هل تضعف قوة الردع الأميركية؟
تاريخ المقال
المصدر
معهد السياسات والاستراتيجيا – جامعة ريخمان، المنظّم لمؤتمر هرتسليا السنوي
من معاهد الدراسات الاستراتيجية المعروفة، ولا سيما المؤتمر السنوي الذي يعقده ويشارك فيه عدد من الساسة والباحثين المرموقين من إسرائيل والعالم. يُصدر المعهد عدداً من الأوراق والدراسات، بالإضافة إلى المداخلات في مؤتمر هرتسليا، التي تتضمن توصيات وخلاصات. ويمكن الاطّلاع على منشورات المعهد على موقعه الإلكتروني باللغتين العبرية والإنكليزية.
- الحرب في أوكرانيا مستمرة، ولا يبدو أن هناك أيّ اختراق عسكري أو سياسي من شأنه تغيير مجراها. تزيد روسيا في ضغوطها على المدنيين وتحصد الكثير من الضحايا، لكنها لم تنجح حتى الآن في تحقيق أهدافها - إخضاع الجيش الأوكراني وتفكيكه، وتغيير النظام واستبداله بحكومة دمى روسية.
- يساعد الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، حكومة زيلينسكي، من خلال تزويدها بالسلاح والمساعدات الإنسانية واستخدام الضغط السياسي والمالي والاقتصادي، بالإضافة إلى نزع الشرعية عن روسيا في كل محفل أو حدث دولي. وعلى الرغم من ذلك، فإن الغرب يمتنع من المشاركة العسكرية المباشرة، أو فرض حظر للطيران في سماء أوكرانيا، تخوفاً من الانزلاق إلى حرب شاملة. وفي المقابل، روسيا لا تتراجع بسبب الضغط الذي يمارس عليها، بل تستمر في العدوان على أهداف عسكرية وأُخرى مدنية، كما تهدد باستعمال قدراتها النووية في حال تدخّل الغرب في المعركة.
- يصعّد الطرفان ردودهم في هذه المرحلة، ولا يحاول أيّ منهما الدفع قدماً بخطوات تقرّب نهاية هذه الحرب. ومن شأن هذا المسار أن يتدحرج، وصولاً إلى مرحلة اللا عودة في العلاقات الروسية - الغربية. وخلال هذا المسار، تعمل القوة العسكرية الروسية على تحقيق أهدافها الاستراتيجية - العملانية في أوكرانيا، أمّا القوة الاقتصادية - السياسية الأميركية - الأوروبية فإنها تتصاعد، بالتدريج، بهدف تدمير اقتصاد روسيا، وتحويلها إلى دولة منبوذة في المجتمع الدولي. وسيشكل تصميم كلّ من الطرفين على استعمال قوته العامل الأساسي الذي سيحدد تأثير نتائج الحرب البعيدة المدى في موازين القوى الدولية.
- وفي المقابل، تنعكس الحرب في أوكرانيا مباشرة على توقيع الاتفاق النووي في فيينا. إذ تم تجميد المحادثات، على الرغم من وصول الأطراف إلى صيغة نهائية وُضعت على طاولة المفاوضات. فقد اشترطت روسيا توقيع الاتفاق بضمانات أميركية تكفل عدم تأثير العقوبات المفروضة عليها، بسبب الحرب في أوكرانيا، في التعاون المستقبلي المتوقع مع إيران بعد التوقيع. وفي حال استمرت روسيا في منع توقيع الاتفاق، سيكون على القوى العظمى وإيران الدفع قدماً بخطوات إبداعية وخارجة عن المألوف، بهدف الدفع بالمفاوضات، عبر نقل المهمات التي كانت تقع على مسؤولية موسكو إلى لاعب آخر. الولايات المتحدة مصممة على تنظيف الطاولة وتحييد الموضوع الإيراني وإزالته عن كاهلها، في الوقت الذي تعترف إيران بالأهمية الاقتصادية الكامنة في الاتفاق. وفي هذا الوضع، لا يزال احتمال توقيع الاتفاق مرتفعاً.
- عودة إيران إلى الاتفاق النووي ستسمح لها بأن تكون لاعباً مركزياً في سوق الطاقة الدولية، وسوف تؤدي إلى تدفق موارد كثيرة لاقتصادها المحلي مما سيسمح لها بتطوير بنى تحتية وتخفيف الضغوط الداخلية، وتطوير البنية العسكرية، بالإضافة إلى تعظيم قدرتها على التأثير في الإقليم وتقوية أذرعها في المنطقة، من خلال إمدادها بقدرات عسكرية متطورة. وبالتالي، فإن الاتفاق لن يمنع إيران من تطوير قدرات عسكرية متقدمة (طائرات مسيّرة انتحارية، صواريخ باليستية دقيقة)؛ والحفاظ على المعرفة التي جمعتها في المجال النووي؛ وزعزعة استقرار الأنظمة السُّنية؛ والاستثمار في توسيع مجال التأثير الإقليمي.
- يبدو من الآن أن إيران لا تتردد في تفعيل القوة العسكرية من خلال أذرعها، أو بصورة مباشرة، ضد دول الخليج، أو حتى الولايات المتحدة في سورية والعراق. فعلى سبيل المثال، أطلقت إيران 12 صاروخاً باليستياً على عدد من الأهداف في أربيل (12 آذار/مارس). وأعلن الحرس الثوري الإيراني مسؤوليته عن الإطلاق الذي كان يستهدف، بحسب ادّعائه، قاعدة إسرائيلية سرية هي التي نفذت الهجوم بست طائرات إسرائيلية مسيّرة على قاعدة عسكرية في كرمانشا في إيران. بدورها، صادقت الولايات المتحدة على الرواية الإيرانية بأن المبنى الذي قصفه الحرس الثوري له علاقة بإسرائيل. وبذلك، بررت عدم الرد. وفي حال كانت الأخبار صادقة، فإن هذا سيكون بمثابة مرحلة جديدة في المعركة التي تدور بين إسرائيل وإيران. واستمراراً للهجوم في أربيل، هاجمت إيران، عبر السايبر، مواقع إلكترونية حكومية إسرائيلية، وأظهرت قدرات إضافية يمكنها تفعيلها في حال تصعيد المعركة بين الدولتين.
- أرادت إيران من خلال هجومها ردع إسرائيل، كما أوضحت في الوقت ذاته أنها لم تردّ بعد على مقتل الضابطين من الحرس الثوري الإيراني في سورية، خلال المعركة بين الحروب. وفي الوقت نفسه، خدم الهجوم أهدافاً أُخرى: فقد كان رسالة إلى القيادة العراقية تفيد بأن عليها أخذ المصالح الإيرانية بعين الاعتبار في أثناء تأليف الحكومة الجديدة؛ وتعزيز الردع الإيراني في مواجهة دول الخليج.
- يُضاف إلى ذلك زعزعة صورة القوة الأميركية في المنطقة، على الرغم من أن الهجوم لم يستهدف القنصلية الأميركية الموجودة مقابل الهدف. يعتبر غياب الرد الأميركي على سياسة القوة الإيرانية في المنطقة ضد حلفائها، بمثابة ضعف، ويُضاف إلى سلسلة من الحوادث التي زعزعت العلاقات الاستراتيجية بين دول الخليج وإدارة بايدن. على سبيل المثال، هرولة الولايات المتحدة لتوقيع الاتفاق النووي مع إيران؛ رفضها اعتبار الحوثيين تنظيماً إرهابياً؛ تطوير العلاقات الاستراتيجية مع قطر بعد اعتبارها حليفاً استراتيجياً. وهذا كله في مقابل البرودة الذي تبديها إزاء ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والتعامل معه على أنه المسؤول عن اغتيال الصحافي خاشقجي، وهو ما أدى إلى توتر العلاقات مع الإمارات والسعودية.
- في هذا السياق، اختار كلّ من أبو ظبي والرياض الحفاظ على العلاقات الاستراتيجية مع موسكو، والامتناع من زيادة إنتاج النفط، ووقف ارتفاع الأسعار التي وصلت في نقطة معينة إلى سعر ذروة يعادل 139 دولاراً للبرميل الواحد، على الرغم من التوجه الأميركي إلى طلب زيادة الإنتاج. هذا الضرر في العلاقات كلّف الولايات المتحدة ثمناً مرتفعاً جداً من جانب حلفائها، خلال جهودها لعزل موسكو. وعلى الولايات المتحدة الاستثمار في ترميم علاقاتها مع دول الخليج، في ظل ارتفاع أهمية الشرق الأوسط في المنافسة العالمية أمام روسيا والصين. في المرحلة الحالية، يؤثر انعدام ثقة الولايات المتحدة بالقيادات المحلية سلباً في قدرتها على المضي قدماً بالدفع بخطوات استراتيجية في الإقليم.
- أمّا بخصوص إسرائيل، فإن التوتر يتصاعد في الجبهة الشمالية ومقابل "حماس". ارتفعت درجة التوتر بين إسرائيل وإيران في أعقاب اغتيال ضابطين من الحرس الثوري الإيراني خلال المعركة بين الحروب في سورية. التقديرات التي تشير إلى ردّ إيراني من سورية، إلى جانب التوتر المتصاعد مع حزب الله، والذي انعكس في محاولة الحزب اختراق الأجواء بطائرات مسيّرة في الآونة الأخيرة، يزيد في حدة التوتر. هذا بالإضافة إلى أن القضية الفلسطينية تراجعت في الرأي العام العالمي، ولا يوجد أي حاجة مُلحة إلى الدفع قدماً بخطوات من شأنها كسر الجمود. كما يساعد الانقسام الداخلي الفلسطيني، وانعدام الرغبة الإقليمية، أو الأذن الصاغية الأميركية/الدولية على إضعاف الاهتمام بالقضية. بدوره، يشكل شهر رمضان المقبل، بالنسبة إلى "حماس"، فرصة لاستغلال التوتر، القائم أصلاً في المجتمع الفلسطيني، لمواجهة إسرائيل وتثبيت مكانتها وشرعيتها في المجتمع الفلسطيني، تحضيراً لِما بعد أبو مازن.
استنتاجات لإسرائيل:
- تنجح إسرائيل في ترسيخ مكانتها كوسيط بين طرفيْ الحرب في أوروبا، من دون دفع أثمان في هذه المرحلة. وعلى الرغم من ذلك، فإن سياسة استقبال اللاجئين الإسرائيلية ضارة على الصعيد الاستراتيجي، وبصورة خاصة لصورة إسرائيل في العالم. على إسرائيل أن تغير سياسات استقبال اللاجئين من أوكرانيا، لأسباب إنسانية أخلاقية، وبسبب الثمن الاستراتيجي البعيد المدى على الساحة الدولية.
- على إسرائيل أن تستغل جيداً موقع الوسيط، وألّا تصل مع روسيا إلى نقطة اللا عودة، بسبب الخطورة الكامنة في منع حرية حركة سلاح الجو في المعركة بين الحروب في سورية، حتى اللحظة التي ستتعارض فيها هذه السياسة مع الاستراتيجيا والمصلحة الأميركية. أميركا هي الحليف التاريخي والأساسي لإسرائيل، وعلى القدس صوغ سياساتها، استناداً إلى حاجتها إلى الحفاظ على العلاقات الاستثنائية معها، حتى لو أدى الأمر إلى احتكاك بروسيا في المنطقة.
- الاتفاق النووي الذي من المتوقع أن يتم توقيعه بين القوى العظمى وإيران يفرض على إسرائيل تجهيز بنيتها العسكرية بشكل ملائم، وهو ما يسمح لها بالعمل منفردة في دائرة ثالثة، إلى جانب تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع دول المنطقة لإظهار القوة وترسيخ سياسة ردع لكبح القوة الإيرانية.
- في هذا السياق أيضاً، هناك أهمية من الدرجة الأولى للحلف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، بهدف الحفاظ على التفوق العسكري للجيش الإسرائيلي، وتطوير قنوات التنسيق الأمني - العسكري كإحدى أدوات الحفاظ على التفوق الإسرائيلي. عودة الحرب الباردة وتصاعُد المنافسة الاستراتيجية إزاء الصين وروسيا، سيعيدان الشرق الأوسط إلى الاستراتيجيا الأميركية وأولويات أمنها القومي، بسبب المصالح الجيو- استراتيجية، الأمنية وكل ما يخص الطاقة. يشكل هذا الظرف فرصة لتثبيت مكانة إسرائيل، من وجهة النظر الأميركية الشاملة للمنطقة.
- هذا بالإضافة إلى أنه يتوجب على إسرائيل صوغ استراتيجيا أمنية إقليمية إلى جانب أميركا والمعسكر السُّني (دول الخليج ومصر والأردن)، وارسائها على التزامات أميركية، من خلال توثيق التنسيق العملاني والاستخباراتي، وتعزيز أنظمة دفاعية إقليمية.
- التصعيد المتزايد مقابل إيران وفي الساحة الفلسطينية، يفرض على إسرائيل تقديرات خاصة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الاهتمام الدولي يتركز في أوكرانيا. ستطلب الولايات المتحدة من إسرائيل الامتناع من القيام بخطوات تصعيدية في المنطقة، وعلى إسرائيل البحث في كيفية تخفيف النيران من جهة، والحفاظ على قدراتها في العمل من دون أن يؤدي ذلك إلى حرب مع إيران، أو سورية، أو لبنان، كذلك الأمر مع "حماس" في غزة والضفة الغربية.