الجمهور العربي وانتخابات الكنيست الـ24: بين براغماتية جماهيرية وديماغوجية حزبية
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
  • الطبقة الوسطى في الجمهور العربي في إسرائيل تقود في العقد الأخير توجهاً واضحاً نحو اندماج العرب في الدولة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وكذلك على
  • المستوى السياسي. وذلك في مواجهة عملية إقصاء مستمرة، عامة وسياسية وثقافية، من أجزاء كبيرة من المجتمع اليهودي ومن الدولة. هذا الموقف للجمهور اليهودي والدولة حصل على طابع قانوني في "قانون القومية"، وفي التعديل 116 لقانون التخطيط، و"قانون كمينتس" (الذي شدد العقوبة على البناء غير القانوني)، وكذلك في الكلام التحريضي الذي يُسمع من السياسيين. الجمهور العربي من جهته يركز على تطلُّعه إلى إحداث تغيير جذري في مكانته ووضعه، أيضاً من خلال مشاركة سياسية فعالة في عمليات اتخاذ القرارات، ومن أجل الدفع قدماً بالمساواة في الحقوق المدنية الكاملة وتوزيع الموارد بصورة أكثر توازناً. تشكيل القائمة المشتركة (2015) في أعقاب رفع نسبة الحسم، والإنجازات في الانتخابات السابقة شجعت هذا التوجه العام. في المقابل، الجمهور الإسرائيلي عموماً يواصل تجاهل هذا التوجه. فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه معهد دراسات الأمن القومي (تشرين الثاني/نوفمبر 2020) أن 60 % تقريباً من الجمهور اليهودي يوافق على عدم تأليف حكومة مع الأحزاب العربية.
  • قبل انتخابات الكنيست الـ 22 (أيلول/سبتمبر 2019) أعلن رئيس القائمة المشتركة أيمن عودة أن المجتمع العربي أصبح ناضجاً لأن يكون لاعباً مؤثراً في السياسة الإسرائيلية. وطلب زعماء القائمة ثقة الجمهور من خلال تعهدهم بأنهم سيركزون على موضوعات داخلية (صحة، تعليم، إسكان، عمل، القضاء على العنف والجريمة) ضمناً على حساب الاهتمام بموضوعات ذات طابع وطني. الجمهور العربي صوّت بأعداد كبيرة للقائمة المشتركة التي حصلت على 13 مقعداً في الكنيست الـ22، وعلى 15 مقعداً في الكنيست الـ23 وهي ذروة غير مسبوقة. تصويت العرب الجارف للقائمة المشتركة جاء على حساب التصويت للأحزاب اليهودية التي تراجعت نسبة التأييد لها في انتخابات الكنيست المنتهية ولايته إلى أدنى مستوياتها (12% في الكنيست الـ23 مقابل 28% في الكنيست ال21، و18% في الكنيست الـ22).
  • هذه التطورات السياسية، وفي الأساس الانتخابات المتكررة في ضوء استمرار التعادل بين الكتل المتخاصمة، أثبتت القدرة الحاسمة للصوت العربي، وطرحت على النقاش العام مسألة شرعيته وإمكانية ضم العرب إلى الائتلاف الحكومي. وهكذا قبل انتخابات الكنيست الـ24، وبعد سنوات طويلة من المقاطعة أصبحت أحزاب صهيونية من اليمين واليسار ناضجة للاعتراف بأنه يجب  اعتبار الصوت العربي مكوناً شرعياً في بناء ائتلاف حكومي.
  • يجري داخل الجمهور العربي أيضاً حوار واعٍ لهذا الموضوع، في ظل خيبة الأمل من رفض كتلة أزرق أبيض الاعتماد على القائمة المشتركة لتشكيل ائتلاف تترأسه، وخصوصاً بعد أن رشحت الكتلة كلها بني غانتس لرئاسة الحكومة. اندلع خلاف حاد بين مكونات القائمة المشتركة بشأن كيفية تجميع قوتها السياسية من أجل الدفع قدماً بالمصالح الحيوية للمجتمع العربي. منصور عباس رئيس الحركة الإسلامية /الجناح الجنوبي، يقود حالياً توجهاً سياسياً براغماتياً من خلال السعي لتعاون سياسي مع أي زعيم، حتى من اليمين، وعبر إخفاء الجانب الوطني-الفلسطيني. ودعا عباس القائمة المشتركة إلى ألّا تكون مقيدة بالنظرة الأيديولوجية – القومية، التي لا تسمح بمرونة سياسية. في ضوء ذلك يمكن رؤية خطوات عباس الأخيرة التي تهدف إلى الدفع قدماً بالتعاون مع الليكود، من خلال التركيز على المجالات العملية، وبينها مواجهة العنف والجريمة وتمديد الخطة الخمسية لتطوير المجتمع العربي (قرار الحكومة الرقم 922 العائد إلى كانون الأول/ديسمبر 2015). يبدو أن موقف عباس يعتمد على مشاهداته للأجواء البراغماتية لدى الجمهور العربي، وأيضاً كونه عضواً في حركة إسلامية تشدد على الناحية الدينية والاجتماعية أكثر من الناحية الوطنية. على هذه الخلفية يمكن أن نرى تشكيل الحزب العربي الجديد "معاً". رئيسه الناشط الاجتماعي محمد دراوشة لا يرى تناقضاً بين كون إسرائيل دولة يهودية ديمقراطية وبين منح المساواة الكاملة في الحقوق لمواطنيها بحسب وثيقة الاستقلال. وينوي الحزب الجديد التعاون سياسياً مع أحزاب الوسط الصهيونية للانضمام إلى عمليات اتخاذ القرارات في الدولة.
  • زعماء القائمة المشتركة (أيمن عودة "حداش"، ومطانيوس شحادة "بلد"، وأحمد الطيبي "تاعل") ينظرون إلى هذه التوجهات بقلق كبير. هم دانوا الخطوات المستقلة لعباس بذريعة أنها يمكن أن تضر بوحدة القائمة وبقوتها السياسية في انتخابات الكنيست الـ24. في رأيهم، يتعين على القائمة المشتركة الاستمرار في مطالبة الدولة بالمساواة في الحقوق والعدالة الاجتماعية للمواطنين العرب، من دون التخلي عن مواقف أيديولوجية - وطنية في الموضوع الفلسطيني. هذا بالإضافة إلى السعي لتعزيز قوة القائمة المشتركة بواسطة زيادة التمثيل اليهودي فيها، وفي المقابل إقامة "معسكر ديمقراطي" كقوة سياسية من خارج البرلمان، يشمل يهوداً وعرباً يؤيدون أربعة مبادىء: إنهاء الاحتلال، وتعزيز الديمقراطية والمساواة، والدفاع عن مكانة الأقلية العربية، والعدالة الاجتماعية.
  • وجهة النظر هذه لحداش وبلد وتاعل، تُظهر الفجوة القائمة بينهم وبين المقاربة البراغماتية التي تسود المجتمع العربي، والتي تنتظر الآن من ممثليها في الكنيست التركيز على البحث عن وسيلة لتحقيق تأثير سياسي حقيقي والاندماج في عمليات اتخاذ القرارات في الدولة. وبينما أغلبية واضحة من الجمهور العربي (69.8%، بحسب مؤشر علاقات العرب مع اليهود في سنة 2019 الذي يشرف عليه البروفيسور سامي سموحا) مستعدة اليوم للاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كدولة يهودية، ترفض الأحزاب العربية وجهة النظر هذه. هذه الفجوة ظهرت أيضاً في اتفاقات التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج: بينما يؤيد ثلثا الجمهور العربي هذه الاتفاقات (بحسب استطلاع شركة ستاتنت في كانون الأول/ديسمبر الماضي، 28% من الجمهور العربي يؤيد بشدة، و35% يؤيدون، مقابل الثلث يعارضون)، صوّت أعضاء القائمة المشتركة في الكنيست ضدها انسجاماً مع موقفهم من النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي. دليل آخر على هذه الفجوة برز مؤخراً في تأثير وجهات النظر الاقتصادية في أزمة كورونا، مع نشر الأخبار عن الزيادة التي طرأت هذه السنة على تجنيد شبان عرب في الجيش الإسرائيلي وفي الخدمات الوطنية-المدنية، بينهم مسلمون، على الرغم من المعارضة المبدئية المستمرة من الزعامات السياسية العربية.
  • بحسب مؤشر الديمقراطية لسنة 2020 للمعهد الإسرائيلي للديمقراطية، فقط 44% من الذين شملهم الاستطلاع من العرب يشعرون بأنهم جزء من دولة إسرائيل ومشكلاتها (مقارنة بـ 84.5% من اليهود). في استطلاع جديد (5 كانون الثاني/ يناير 2021) أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية تبين أن 39% فقط من الجمهور العربي ينوون المشاركة في الانتخابات المقبلة للكنيست. استطلاع آخر أجرته شركة ستاتنت (في بداية كانون الثاني/يناير 2021) توقّع تراجعاً بارزاً في معدل التصويت في القطاع العربي إلى 52%. بحسب الاستطلاع، إذا خاضت القائمة المشتركة الانتخابات بصورة موحدة فإن 69% من الناخبين العرب سيصوتون لها، ما يعني 10 مقاعد في الكنيست. الباقون 31%، من المتوقع أن يصوتوا لمصلحة أحزاب صهيونية، بينهم مقعدان سيذهبان إلى الليكود (!)، الذي حظي في الانتخابات الماضية بدعم عربي يوازي 3 مقاعد في الكنيست. إذا انقسمت القائمة المشتركة (مثلاً خاضت حركة "حداش" الانتخابات مع "بلد"، والحركة الإسلامية مع حزب أحمد الطيبي) ستحظى القوائم العربية بأقل من 11 مقعداً، و3.4 مقاعد ستذهب إلى القوائم الصهيونية، بينها 1.5 إلى الليكود. يمكن التقدير أن تراجُع نسبة التصويت لدى الجمهور العربي أمر يرغب فيه الليكود وسائر الأحزاب اليهودية من زاوية اقتراعية.
  • على هذه الخلفية يمكن أن نفهم محاولات الأحزاب اليهودية السعي وراء الصوت العربي، وخصوصاً الخطوات الأخيرة لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يعتبره الجمهور العربي زعيماً ملائماً لرئاسة الحكومة، مع فجوة كبيرة جداً مع يائير لبيد وبني غانتس. من هنا يأتي الحديث في الليكود عن تحصين أماكن واقعية لممثلين عرب في قائمة الحزب ، وأيضاً الوعد بتعيين وزير عربي مسلم، بالإضافة إلى التعهد بالتوظيف في المجالات العامة العربية، من أهمها: الصحة، والاقتصاد، والأمن الداخلي.
  • بالإضافة إلى ذلك أوضح الليكود مؤخراً أنه لن يقيم حكومة تدعمها الحركة الإسلامية أو القائمة المشتركة. بناء على ذلك، وأيضاً على خلفية الاستطلاعات المذكورة أعلاه يبقى السؤال مفتوحاً إلى أي حد ستؤثر هذه الوعود في الجمهور العربي في الانتخابات المقبلة، وهو الذي يعرف، والحساس تجاه الأجواء الإقصائية لدى الجمهور اليهودي وفي صفوف الأحزاب الصهيونية.
  • في الخلاصة، من الواضح أن التوجه النظري والعملي لعملية الأسرلة المتعددة الأبعاد والمشاركة في الحيز السياسي يتواصل في وسط الجمهور العربي. مع ذلك فإن هذا الجمهور يعي التلاعب السياسي الذي تمارسه الأحزاب الصهيونية حياله، وحساس من المسّ بمكانته العامة وإقصائه المستمر في المسائل الوطنية، وفي الأساس في مجالات عملية تأتي في رأس اهتماماته. إزاء هذه المقاربة السائدة لا يزال من الصعب على الأحزاب العربية تبنّي صيغة متفَّق عليها تسمح لها بإقامة تعاون سياسي مع الأحزاب الصهيونية، الأمر الذي يمكن أن يمس بقوتها البرلمانية والسياسية، وبوعودها للجمهور العربي بأنها قادرة على الدفع قدماً بمصالحه الحيوية.
  • على أي حال، يبدو أن التطورات السياسية التي ذُكرت أعلاه تخلق بعداً حديثاً لشرعية الصوت العربي وسط الأحزاب الصهيونية من اليمين واليسار، وربما أيضاً تخلق فرصاً لتعاون سياسي يهودي - عربي. الانتخابات المقبلة ستكون اختباراً لاستعداد الأحزاب الصهيونية للسير نحو الجمهور العربي في موضوعات مدنية مهمة بالنسبة إليهم.
 

المزيد ضمن العدد 3484