الضمانات والمعايير الدولية والحرب الروسية-الأوكرانية
المصدر
مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية

تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.

– نظرة عليا، العدد 2169

 

  • في مؤتمر صحافي عقده سفير أوكرانيا في إسرائيل لطلب المساعدة من إسرائيل، قارن بين الوضع في بلاده بعد الغزو الروسي وبين الوضع في إسرائيل في حرب الأيام الستة [حرب حزيران/يونيو 1967]. طبعاً، لا مجال لهذه المقارنة، باستثناء نقطة واحدة. في الحالتين، كان لدى الدولتين المعرّضتين للتهديد ضمانات دولية تبين أنها لا تساوي الحبر على الورق الذي وقّعتها به الدول الكبرى. في "مذكرة بودابست" الموقّعة في كانون الأول/ديسمبر 1994، حصلت كييف في مقابل تخلّيها عن مخزون السلاح النووي، الذي بقي هناك منذ الفترة التي كانت فيها عضواً في الاتحاد السوفياتي، على ضمانات من الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا باحترام حدودها وسلامة أراضيها والامتناع من تهديدها، أو استخدام القوة ضدها. قبل الاحتلال الروسي، حاولت كييف تفعيل بند الخطوات العملية لضمان أمن الأوكرانيين، مثلما طلبت إسرائيل في حرب حزيران/يونيو تطبيق الضمانات التي أُعطيت لها في مقابل انسحابها من سيناء في سنة 1957، ونحن نعرف النتيجة.
  • طبعاً، هذه ليست المرات الوحيدة التي ثبت فيها أن الضمانات الدولية غير قابلة للتطبيق. ونشوب الحرب العالمية الثانية هو المثل الأبرز في التاريخ الحديث على فشل الدول الكبرى في أوروبا في الوفاء بتعهداتها في مواجهة انتهاكات ألمانيا النازية للاتفاقات. والحرب العالمية الأولى، تحديداً، هي نموذج من منظومة التحالفات بين الدول الأوروبية، والتي استُخدمت وتسببت بملايين القتلى، قرابة 40 % منهم من المدنيين. ضمن هذا الإطار، من المفيد تذكُّر الحجة التي طُرحت خلال حرب فيتنام، وهي أنه لو كانت وسائل الإعلام في الستينيات موجودة خلال الحرب العالمية الأولى، وأظهرت حجم الدمار في معركة فردان مثلاً، التي قُتل فيها نحو مليون جندي، لكانت الحرب توقفت في سنة 1916. كما أن حجم الدمار الذي شاهده العالم، مؤخراً، ومقتل مئات الآلاف من المدنيين في سورية من دون أن يثير ذلك ردة فعل ملموسة من العالم "المتنور"، غذّى طبعاً الحديث عن وسائل الإعلام الحديثة كأدوات كابحة للقتل الجماعي.
  • هناك ادعاء راسخ اليوم بين الباحثين في المحرقة النازية، هو أن هتلر توصل إلى نتيجة الحل النهائي بعد أن رأى لامبالاة العالم إزاء الاضطهاد وعمليات القتل الجماعي التي تعرّض لها يهود أوروبا الشرقية. في المقابل، ما من شك في أن عدم تدخُّل الغرب لمنع قتل مدنيين واستخدام سلاح غير تقليدي، ونزوح ملايين اللاجئين من سورية، كان درساً استوعبه الكرملين. العامل الوحيد الذي يمكن أن يمنع بوتين من التسبب لأوكرانيا بالدمار والخراب الذي أصاب سورية، هو الجبهة التي تتبلور في الغرب وتداعياتها الاقتصادية على روسيا، وربما ردود داخلية على نتائج الغزو، والتي لا توجد دلائل عليها حتى الآن.
  • ما هي الدروس بالنسبة إلى الدولة اليهودية؟ قبل نشوء الدولة، أدركت الزعامة اليهودية، التي كانت لا تزال تعاني جرّاء صدمة المحرقة النازية، بسرعة أن قرار التقسيم، الذي أعلنته الأمم المتحدة وأيّدته الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، لن يقدم لها دولة "على طبق من فضة". وتحول مبدأ الاعتماد على نفسها فقط إلى مبدأ أساسي في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. وعلى الرغم من الانتقال إلى التفاهم مع الغرب، فإن بن غوريون فهِم بسرعة كبيرة بأنه لن يحصل على ضمانات لوجود إسرائيل من الدول الكبرى في الغرب، ولو حصل عليها، فإنها لن تصمد أمام اختبار الزمن. صحيح أنه هو الذي وضع مبدأ عدم خوض حرب من دون الاتفاق مع دولة كبرى، لكن هذا لم يكن كافياً، وكان هناك حاجة إلى مكون آخر في القدرة الردعية الإسرائيلية.
  • ووفق الدلائل التي بدأت تظهر في الأعوام الأخيرة، بدأ التفكير في خيار نووي بالظهور في مراحل سبقت تشكُّل الدولة. على خلفية هذا التفكير، كان بن غوريون مستعداً للدخول في مواجهة مع الرئيس الكاريزماتي والشعبي في الولايات المتحدة [هاري ترومان]. لاحقاً، رسّخ رئيس الحكومة مناحيم بيغن، القادم من المعسكر المضاد (الليكود)، هذا التفكير من خلال مواجهته مع رئيس صديق مثل رونالد ريغان، عندما هاجم خيار خلق توازُن نووي بين إسرائيل وبين الدول العربية. الحكومات برئاسة أولمرت ونتنياهو، ومؤخراً بينت، التي لا يوجد شك في قُربها من بعضها البعض، استمرت في نهج عدم المسّ بحصرية الخيار النووي الإسرائيلي.
  • في الختام، نود الإشارة إلى زاوية أُخرى في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، ربما كانت خفية، لكنها ظهرت من جديد، وهي الوجود الروسي في الشرق الأوسط. يتبنى بوتين العقيدة الكلاسيكية الروسية التي تعتبر الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط منطقة يجب التواجد فيها. هذا الإدراك تجلى في سياسات عدم التضامن مع إسرائيل في الأعوام الأولى للدولة، والانسحاب من سيناء في سنة 1957 تحت التهديد السوفياتي، ومسؤولية الكرملين عن أزمة أيار/مايو 1967، وخوف دايان من الدخول في مواجهة مع الجيش الروسي خلال حرب الأيام الستة وبعدها. ويجب علينا أن نتذكر الأزمة الاستراتيجية التي نشبت بين واشنطن وموسكو مع نهاية حرب يوم الغفران [حرب تشرين الأول /أكتوبر 1973].
  • الوجود الروسي في سورية والتنسيق مع بوتين الذي سمح لحكومة نتنياهو بقصف الميليشيات الإيرانية الموجودة هناك، تحول إلى "ثروة نفيسة" في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. بناءً على ذلك، وفي عالم لا تقدّم فيه الضمانات الدولية أمناً موثوقاً به، يتعين على رئيس الحكومة بينت الاستمرار في سياسته الحذرة، أو سياسة "السير بين النقاط" التي انتهجها، والتي تعرضت للسخرية من اتجاهات مختلفة. وفي الواقع، فإن الغرض من التوسط بين روسيا وأوكرانيا، من بين أمور أُخرى، تبرير موقف إسرائيل هذا. هذه الوساطة، على الرغم من الوعظ الأخلاقي للرئيس الأوكراني اليهودي، الذي نقدّر صموده البطولي في الأزمة الحالية، وعلى الرغم من الوعظ الأخلاقي في وسائل الإعلام الغربية، فإنه يجب عدم التهاون بها. ففي عالم نرى فيه الضمانات الدولية تُداس أمام أعيننا، لا مجال للمجاملات.
 

المزيد ضمن العدد 3757