دولة تتمرّغ في اشتهاء الجثث
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

المؤلف
  • لا يمكن وصف المطاردة المجنونة لجثة رون آراد إلّا بأنها اشتهاء الجثث، باسم الدولة. جثة رون آراد ليست العَرَض الوحيد لاشتهاء الجثث في سلوك إسرائيل، في الأعوام الأخيرة بصورة خاصة وأساسية، لكنه أشدّ هذه الأعراض خطورة. إسرائيل تنبش وتنقّب: تارة عن ساعة اليد الخاصة بإيلي كوهين، الجاسوس الذي أُعدِم قبل أكثر من نصف قرن، وتارة أُخرى عن معطف زخاريا باومل وحذائه، اللذين استُعيدا ملفوفيْن بالعلم الوطني في حفل مَرَضي مروع في ديوان الرئيس الروسي، وتارة ثالثة عن بقايا الجنديين اللذين قُتلا في غزة.
  • الدولة التي تحتقر حياة الإنسان الآخر تقدّس جثث موتاها. دائماً ما يجري هذا باسم القيم المزعومة؛ ودائماً ما يكون نصف العالم ضالعاً في هذا، بقيادة أجهزة الظلام الإسرائيلية التي تتمكن من استعراض سر مجدها، مرة تلو أُخرى؛ ودائماً ما يثير هذا تساؤلات عن مدى رجاحة العقل والصحة النفسية لدى مَن يقفون خلف هذه العمليات المَرَضية. وإن لم يكن هذا كافياً، فإن إسرائيل تتاجر وتُضارب بالجثث أيضاً. فقد امتلأت ثلاجاتها بالجثث وهي تحتجز عشرات الجثامين الفلسطينية "أوراقَ مساومة". إذا لم يكن هذا هو اشتهاء الموتى، فما هو إذاً؟
  • الجميع راضٍ. العائلات الثكلى، الوحيدة التي يخصها الأمر، تتوق إلى معرفة أكثر ما يمكن من تفاصيل عن أعزائها؛ وسائل الإعلام التي تضخّم هذه القصص إلى أبعاد غريبة وقبيحة، لا لشيء سوى لأغراض تجارية - قصص الألم والبطولة المعروفة - والأجهزة الظلامية بالطبع، التي تتهيأ لها فرصة أُخرى للفوز بهالة البطولة والغموض، ثم الميزانيات الإضافية. نبش قبر في لبنان واختطاف جنرال إيراني في سورية والفوز بعناوين رئيسية.
  • كم يعشق رؤساء الحكومات هذا، أيضاً: بنيامين نتنياهو برفقة فلاديمير بوتين مع حذاء باومل؛ نفتالي بينت الجديد، وكشفٌ جديد في الكنيست. عملية رون آراد مُنيت بالفشل مرة أُخرى، لكن في (صحيفة) "يديعوت أحرونوت" توّجوا صفحتهم الرئيسية بالعنوان: "يدُ إسرائيل الطويلة"، كما يحبون وكما يحب قرّاؤهم، بينما قال مصدر أمني إن العملية "قدمت إسرائيل" (إلى أين؟) و"محورت الجهود" (حول ماذا؟). نص إلزامي لكل حصة تدريسية في البهلوانيات اللغوية.
  • ما العيب في هذا، ظاهرياً؟ الدولة تهتم بجنودها، الأحياء منهم والأموات. قد يكون الأمر مثيراً، لكنه قد يكون منفّراً، شائناً وخطِراً أيضاً. عندما يصبح اشتهاء الموتى هو الأساس، عندما يجري تعريض حياة البشر للخطر من أجله، عندما تُهدَر أموال طائلة وتُرتَكب ممارسات يُحظَر على دولة قانون القيام بها، لا يمكن ولا يجوز الإعجاب بفنون الألعاب النارية. لماذا مسموح لإسرائيل اختطاف جنرالات ونقلهم إلى أفريقيا لانتزاع المعلومات منهم؟ هل سيكون شرعياً أيضاً اختطاف جنرالات إسرائيليين ونقلهم إلى أفريقيا لانتزاع معلومات منهم عن جندي مصري ميت؟ هل سيكون شرعياً احتجاز مخطوفين من لبنان في سجن إسرائيلي وتعذيبهم بوحشية طوال أعوام، فقط من أجل انتزاع معلومات لم تكن تتوفر لديهم عن طيار ميت؟ من الحتمي أن تكون ثمة لحظة معينة تضع فيها الدولة حداً نهائياً لهذا الجنون وتعلن: هيا بنا ننشغل بالحياة.
  • لكن هذه دولة الاستعراضات. جيمس بوند من مقبرة النبي شيت في لبنان، هو عنوان الفيلم القادم قريباً. العيون تلمع مشرقة. لا مثيل لنا. لكن الألعاب الاستعراضية لا توصل، أبداً، إلى أي مكان جيد، تماماً مثل الاغتيالات التي تكمن قوتها الأساسية في قصص البطولة التي ترافقها. هذه ليست مجرد طريقة للتبجح - لدينا "موساد" يختطف أشخاصاً وينبش قبوراً في كل مكان - بل هي طريقة لحرف الأنظار عن الأسئلة والقضايا المهمة، أيضاً. النقاش الوحيد الذي يجري الآن هو حول السؤال: هل فشلت هذه العملية أم لم تنجح، فقط؟ لكن أحداً لا يسأل: من أجل ماذا؟
  • من أجل ماذا تجري التفجيرات، والاغتيالات، وأعمال التخريب، والحرائق، والأحداث الغامضة العديدة في سورية وإيران، إذا كانت إيران قد أصبحت قاب قوس وأدنى من امتلاك السلاح النووي؟ ماذا تأتّى من هذا كله، غير مجد أجهزة الظلام؟ وماذا تأتّى من عمليات اغتيال الفلسطينيين على مدار أعوام عديدة، غير إشباع غرائز منفذيها؟ ذات مرة، كان لا يزال بالإمكان تغليف كل شيء بالاعتبارات والضرورات الأمنية. أمّا جنون رون آراد فلا يمكن تغليفه سوى بثرثرة "التراث". لكن في نهاية المطاف ينتصب السؤال بكامل قوته وحدّته: متى سنكبر ونُفطَم؟