صحيح أن يدي يعَلون ملوثتان بالدم الذي سفكه الاحتلال، لكن يمكننا الصفح عنه جزئياً
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • الكراهية لبنيامين نتنياهو تفعل الأعاجيب. إنها تجعل البشر يبدّلون مواقفهم. هناك أثر خيميائي لهذه الكراهية، فهي تحوّل الذين كانوا مسؤولين عن جرائم حرب إلى مناضلين ضدها. هؤلاء، يجب تقديم العون لهم، مهما كانت دوافعهم. فكل مَن يكشف، ولو للحظة، حقيقة ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين، ويجرؤ على فضح هذه الانتهاكات علناً، فهو يقدم إسهاماً مهماً في النضال الدؤوب واليائس ضد الأبارتهايد والاحتلال.
  • حتى موشيه (بوغي) يعَلون يستحق الثناء على تصريحاته بشأن التطهير العرقي في شمال القطاع. ها نحن نرى رئيس أركان ووزير دفاع سابق، يُعتبر من الصقور المتشددين، يتحدث عن تطهير عرقي، إنه من دون شك أمر مثير للدهشة. على ما يبدو، سيصعب تصنيف الرجل كعدو لإسرائيل، أو خائن لها، ومع ذلك، لقد تمكنت ماكينات التحريض من استهدافه. ففي إسرائيل، لا حاجة حتى إلى هذه الماكينات: حتى إن رئيس الدولة يتسحاق هرتسوغ، وزعيم المعارضة يائير لبيد، سارعا إلى نفي وجود أيّ عملية تهجير جماعي. "كيف يمكن الحديث عن تطهير عرقي؟". هناك مئات الآلاف من الناس يسيرون في طوابير لا تنتهي من النازحين، ووزراء الحكومة يعلنون أن هؤلاء لن يعودوا قط إلى منازلهم التي دمّرت بشكل منهجي لكن، على الرغم من هذا، فإنه "لا يوجد تطهير عرقي". فالدم ليس سوى ماء، وغبار أنقاض المنازل ليس سوى عاصفة رملية، في عُرف هؤلاء.
  • حتى يعَلون، الذي تحلّى بالشجاعة للحظة، سواء لأنه ليس لديه ما يخسره سياسياً، أو بسبب كراهيته لنتنياهو التي أفقدته صوابه، أو ربما لأنه يشعر بصدمة حقيقية جرّاء ما يحدث في غزة، لم يقطع سوى نصف الطريق.
  • يوم أمس الأول، سارع يعَلون إلى التوضيح أنه لم يتهم الجيش بالتطهير العرقي، بل ألقى اللوم فقط على بن غفير، وسموتريتش، ودانييلا فايس[1].  فالتهجير القسري هو مشروع هؤلاء، وليس مشروع الجيش الإسرائيلي. حتى إنه كتب: "من حق الحكومة أن تقرر إخلاء غزة من العرب وتوطينها باليهود". يعَلون بقي ذلك الرجل التقليدي الذي لم يغيّر قيَمه: إذ يرى أن للحكومة الحق في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
  • هذا ما يحدث عندما تستند مسيرة مهنية كاملة لإنسان ما، إلى ارتكاب جرائم حرب وانتهاكات للقانون الدولي. فمن كان قائد فرقة الضفة الغربية وقائد المنطقة الوسطى، وهما منصبان، هدفهما الأساسي الإبقاء على الاحتلال وتعزيزه، والذي يُعتبر في جوهره جريمة، ثم صار رئيساً للأركان ووزير دفاع لجيش الاحتلال، لا يمكنه التنصل من ماضيه. حتى عندما يجرؤ على القول إن "الجيش الإسرائيلي لم يعد الجيش الأكثر أخلاقيةً اليوم". هكذا، وعلى حين غرّة، نقصت أسهم الجيش الإسرائيلي في عُرف يعَلون في سلّم الأخلاق. لقد كان هذا الجيش، في نظر يعَلون، حتى وقت قصير، الجيش الأكثر أخلاقيةً، لكن جاء سموتريتش وبن غفير وغيّرا ذلك. فيا له من أمر محرج!
  • في سنة 2015، عندما كان يعَلون وزيراً للدفاع، أصدر قراراً بشأن حظر نشاط منظمة "كسر الصمت"[2]  داخل الجيش. وبأمره، مُنع الجنود من الاطّلاع على شهادات زملائهم بشأن جرائم الحرب. لقد كانت المسافة من تلك النقطة نحو التطهير العرقي، قصيرة جداً. فيعَلون، الذي يعترف بوجود تطهير عرقي، يُلقي باللوم على اليمين المتطرف. كلا يا يعَلون، الجيش ليس بريئاً. ليس بريئاً بالمرة!
  • صحيح أن أتباع سموتريتش يُصدرون الأوامر، لكن الجيش ينفّذها بجذل، ومن دون تردد، ومن دون اعتراض، على الرغم من أن هذه الأوامر تمثل انتهاكاً أخلاقياً مريعاً. هذا ليس بجديد، ومثل هذه الممارسات ليس حديث العهد. لقد جرى هذا كلّه تحت قيادتك في عملية "السور الواقي"،[3]  وقبلها وبعدها. صحيح أن حجم الجرائم هذه المرة مختلف وغير مسبوق، على الأقل، منذ النكبة الأولى، لكن الجوهر الأخلاقي للانتهاكات لم يتغير: فكل شيء مسموح لنا أن نفعله بالفلسطينيين. لقد فعل يعَلون كل ما يمكنه فعله ضد الفلسطينيين، من دون أن يحتاج إلى سموتريتش فوق رأسه، وفعل الجيش كل ما يمكنه فعله بالفلسطينيين، قبل قدوم سموتريتش ، بل حتى قبل قدوم نتنياهو.
  • لم يعد في الإمكان الادعاء أنه يوجد فاصل في مجالَي المسؤولية والذنب، بين الجيش والقيادة السياسية. فمثل هذا الادّعاء هو ملاذ الذين هم على شاكلة يعَلون، لكي يفلحوا في تبرير جرائمهم وخداع الآخرين. عندما يقوم الجنود، بشكل روتيني، بإساءة معاملة سكان فلسطينيين أبرياء في الخليل، حسبما كُشف في تقرير "بتسيلم" أول أمس، وتسمح قيادة الجيش بذلك، فإن الجيش بأكمله يتحمل المسؤولية، وليس سموتريتش فقط. وهنا نتساءل: مَن هي الجهة التي تقوم الآن بتنفيذ التهجير القسري الذي تحدث عنه يعَلون؟ إنهم جنود الجيش الإسرائيلي.
  • وردت في سفر الأمثال عبارة " مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَح، وَمَنْ يقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَم. "[4] لكنه لم يكمل الطريق. لقد اعترف يعَلون بجزء من الجرائم، وتخطى الحديث عن جزء آخر، لذا، له نزر يسير من الغفران. ستظل يدا يعَلون ملوثتين بالدم الذي سفكه الاحتلال، إلّا إذا استجمع شجاعته وأدرك أن تلك الجرائم كلها، لم تولد في زمن سموتريتش.

 

[1] دانييلا فايس ناشطة يمينية إسرائيلية ومخططة مستوطنات، تُعتبر من الشخصيات البارزة في حركة الاستيطان في الضفة الغربية. شغلت منصب الأمينة العامة لحركة "غوش إيمونيم" الاستيطانية فترة طويلة، كما كانت رئيسة مجلس مستوطنة "كدوميم". تُعرف فايس بمواقفها الداعمة لتوسيع المستوطنات اليهودية ورفض إقامة دولة فلسطينية. تُعتبر إحدى الشخصيات المثيرة للجدل بسبب تصريحاتها التي تدعو إلى تعزيز السيطرة الإسرائيلية على كامل "أرض إسرائيل التاريخية". في تشرين الثاني / نوفمبر 2024، أثارت فايس جدلاً واسعاً في إسرائيل بعد دخولها غير المصرح به إلى قطاع غزة برفقة مجموعة من الداعمين لإعادة الاستيطان، حيث قامت بجولة في شمال القطاع لاستكشاف مواقع محتملة لإقامة مستوطنات جديدة. تم هذا الدخول من دون علم وموافقة الجيش الإسرائيلي، وهو ما دفع الجيش إلى فتح تحقيق في الحادثة. وأفادت تقارير إعلامية بأن فايس كانت على اتصال بجنود داخل غزة، ساعدوها ومرافقيها على الدخول، وهو ما أثار تساؤلات عن تجاوزها البروتوكولات الأمنية المعمول بها.

[2] جمعية "كسر الصمت" (Breaking the silence): منظمة إسرائيلية غير حكومية، تأسست سنة 2004 على يد جنود إسرائيليين سابقين، بهدف جمع ونشر شهادات الجنود الذين خدموا في الأرض المحتلة سنة 1967. تقول المنظمة إنها تسعى للتوعية العامة بشأن الانتهاكات التي تحدث في تلك المناطق وتسليط الضوء على تأثير الاحتلال في كلّ من الفلسطينيين والمجتمع الإسرائيلي. وقد أثارت نشاطات المنظمة جدلاً واسعاً في المجتمع الاستيطاني الإسرائيلي، إذ يعتبرها البعض وسيلة لمحاسبة الجيش، بينما يتهمها آخرون بتشويه صورة إسرائيل دولياً. في سنة 2015، أصدر يعَلون، الذي كان وزير الدفاع آنذاك، قراراً يحظر نشاط "كسر الصمت" داخل الجيش الإسرائيلي، مانعاً الجنود من الاطلاع على شهادات زملائهم بشأن جرائم الحرب. جاء هذا القرار في إطار حملة أوسع من الحكومة الإسرائيلية للحد من تأثير المنظمات الحقوقية التي تنتقد سياسات الاحتلال، واعتُبر خطوة لمنع وصول الجنود إلى معلومات قد تُحرج المؤسسة العسكرية.

[3] "السور الواقي" التسمية الإسرائيلية لحملة الاجتياح الهائلة التي نفّذها الجيش الإسرائيلي في آذار / مارس ونيسان / أبريل 2002 خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية. هدفت العملية إلى "استعادة السيطرة الأمنية على مناطق الضفة الغربية الخاضعة للسلطة الفلسطينية. وركزت بشكل خاص على المدن الفلسطينية الكبرى، مثل نابلس وجنين ورام الله، حيث اقتحمت القوات الإسرائيلية المخيمات والمناطق المدنية بحجة تدمير البنية التحتية "للإرهاب الفلسطيني"، وفق وصف دوائر صنع القرار السياسي الإسرائيلي آنذاك، وعلى رأسها أريئيل شارون. تُعدّ معركة مخيم جنين من أبرز أحداث العملية، حيث واجه الجيش الإسرائيلي مقاومة شديدة من الفلسطينيين، وهو ما أدى إلى دمار كبير وسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى. أثارت العملية انتقادات دولية واسعة بسبب استخدامها المفرط للقوة وما رافقها من تدمير للأملاك والبنية التحتية، إلى جانب الاتهامات بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين.

[4] سفر الأمثال (28:13) في التوراة. تُستخدم العبارة في اللغة العبرية الحديثة بشكل مجازي للإشارة إلى أن الشخص الذي يعترف بخطئه ويصحح مساره قد ينال المغفرة أو الرحمة.

 

المزيد ضمن العدد