حارس الأسوار: انتصار تكتيكي، وخسارة استراتيجية
المصدر
مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية

تأسس في سنة 1993 على يد الدكتور توماس هيكت، وهو من زعماء اليهود في كندا، وكان تابعاً لجامعة بار إيلان، وأُطلق عليه هذا الاسم تخليداً لذكرى اتفاق السلام الإسرائيلي -المصري الذي وقّعه مناحيم بيغن وأنور السادات. يعالج مسائل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني والصراعات في المنطقة والعالم. يميل نحو وجهة نظر اليمين في إسرائيل. كما أصدر المركز مئات الدراسات والكتب باللغتين العبرية والإنكليزية.

المؤلف
  • بعد عشرة أيام من القتال انتهت الحرب الرابعة بين "حماس" وبين إسرائيل منذ سيطرة الحركة الإسلامية على القطاع في سنة 2007. وكسابقاتها انتهت الحرب من دون حسم واضح، لكن يوجد انطباع بأن الاشتباك الحالي كان مختلفاً اختلافاً مطلقاً عن جولات القتال السابقة من حيث اختلاف اللغة والتفكير بين "حماس" وإسرائيل، والذي كشف فجوة فكرية ومفهومية.
  • بينما اتسم التفكير الإسرائيلي طوال القتال بمنطق تكتيكي - كمي، كان تفكير "حماس" استراتيجياً - نوعياً. برز هذا جيداً في النقاش الداخلي الإسرائيلي الذي تركز على الإنجازات الكمية للقتال، مثل عدد الأهداف التي هوجمت وعدد عناصر "حماس" الذين قُتلوا، وكميات الصواريخ التي أُطلقت، والتي جرى اعتراضها، وعدد الأبراج التي دمرها سلاح الجو وغيرها. من وجهة النظر هذه، إن هذا الأسلوب القتالي أي معركة غير مباشرة من الجو رسخ أكثر المقاربة الإسرائيلية التي وضعت آمالها على محاولة تحقيق أكبر عدد ممكن من الإنجازات من خلال ضرب "أهداف".
  • من هذه الزاوية قام الجيش الإسرائيلي بعمل جيد، إذ أدار المعركة جيداً من خلال التنسيق بينه وبين الشاباك، بينما المستوى السياسي المختلف سياسياً مع بعضه البعض نجح في المحافظة على الانسجام، وعلى تعاون يستحق الثناء. ومن دون شك تلقت "حماس" ضربة عسكرية واسعة من وجهة نظر عسكرية- لكن هنا تكمن المشكلة. فالمنطق التكتيكي- الكمي منع إسرائيل من تحقيق نتيجة عسكرية واضحة لا جدال فيها، بينما استخدمت "حماس" منطقاً مغايراً للغاية وركزت بصورة منهجية على أهداف استراتيجية.
  • من وجهة النظر هذه نجحت "حماس" نجاحاً لم يكن متوقعاً. فهي لم تبادر فقط إلى المعركة من خلال إطلاق الصواريخ على القدس في يوم عيد الفطر، وبذلك فاجأت إسرائيل (كما اعترف جزء من كبار المسؤولين في المؤسسة الأمنية)، بل نجحت حتى في خلق موجة تداعيات لهذه الحرب خارج حدود القطاع. الخلافات التي ظهرت في العلاقات اليهودية - العربية في إسرائيل، والاضطرابات في المدن المختلطة إلى جانب تسخين قطاع الضفة الغربية كانت من النتائج التي رافقت الحرب في القطاع، وفعلاً نجحت "حماس" في توحيد المنظومة الفلسطينية كلها (في غزة، وفي الضفة وداخل إسرائيل)، وفككت بعد سنوات من نجاح غير قليل المنطق الأساسي في السياسة الإسرائيلية التي تعتمد على دق إسفين بين أجزاء المنظومة الفلسطينية بهدف إضعافها.
  • علاوة على ذلك، خاضت "حماس" المعركة انطلاقاً من منظور إقليمي ودولي. وضع القدس كهدف رمزي للمعركة بخلاف جولات القتال السابقة، حيث كانت مشكلة "الحصار" هي أساس القتال وهدفه، سمح لها بتنصيب نفسها رئيسة لمعسكر "المقاومة" الإقليمي الشامل على حساب حزب الله، الذي اضطر في الأسبوع الماضي إلى السكوت عن إطلاق أطراف فلسطينية "مارقة" الصواريخ من لبنان في اتجاه إسرائيل، عملية يمكن أن تتطور كنموذج عمل دائم في مواجهة إسرائيل.
  • لقد حددت "حماس" في المعركة الأخيرة جدول الأعمال في الشرق الأوسط ولم تعد المعركة في غزة مجرد "جولة قتال" محلية بينها وبين إسرائيل، بل أصبحت تعبيراً أو حجر أساس في المعركة الكبيرة التي تجري في الشرق الأوسط بين مدرستين فكريتين تمثلان معسكرين إقليميين:
  • الاستراتيجيا الاقتصادية – البراغماتية "أصحاب الأدمغة"، حيث تقف إسرائيل إلى جانب الدول الثرية التي تكره المجازفة في المنطقة. هذه المدرسة وضعت في مركزها سياسة تتركز على الدفع قدماً بجدول أعمال اقتصادي، وكانت وراء اتفاقات أبراهام، وكذلك وراء ظاهرة منصور عباس. وهي فعلياً التي حددت "صفقة القرن" لإدارة ترامب.
  • مدرسة "أصحاب القلوب" في "معسكر المقاومة" التي تركز على السياسات القديمة التي تعتمد على الدفع قدماً برؤى مثالية وطوباوية وتعطي الأولوية للمستقبل على الحياة في الوقت الحاضر. في العقد الماضي تمكنت المدرسة البراغماتية من تحقيق تفوّق واضح في المنطقة تحت رعاية الإدارة الأميركية، ويبدو أن المعركة في غزة كانت بمثابة تحدّ لها وذلك لثلاثة عوامل: تغير الإدارة في الولايات المتحدة، وتخلّي الرئيس بايدن وإدارته التقدمية عن سياسة خلفه؛ ضعف المنظومة السياسية في إسرائيل، وفي الأساس ضعف نتنياهو الذي يُعتبر محوراً استراتيجياً مركزياً ورادعاً؛ تقدير أطراف المقاومة ضعف الغرب (بما فيه إسرائيل) على خلفية الصعوبات الداخلية خلال أزمة الكورونا.
  • وبينما كان العقد الأخير يمتاز باستقرار أمني نسبي في المنطقة، وبضعف أطراف "المقاومة" وتراجُع كبير للمسألة الفلسطينية جاءت المعركة في القطاع لتقلب هذا الواقع، وجرّت وراءها كل أنصار سياسات الهوية، سواء في القطاع أو بين العرب في إسرائيل وبين الفلسطينيين في الضفة الغربية. لقد حوّلت المعركة في غزة الصدام التكتيكي بين الطرفين إلى صدام استراتيجي بين مدرستين وتوجّهين ونظريتين ومعسكرين مختلفين. من هذه الناحية كان لدى إسرائيل فرصة استثنائية لتحويل غزة و"حماس" إلى درس إقليمي ودولي، واستعادة التوازن السابق وإعادة ترسيخ أجندة براغماتية اقتصادية.
  • المطلوب لهذا الغرض أن تغير إسرائيل استراتيجيتها إزاء غزة، وأن تحدد أهدافاً عملانية متعددة تؤدي إلى معركة تنتهي بتحطيم كامل لقواعد القوة العسكرية لـ"حماس". وهذا يعني التخلي عن الاستخدام المعروف للمعركة الجوية لمصلحة معركة تجمع بين الجو والمناورة البرية. لكن يبدو أن الفجوة بين اللغة وتوجه إسرائيل التكتيكي- الكمي وبين التوجه الاستراتيجي - النوعي لـ"حماس" كشف عن الصعوبة الإسرائيلية في فهم طبيعة المعركة الحالية ودلالاتها الخاصة مقارنة بسابقاتها والتعرف على الإطار الواسع الذي تجري ضمنه.
  • لقد واصلت إسرائيل العمل وفق المنطق العملاني العسكري عينه الذي استخدمته في الجولات السابقة واعتبرت القتال مجرد جولة تخوضها ضد "حماس". في هذه الظروف انتهت المعركة بإنجاز تكتيكي مدهش، لكن في تحليل استراتيجي أوسع يذكّرنا  هذا بالإنجاز الكمي الأميركي في مقابل الخسارة الأميركية الاستراتيجية في حرب فيتنام [(1959-1975)]. ولذلك تداعيات واضحة على السياسة الشرق الأوسطية على مختلف المستويات تقريباً.
  • حالياً كفة "أهل القلوب" هي الراجحة. لقد نصّبت "حماس" نفسها لاعباً استراتيجياً مهماً يتخطى الساحة الفلسطينية، ونجحت في تقويض النموذج الاقتصادي البراغماتي لـ"صفقة القرن"، ودقت إسفيناً بين اليهود والعرب في إسرائيل، وأعطت الأطراف المسلحة في المنطقة أسباباً وجيهة لمواصلة تحدّيهم لإسرائيل. وهذه ليست أخباراً جديدة "لأصحاب الأدمغة" وللذين يحبون الحياة. أيّ تصحيح للمسار الناشىء يتطلب قبل كل شيء استيعاباً معرفياً للدلالات الحقيقية للحرب الأخيرة، ونتائجها الفعلية، وفي أسرع وقت ممكن.