسرائيل من لبنان سنة 2000، وتركت السيطرة لسورية.
  • ويشير صعود حزب الله بعد الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982 أيضاً إلى التداعيات غير المقصودة للخطوات الأحادية الجانب. طبعاً لا يمكن تحميل الغزو الإسرائيلي المسؤولية عن صعود حزب الله لأن جذوره أعمق كثيراً، وهي تعود إلى الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979، التي أدت إلى ظهور جيل جديد من القيادات الشيعية، وإلى الأعوام الطويلة من إقصاء الطائفة الشيعية في لبنان.
  • .. اليوم حلت إيران مكان سورية في سيطرتها الإقليمية على لبنان بواسطة حزب الله، وإن منظومة العلاقات بينها وبين الحزب عميقة وأكثر أيديولوجية من علاقة الحزب بسورية في الماضي، لكن يذكّرنا توجه إسرائيل الحالي بصورة مقلقة باستراتيجيتها في التسعينيات؛ محاولة إضعاف القوة العسكرية لحزب الله من دون مواجهة الإطار الإقليمي الواسع المؤيد للحزب، والذي يشكّل مصدر قوته.
  • إن الهجمات العسكرية القوية ضد أهداف تابعة لحزب الله في لبنان وسورية يمكن أن تُضعف القدرات العملانية للحزب على المدى القصير، لكن التاريخ يثبت أن العمل العسكري وحده لن يفكك منظومة الدعم التي تتمتع بها تنظيمات من هذا النوع، تماماً كما سيطرت سورية على الفصائل السياسية والعسكرية في لبنان، وضمنت استمرار سيطرتها خلال الحرب الأهلية، فإن علاقات إيران العميقة بالبنى المالية والأيديولوجية واللوجستية لحزب الله تضمن لها استمرار بقاء الحزب واستمرار نفوذه حالياً أيضاً.
  • والخلاصة بالنسبة إلى إسرائيل واضحة؛ من أجل تحقيق استقرار مستدام في لبنان، فإن المطلوب هو معالجة المشكلة الإقليمية الأوسع، وإن تجاهُل إسرائيل دور إيران اليوم، كما دور سورية في الماضي، يمكن أن يؤدي إلى تحصن قوات معادية على طول الحدود الشمالية. وليس المقصود هنا القبول بالوضع القائم والخضوع لطموحات إيران، إنما انتهاج استراتيجيا تتضمن، بالإضافة إلى العمل العسكري، أفقاً دبلوماسياً واقتصادياً وإقليمياً.
  • إن المطلوب من إسرائيل أيضاً الاعتراف بحدود الخطوات الأحادية الجانب. خلال الحرب الأهلية في لبنان، أدت محاولات إسرائيل إعادة صوغ مستقبل لبنان بصورة أحادية الجانب، سواء بواسطة القوة العسكرية أو تحالفات سياسية، إلى نتيجة عكسية؛ فصعود حزب الله بعد غزو الجيش الإسرائيلي للبنان سنة 1982 لم يكن فقط نتيجة العملية العسكرية، بل أيضاً نتيجة دينامية بنيوية عميقة في المجتمع اللبناني قامت بإقصاء الشيعة من مؤسسات الحكم، ونتيجة التأثر بأيديولوجيا الثورة الإسلامية في إيران.
  • يمكن أن ينشأ نموذج مشابه إذا بالغت إسرائيل في تقدير قدرتها على إضعاف حزب الله وأهملت المساعي لمواجهة العامل الأساسي المؤيد للحزب. إن مواجهة نفوذ الحزب لا تتطلب مواجهة مباشرة معه، إنما توجهاً استراتيجياً شاملاً يأخذ في الحسبان الدبلوماسية الإقليمية ومبادرات اقتصادية، والسياسة الداخلية اللبنانية.
  • واليوم، الرهان أكثر تعقيداً كثيراً؛ إذ يملك حزب الله قوة عسكرية أكثر تطوراً بأشواط من تلك التي كانت لدى الميليشيات في الثمانينيات، والطموحات الإقليمية لإيران تتعدى لبنان، وبالإضافة إلى ذلك، فإن المجتمع الدولي أقل تسامحاً مع عمليات عسكرية طويلة. وبناءً على ذلك، فإن التحدي المطروح على إسرائيل هو تطوير استراتيجيا لا تقوم فقط بتحييد التهديدات المباشرة، بل أيضاً تتناول الواقع الجيوسياسي للبنان والمنطقة برمتها.
  • ربما التاريخ لا يعيد نفسه، لكن أحياناً الحاضر يعيد الماضي، والأخطاء التي ارتكبتها إسرائيل خلال الحرب الأهلية في لبنان يجب أن تكون إشارة تحذير لصناع القرار في أيامنا، كما أن تجاهُل تجربة الماضي يعرّض إسرائيل لخطر النزاعات الدائمة، ويقوي بصورة خاصة القوى التي تطمح إلى إضعافها.
  • إن وقف إطلاق النار الحالي هش للغاية، ومع ذلك، فهو يشكّل فرصة لإسرائيل لإعادة تقييم الوضع، وعلى إسرائيل أن تقرر ما إذا كانت تنوي التعلم من التاريخ، أم إنها ستكرر أخطاء الماضي.