هواجس مقلقة عشية "يوم الغفران": هل باتت المطالبة بالعدالة في إسرائيل خيانة؟
المصدر
يديعوت أحرونوت

تعني بالعربية "آخر الأخبار"، تأسست سنة 1939، وتصدر باللغتين العبرية والإنكليزية، كما يمكن قراءتها على موقعها الإلكتروني "ynet". وهي تُعتبر الصحيفة الثانية الأكثر انتشاراً في إسرائيل. تنتهج الصحيفة خطاً سياسياً أقرب إلى الوسط الإسرائيلي، يصدر عن الصحيفة ملحق اقتصادي بعنوان "كلكاليست".

  • إن "يوم الغفران" [أحد الأعياد العبرية وهو يوم مقدس عند اليهود مخصص للصلاة والصيام فقط. كما أنه اليوم المتمم لأيام التوبة العشرة التي تبدأ بيومي رأس السنة. وهذا اليوم، بحسب التراث اليهودي، هو الفرصة الأخيرة لتغيير المصير الشخصي أو مصير العالم في السنة الآتية. ويصادف، هذا العام، يوم الخميس 16 أيلول/سبتمبر الحالي] هو موعد جيد لإجراء حساب صادق للذات، ليس على الصعيد الشخصي فقط، بل على الصعيد الجماعي أيضاً. طوال أعوام عديدة ظل النقاش بشأن النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني محكوماً بحل الدولتين. في عهد بنيامين نتنياهو تخلت إسرائيل عن هذا الحل، وبعد انتهاء هذا العهد - يجدر بنا أن نُجري حساباً للذات، وأن نسأل أنفسنا بصدق: إلى أين المسير من هنا؟ إذا لم يكن الحل دولتين لشعبين، فما هي الرؤية البديلة التي تطرحها إسرائيل إذاً؟ عندما نتخيل المستقبل، ماذا نرى هناك بالضبط؟
  • تعالوا نفترض أن السيناريو الإسرائيلي الأكثر تفاؤلاً هو الذي سيتحقق، وأن إسرائيل ستنجح في تحقيق رؤيتها كاملة. كيف سيبدو الأمر؟ في مثل هذه الحالة، كما في سياستنا في مجال الأسلحة النووية، سيختار معظم الإسرائيليين إبقاء الأمور رهن الغموض. ولكن، عند العيش في إسرائيل بأذنين مصغيتين وعينين مفتوحتين، تبدو الرؤية البديلة واضحة وضوح شمسنا الشرق الأوسطية.
  • باختصار، انتقلت القوى الحاكمة في إسرائيل من حل الدولتين إلى حل الطبقات الثلاث. فهي ترى، في مخيلتها، دولة واحدة بين البحر ونهر الأردن يعيش فيها ثلاثة أنواع من البشر: اليهود، الذين سيتمتعون بكامل الحقوق؛ العرب من الصنف أ (الدرجة الأولى)، الذين سيتمتعون بجزء من الحقوق؛ والعرب من الصنف ب (الدرجة الثانية)، الذين لن يتمتعوا بأي من الحقوق، تقريباً. هذا هو الواقع القائم اليوم فعلياً، وإذا ما أردنا الحكم وفقاً لنتائج التصويت في صناديق الاقتراع، فيبدو أن أغلبية اليهود في إسرائيل تفضل استمرار هذا الوضع، كما هو عليه الآن، إلى الأبد.
  • الشيطان في المصباح: حل الطبقات الثلاث ليس جديداً، إذ تطبقه إسرائيل منذ عشرات الأعوام بطريقة تدريجية، خطوة تلو أُخرى. لكن إسرائيل تنكر نياتها حتى الآن. المعاملة المختلفة التي تعتمدها تجاه اليهود، تجاه العرب مواطني إسرائيل وتجاه العرب غير المواطنين، يجري تبريرها بالادعاء أن هذا الوضع موقت تفرضه حاجات دولة إسرائيل الأمنية. واليوم أيضاً، حين يلقي ممثلون إسرائيليون خطابات علنية - في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، على سبيل المثال - لا يجرؤون على الحديث صراحة عن حل الطبقات الثلاث باعتباره حلاً دائماً وثابتاً، لأن لهذا الحديث رائحة غير مرغوب فيها.
  • بدلاً من ذلك، يتحدث ممثلو إسرائيل مطولاً عن التحديات الأمنية التي تواجه إسرائيل، أو يشرحون كيف أنه على الرغم من كون الحيز الممتد ما بين البحر ونهر الأردن هو ملك لإسرائيل، كله، إلاّ أنها لن تمنح سكان نابلس أو بيت لحم حق التصويت، لأنهم ينتمون إلى كائن عجيب يدعى "السلطة الفلسطينية". إنه كائن فريد من نوعه أشبه بمصباح علاء الدين.
  • هذا الكائن حبيسٌ داخل مصباح صغير معظم الوقت، ولا يعيق شيئاً مما نرغب في تنفيذه. فإسرائيل هي المسيطرة على الأغلبية الساحقة من الأراضي ومصادر المياه، وعلى الحيز الجوي والرقمي، بالكامل، في الضفة الغربية. وإسرائيل تتدخل أيضاً، من دون توقف، في كل تفاصيل حياة السكان الفلسطينيين اليومية وتقرر، مثلاً، المدة الزمنية التي يستغرقها السفر من نابلس إلى بيت لحم، وما إذا كان بإمكان عائلة خليلية المغادرة للمشاركة في حفل زفاف قريب لها في الأردن. قلّبوا صفحات هذه الصحيفة وانتقلوا إلى الصفحة الأخيرة منها، ثم انظروا في الزاوية اليسرى من الأعلى. ستجدون هناك خريطة الأحوال الجوية المتوقعة. كل الحيز الواقع ما بين البحر ونهر الأردن - بما في ذلك قطاع غزة أيضاً - مصبوغ بلون واحد. لن تعثروا على السلطة الفلسطينية، ولا حتى بواسطة عدسة تكبير.
  • ولكن، عندما نرغب في التنصل من المسؤولية - عن تطعيم السكان الفلسطينيين ضد فيروس كورونا مثلاً - لسنا في حاجة سوى إلى فرك المصباح فقط. فجأة يظهر هذا الكائن بكامل هيبته ويُسقط عنّا أية مسؤولية. "تطعيم سكان نابلس وبيت لحم؟ ما هي علاقتنا بهم؟ نابلس وبيت لحم ليستا تابعتين لنا أصلاً، وإنما للسلطة الفلسطينية".
  • لكن ربما كان بإمكاننا أن نكون أكثر صراحة ووضوحاً في "يوم الغفران" بالذات، حين يخلو كل شخص بنفسه وحيداً، أو برفقة مجموعة من الأصدقاء الذين يمكن الوثوق بهم والاعتماد عليهم. ألا يمكننا الاعتراف بأننا نسير نحو حل الطبقات الثلاث؟ أي نحو دولة واحدة يعاني مليونان من مواطنيها التمييز في التعليم، وفي السكن، وفي الخدمات الشُرَطية، بينما ملايين أُخرى من سكانها لا تتمتع حتى بحق التصويت في الانتخابات؟ دولة واحدة فيها ثلاثة أنواع من الناس. دولة واحدة فيها نوع واحد من الناس متمتع بأفضلية في الأمن الشخصي، وفي الحركة والتنقل، وفي العمل، وفي كل شيء.
  • ثمة أشخاص يذكّرهم هذا بنماذج مختلفة من التاريخ. هذا ليس ذا صلة أو أهمية. ليس ثمة حالتان متطابقتان في التاريخ، وفي اللحظة التي تُجرى فيها مقارنات تاريخية تبدأ على الفور جدالات فيما إذا كانت الأمور متشابهة أو غير متشابهة، وإلى أي حد متشابهة، بينما يُنسى الأمر الأساس ـ ما يحدث هنا والآن. عن هذا يجب أن يدور الحديث.
  • خَوَنة: القاعدة الأولى الخاصة بحل الطبقات الثلاث هي أنه محظورٌ الحديث عن حل الطبقات الثلاث. ليس في العلن، على الأقل. محظور الحديث عنه في العلن لأنه من الواضح تماماً أنه ليس حلاً عادلاً. إنه نابع من منظور إلى العالم يضع فوق العدالة مبدأ آخر هو: الولاء القبلي. المؤمنون بمبدأ الولاء القبلي يعتقدون أن مجرد المطالبة بالعدل لمن هم ليسوا أبناء القبيلة هي بمثابة خيانة.
  • بينما يُحَرَّم الحديث العلني عن حل الطبقات الثلاث، تُرمى كلمة "خائن" في الفضاء، صبح مساء. "الخائن" في الأصل هو مَن يشي بأسرار عسكرية لدولة معادية. على سبيل المثال ماركوس كلينغبرغ الذي سرّب إلى السوفيات معلومات عن برنامج الأسلحة البيولوجية الإسرائيلي. أما اليوم، فـ"الخائن" في عُرف إسرائيليين كثيرين هو كل مَن يعتقد أن العدالة تكون، أحياناً، أكثر أهمية من الولاء للقبيلة اليهودية. المعارضون لحل الطبقات الثلاث، باسم العدالة، حصلوا على ترقية من مجرد كونهم "ذوي النفوس الجميلة" إلى "خوَنة"، حتى لو كانوا يحملون رتبة جنرال في الجيش.
  • فكِّروا، مثلاً، في الموقف من المحكمة العليا التي تُتَّهَم هي أيضاً بالخيانة، أحياناً كثيرة. المشكلة التي تقف بين كثيرين من الإسرائيليين والمحكمة العليا لا تنبع من قرار حُكم قضائي عينيّ أو من هوية هذه القاضية أو تلك، وإنما من هوية المحكمة العليا ذاتها - كونها "محكمة العدل العليا"، وليس "محكمة الولاء العليا". فعلياً، لم تُجهض المحكمة العليا حتى اليوم أياً من الإجراءات أو الخطوات الأساسية التي تقودنا نحو حل الطبقات الثلاث، غير أن المعنيين بهذا الحل يتخوفون من احتمال أن تحاول هذه المحكمة في يوم من الأيام، ربما، معارضة هذا الحل باسم العدل ذاته. لذلك، هم يفضلون تصفية "محكمة العدل العليا" مسبقاً، لأنهم لا يريدون في الدولة مؤسسةً تضع العدل فوق الولاء.
  • يمكن فهم مَن يضعون الولاء فوق العدالة. ثمة ملايين السنين من التطور خلفهم. كل المخلوقات الاجتماعية - من النمل حتى الشمبانزي - تقدس الولاء للجماعة. صحيح أن الشمبانزي يعرف ما هو العدل، لكنه يأتي في نظرهم بعد الولاء، دائماً. في النزاع بين عضوين من السرب نفسه، يقف الشمبانزي إلى جانب الحق والعدل. أمّا في نزاع بين عضو من السرب وشمبانزي آخر غريب، فإن الشمبانزي يفضل القريب دائماً، حتى لو كان واضحاً تماماً أن الحق مع الطرف الآخر. هكذا يتصرف بنو البشر أيضاً في حالات عديدة، كما في الصراعات بين عصابات إجرام، أو في منافسات، و/أو خصومات بين فرق رياضية (عندما سجل مارادونا الهدف بيده، لم يحتج مشجعو الأرجنتين على غياب العدل، بل ادّعوا أنها كانت "يداً إلهية").
  • إن الحساب هنا واضح تماماً. في العديد جداً من الحالات، إذا ما فضّلتُ العدل على الولاء للقبيلة فسيعود هذا بالضرر على مصالحي، بل قد يعرّض حياتي للخطر. لكن لهذا السبب بالذات يطلقون على تفضيل العدل اسم "الأخلاق"، وليس "المصلحة". الأخلاق حاضرة في تلك الحالات التي تشد فيها المصالح في اتجاه ما، بينما تشد العدالة في اتجاه آخر. ما من شك في أن التصرف بطريقة أخلاقية هو أكثر صعوبة من التصرف بطريقة مصلحية. وهذا هو السبب، على ما يبدو، في أن الديانة اليهودية قد حددت يوماً خاصاً في كل سنة لكي نسأل أنفسنا: "هل نتصرف بطريقة أخلاقية كافية؟". لسنا في حاجة إلى يوم خاص كي نسأل أنفسنا "هل نتصرف بطريقة مصلحية كافية؟"، لأننا نسأل أنفسنا هذا السؤال كل الوقت، دائماً.
  • في "يوم الغفران" القريب، إذاً، وقبل أن نردد "أذنبنا، خُنّا، سَرَقنا"، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا: ما هي المبادئ الأخلاقية التي نعرّف بموجبها الذنب والخيانة والسرقة أصلاً؟ هل نعتقد أن اليهود هم أشخاص علويون بطبيعتهم ويحق لهم التمتع بحقوق وامتيازات خاصة؟ هل نعتقد أن العدالة أكثر أهمية من الولاء القبلي أحياناً، أم أن الولاء للقبيلة هو المتقدم على العدالة دائماً؟ وعلى الرغم من ذلك هل ثمة طريقة للتجسير بين المطالبة القيمية بالعدالة والمطالبة القبلية بالولاء، من دون الحاجة إلى الاختيار بينهما، ومن دون أن تُعتبر المطالبة بالعدالة خيانة؟

 

 

المزيد ضمن العدد 3634