علاقات دول الخليج بالعراق: مرساة للاستقرار ولجم التدخل الإيراني في المنطقة؟
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال، العدد 1599
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- الاضطرابات في العالم العربي ازدادت تفاقماً مع التوتر السني-الشيعي في العراق، وفي الأساس في العلاقات بجيرانه العرب الذين امتنعوا من توظيف الاهتمام والموارد فيه. وتدهورت العلاقات حتى بعد الاحتلال الأميركي للعراق في سنة 2003، ووصلت إلى أدنى مستوى لها مع تولّي نوري المالكي رئاسة الحكومة وتأييد المؤسسة الدينية في العراق للتظاهرات الشيعية في الخليج قبل نحو عقد من الزمن. وأدى قُرب العراق التاريخي والجغرافي والطائفي من إيران إلى تعامُل السعودية معه بصفته ذراعاً إيرانية، الأمر الذي دفع العراق إلى التقرب أكثر من إيران، على الرغم من الضغط الأميركي على الرياض كي لا تفعل ذلك.
- مع ذلك، شهدت الأعوام الأخيرة عودة الحرارة إلى علاقة عدد من دول الخليج بالعراق. ساهم في ذلك زعماء عراقيون بارزون، على رأسهم رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي والزعيم الشيعي مقتدى الصدر، اللذان رأيا في التقرب من الدول العربية عموماً، ومن دول الخليج خصوصاً، أداة لموازنة النفوذ الإيراني في العراق، ولتحسين وضعه الاقتصادي. واستخدم الكاظمي مكانة العراق الاستراتيجية وتركيبته الطائفية الخاصة للتجسير بين دول الخليج وبين إيران، من أجل تحسين مكانة بلده الإقليمية. هذا التوجه الذي كان له تداعيات مهمة على علاقات القوى الإقليمية – مع أو من دون توقيع الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى - مرتبط بكبح المأزق السياسي في العراق.
الدينامية الداخلية
- يقف العراق أمام مفترق طرق سياسي بعد الانتخابات البرلمانية التي خسر فيها ممثلو الميليشيات الإيرانية جزءاً من قوتهم، وحقق خصومهم، الذين يسعون لتقليص التدخل الإيراني في الدولة، إنجازات كبيرة. دراما الانتخابات جرّت العراق إلى دوامة سياسية: تشكيل الائتلاف الحاكم الجديد استمر قرابة نصف عام، وتعمقت التصدعات الداخلية - في الأساس وسط الشيعة والأكراد. ترافقت العقدة السياسية مع زيادة التوترات بين المعسكرات المتخاصمة: السياسيون الشيعة في الأساس، إذ يهدد الموالون للنظام الإيراني، بمن فيهم زعماء الميليشيات الموالية لإيران الذين تهمهم المحافظة على موقع قوة في السلطة، على الرغم من تقلُّص قوتهم البرلمانية، بتصعيد العنف إذا جرت محاولة تشكيل ائتلاف من دونهم؛ في مقابلهم، يقف ائتلاف متعدد الطوائف (شيعي - سني- كردي) بقيادة مقتدى الصدر. ما يجمع بين هذه الكتل، بالإضافة إلى التوق إلى استقلال السلطة في العراق، هو النفور من موطىء القدم الإيرانية في الدولة الذي ازداد في الأعوام الأخيرة. وبرز التأييد لهذا الشعور وسط الجمهور وداخل السلطة، وتجلى من خلال موجة الاحتجاجات التي نشبت في سنة 2019، وأدت إلى مواجهات دامية بين المتظاهرين ونشطاء الميليشيات الإيرانية، وإلى اغتيال نشطاء سياسيين معادين لإيران. الكاظمي والصدر اللذان تحولا في الانتخابات الأخيرة إلى بيضة القبان في أي ائتلاف مقبل، أوضحا أنهما لن يتنازلا عن سلطة القانون واستقلال الحكومة في بغداد؛ لذا، هما يتعرضان لتهديدات من مؤيدي "النظام الإيراني" (كما تعرّض الكاظمي لمحاولة اغتيال بعد الانتخابات).
- ... بناءً على ذلك، فإن تأليف الحكومة الجديدة في العراق يخضع الآن لمجموعة ضغوط داخلية وخارجية. والخلاصة التي توصل إليها الصدر وشركاؤه أنه على الرغم من تطلُّعهم إلى حكومة لا تخضع "للإملاءات الإيرانية"، فإن الحكومة يجب أن تضم أطرافاً مدعومة من طهران.
الدينامية الإقليمية
- استأنفت الإمارات علاقتها بالعراق في سنة 2008، ومنذ ذلك الحين، وسّعت تدخّلها الاقتصادي فيه. والتطور الذي يمكن أن يسهّل تحسين العلاقات بين العراق وجيرانه العرب هو الانتهاء من دفع الدين إلى الكويت في كانون الثاني/يناير 2020 - 52 مليار دولار- تعويضاً عن أضرار الاحتلال العراقي للكويت في سنة 1991، بحسب قرار الأمم المتحدة.
- بالنسبة إلى السعودية، هي أيضاً غيرت توجُّهها بعد أعوام طويلة ركزت خلالها على منع انزلاق الفوضى من العراق إلى أراضيها، من خلال تحصين الحدود المشتركة وتقديم مساعدة محدودة لعناصر سنية أو شيعية علمانية، مثل إياد علاوي، وقررت تحسين العلاقات من أجل التأثير في مستقبل العراق وإبعاده عن إيران. بعد وفاة الملك عبد الله في سنة 2015، وللمرة الأولى منذ ربع قرن، جرى تعيين سفير سعودي (غير مقيم) في العراق، وفُتحت قنصلية في أربيل (2016)، كما فُتح المعبر الحدودي بين البلدين في عرار في سنة 2020. قطر أيضاً أعادت فتح سفارتها في بغداد في سنة 2015، ومنذ تلك الفترة عمّقت استثماراتها في هذه الدولة.
- زيارات الكاظمي إلى الرياض وأبو ظبي في سنة 2021، وكلامه ضد الميليشيات الإيرانية في العراق زاد في تأييد الدول الخليجية له، وضمِن له مساعدة منها. من ناحية أُخرى، خلقت الدينامية السياسية في العراق فرصة للسعودية في محاولة إبعاد الموالين لإيران عن كرسي الحكم في العراق، من خلال استغلال المصالح المشتركة مع الزعيم الشيعي الصاعد مقتدى الصدر. لكن من ناحية أُخرى، كان على الرياض الاعتراف بالخطوات المحلية في العراق، وكذلك بأن خطوات إقليمية ودولية من الصعب عليها كبح النفوذ الإيراني وإبعاده.
- على الصعيد الاقتصادي، اعتماد العراق على إيران في مجال الطاقة يمنح النظام الإيراني أداة ضغط مهمة على الحكم في بغداد. وعلى الرغم من محاولات دول الخليج تغيير هذا الوضع من خلال اتفاق يقضي بربط العراق بشبكة الكهرباء التي لديها، فإن النظام الإيراني لا يزال يحتفظ بورقة اقتصادية قوية. "الاستغناء" عن النفط والكهرباء الإيرانيين سيتطلب عملية طويلة ومضنية. بالإضافة إلى ذلك، إن الواقع الدولي المتغير، وخصوصاً في الشرق الأوسط، يطرح ظلالاً على فرص نجاح المنافسة مع إيران في العراق. بينما تبدي الولايات المتحدة اهتماماً أقل بحلفائها التقليديين في الشرق الأوسط، وتركز على استنفاد المفاوضات بشأن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. هذا إلى جانب مواصلة توجُّهها نحو تقليص التزاماتها وتدخُّلها العسكري في المنطقة. دول الخليج تتخوف من صعوبة الاعتماد على واشنطن من أجل التأثير السياسي في بغداد، ومن أجل خلق توازن عسكري أميركي في مواجهة التدخل العسكري الإيراني في العراق.
- إلى جانب ذلك، يشكل العراق مكاناً للاجتماع بين مندوبي إيران والسعودية. تجري المحادثات في أجواء إيجابية، وتعكس مصلحة الدولتين الخصمين في تبديد التوترات وحل مشكلات تلقي بظلالها على العلاقات بينهما (وخصوصاً الحرب في اليمن). لكن دعمهم للأطراف المتخاصمة في الجدل الداخلي في العراق يبعد العراقيين عن التوصل إلى اتفاق، ويضعف قدرة المعسكر الذي يسعى للتخلص من التدخل الإيراني على تأليف حكومة، من دون تسوية معناها قبول موطىء قدم إيرانية في بغداد.
التحديات المطروحة
- لا توجد استراتيجيا موحدة ومنسجمة تضع دول الخليج في موقع مؤثر في العراق. إذ لا تشكل دول الخليج كتلة متجانسة، وهي منقسمة إزاء ما يتعلق بالموضوع العراقي، كما في كل موضوع آخر، بالإضافة إلى توجيه اهتمامها إلى ساحات أُخرى - إيران واليمن. وعلى الرغم من التقارب المدروس من العراق، فإن دول الخليج لا تزال على شكوكها فيما يتعلق بالقيادة العراقية. علاوة على ذلك، يشكل العراق تحدياً لدول الخليج في عدد من المجالات. استمرار صناعة النفط في العراق يمكن أن يأتي على حساب مكانة الرياض في سوق النفط؛ هناك حساسية حيال تأثير المؤسسة الدينية في النجف في الشيعة في البحرين والسعودية؛ وبالإضافة إلى تهديد الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، يبني العراق جيشاً، بصورة تدريجية، يمكن أن يشكل تهديداً لدول شمال الخليج.
- لذلك، تعود دول الخليج إلى العراق بخطوات مترددة. القطيعة الطويلة تجعل من الصعب على الرياض تشكيل وزن مضاد لإيران في العراق. علاوة على ذلك، المعارضة لإيران تترجَم تلقائياً في العراق كتأييد للسعودية التي يُنظَر إليها وإلى قطر كدول تدعم المتطرفين السّنة في العراق - مصدر نمو حركات، مثل تنظيم داعش (تجدر الإشارة إلى أن عدداً كبيراً من المتطوعين في داعش كانوا سعوديين). بالإضافة إلى ذلك، إن العديد من الشيعة العراقيين يعارضون السعودية تاريخياً، بسبب علاقتها بالشيعة في أراضيها، وبعد غزو البحرين في سنة 2011 وقمع الثورة الشيعية. على هذه الخلفية، يفحص العراق أيضاً خيارات أُخرى، وفي الأعوام الأخيرة وجّه أنظاره إلى المشرق، وطالب بتأسيس نظام إقليمي يركز على مجال الطاقة مع مصر والأردن.
- لإسرائيل ودول الخليج مصلحة أمنية واضحة في فرض السيادة العراقية على كامل أراضي الدولة وحدودها، وكبح (إن لم يكن تفكيك) الميليشيات الموالية لإيران، والموجودة في أراضيها، والتي تربط الساحة العراقية بالمواجهة بين إيران وإسرائيل وجيرانها. وجود قوات من الحرس الثوري الإيراني في غرب العراق (مع التشديد على وجود صواريخ أرض - أرض لديها) يمكن أن يشكل مضماراً إضافياً لتعاون إسرائيلي- سعودي.
- في المقابل، التقارب الذي طرأ في الأعوام الأخيرة بين إسرائيل ودول الخليج يمكن أن يؤذي مكانتهم في المجال العراقي. وبسبب الاستقطاب الداخلي والنفوذ الإيراني، لم ينضج العراق للتطبيع مع إسرائيل. اتصالات علنية أو سرية مع إسرائيل في الماضي والحاضر من جانب سياسيين أو أحزاب (مثل الأحزاب الكردية)، أو التطبيع بين إسرائيل والبحرين والإمارات، كل ذلك واجه رفضاً وتهديداً وعنفاً، في الأساس من جانب مؤيدي إيران في العراق. كما أعلن مقتدى الصدر وقوفه ضد التطبيع مع إسرائيل ونيته منع العراقيين، قانونياً، من إقامة علاقات معها.
- بناءً على ذلك، وانطلاقاً من الواقع الحالي، تحديداً، فإن عدم وجود تطبيع علني بين العراق وإسرائيل يمكن أن يساعد دول الخليج على وقوف ائتلاف عراقي إلى جانبها يؤيد التقارب معها على أساس مصالح مشتركة تتطابق أيضاً مع مصالح إسرائيل.