المناورة العسكرية المشتركة في قطاع غزة – جهد لبلورة وعي بالقوة كرد على الضعف
تاريخ المقال
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي
–
مباط عال
معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
- في 28 كانون الأول/ديسمبر جرت في قطاع غزة مناورة عسكرية هي الأكبر في حجمها منذ سيطرة "حماس" على القطاع، وتشكل سابقة لأنها جرت بالتعاون بين التنظيمات العاملة في المنطقة. شاركت في المناورة، التي تحدثت عنها وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية ووسائل التواصل الاجتماعي بإسهاب، وحدات عسكرية من 13 تنظيماً فلسطينياً، بينها مجموعات انشقت عن "فتح" وحتى تنظيمات ذات قوة عسكرية صغيرة للغاية. الأهم كانت قوات "حماس" والجهاد الإسلامي. شاركت في المناورة القوة البحرية والقوة الجوية ووحدات صاروخية وغيرها تابعة لـ "حماس"، أدارتها قيادة مشتركة من الحركة ومن سائر التنظيمات.
- جرت المناورة في واقع أزمة فلسطينية عميقة داخلية وخارجية. من جهة إسرائيل تهدد وتنفّذ مناورات في مواجهة القطاع وتحذّر من مفاقمة التوتر في المنطقة، بينما مساعي التسوية مع إسرائيل، والتي تجري بوساطة مصرية، لا تتقدم، والقاهرة تتهم "حماس" بإفشالها. من جهة أُخرى جهود المصالحة بين "حماس" والسلطة الفلسطينية تراوح مكانها بعد أن اختارت السلطة استئناف التنسيق الأمني والمدني مع إسرائيل والحصول منها على أموال الضرائب التي تجمعها على المعابر، ويبرز في المنطقة توجّه التطبيع مع إسرائيل، والقضية الفلسطينية تخسر أهميتها. بالإضافة إلى ذلك الوضع الإنساني الصعب الذي يزداد تفاقماً بسبب وباء الكورونا.
- سبق المناورة إعداد للوعي تركّز في تصريحات تهديدية لإسرائيل - لم تكن علنية بصورة خاصة، وفي جزء منها ضمنية. وشدد ناطقون بلسان "حماس" على التعاون بين التنظيمات إلى جانب التحسن في القوة العسكرية للمقاومة المسلحة لتمرير رسالة رادعة إلى إسرائيل، إلى جانب رسالة للجمهور الفلسطيني كله بشأن أهمية الوحدة واستمرار مقاومة إسرائيل كرأس حربة النضال الوطني.
- بالإضافة إلى فهم المناورة كمحاولة لبلورة وعي للقوة والقدرة الردعية، فإنه يمكن تفسيرها كتعبير عن ضعف أو محاولة "حماس" إخفاء هذا الضعف - سواء في مواجهة إسرائيل، أو إزاء السكان المحليين الذين يرزحون تحت عبء أزمة إنسانية ووباء الكورونا، من دون انتظار حدوث تحسّن واضح للوضع في المستقبل المنظور.
- بناء على ذلك، من الأصح التعامل مع المناورة كخطوة حملت رسائل علنية واضحة تستهدف جماهير محددة، بالإضافة إلى رسائل ضمنية موجهة إلى جماهير أُخرى. "حماس" في مواجهة معضلة السعي لعدم خسارة أهميتها، بينما انهمكت في السنوات الأخيرة في منع القوات العاملة في القطاع من إطلاق صواريخ على إسرائيل بهدف الحؤول دون تجدد التصعيد. مطلوب من قيادة الحركة تفسير سبب وقف المقاومة عملياً منذ المواجهة الواسعة التي حدثت مع إسرائيل في صيف 2014، وسبب عدم تنفيذ تهديداتها، وما هو البديل المقترح للصراع المباشر مع إسرائيل. تجد هذه القيادة صعوبة في مواجهة الحجة التي تُسمع كثيراً ضدها في الساحة الفلسطينية بأن المقاومة محاصرة، وأنها لم تعد تسيطر على جدول الأعمال. القوة الإسرائيلية تخلق ردعاً، والضعف الفلسطيني يزداد حدة، وكل عملية مقاومة تتطلب الأخذ في الحسبان المخاطر الناجمة عنها. المناورة العسكرية هدفت، من بين أمور أُخرى، إلى أن تقول للجمهور: لا تشعروا بأنكم ضعفاء، المقاومة لم تمت، وهي تزداد قوة وتراكم قدرات ستتجلى في يوم المعركة.
- بالإضافة إلى ذلك، مررت المناورة رسالة مفادها أن "حماس" تنجح في توحيد فصائل مختلفة تحت علم واحد، وأن الوحدة في ساحة القتال يجب أن يجري التعبير عنها في مصالحة على الصعيد الوطني. هذه الرسالة يمكن اعتبارها استفزازاً للسلطة الفلسطينية وأبو مازن المتّهمَيْن، وإن بلهجة أضعف من الماضي، بإفشال محاولة المصالحة الأخيرة مع قرار استئناف التنسيق الأمني والمدني مع إسرائيل- خطوة اعتبرتها "حماس" خضوعاً وضعفاً وتخلياً عن مبادىء النضال الوطني.
- بالنسبة إلى إسرائيل، من المفترض أن تبلور المناورة وعياً رادعاً- مثل إطلاق الصواريخ من حين إلى آخر في اتجاه أراضي إسرائيل- من خلال تحويل الاهتمام إلى القوة والتنوع في القدرات العسكرية لـ"حماس" والتنظيمات الفلسطينية الأُخرى التي تعمل بتعاون وبتوحيد الصفوف الذي يضاعف القوة. وتحذير إسرائيل من نواياها إزاء قطاع غزة كما تجلت في التدريبات التي أجراها الجيش الإسرائيلي مؤخراً، ومن تصريحات زعماء وقادة كبار في إسرائيل.
- من المحتمل أيضاً أن المناورة تهدف إلى رص الصفوف في "حماس" نفسها وتشجيع العناصر في الأذرع العسكرية للحركة، الذين يشعرون بالإحباط لأن قيادتهم لا تنتهج سياسة أكثر نضالاً. يجب التذكير بأن زعيم "حماس" في القطاع يحيى السنوار بعث في السنوات الأخيرة برسالة مفادها أنه يجب ملاءمة أسلوب النضال مع ظروف الزمان والمكان، وفي رأيه، في هذا الزمن يجب تفضيل المقاومة الشعبية وليس المقاومة المسلحة.
- ثمة هدف آخر للمناورة، إرسال رسالة إلى مصر، الوسيطة الأساسية لمساعي التسوية إزاء إسرائيل، والتي زار القطاع وفد من طرفها قبل يومين من المناورة وطلب توضيحات تتعلق بها. القاهرة غاضبة على "حماس" بسبب ما اعتبرته مصر إفشالاً لمساعي التسوية بتشجيع وبتوجيه من إيران وتركيا وقطر. قيادة "حماس" حاولت من جهتها التشديد على أنها مدعومة بقوة عسكرية بواسطة المناورة، فهي تتمتع بالسيطرة الفعلية في مناطق القطاع، وعلى السكان في المنطقة، وأيضاً على التنظيمات المسلحة والآخرين العاملين فيها، وأنها تملك الرد على القوة العسكرية لإسرائيل. تريد "حماس" أن تقول للقاهرة أنه من الأفضل تخفيف الضغط الذي يمارَس عليها ولإبداء مرونة كي تقترب من شروط التسوية التي تقدمها إسرائيل، الطرف الذي تفضله مصر. إخلاء مكاتب الممثلية المصرية في غزة مؤخراً (التي كانت مغلقة منذ سيطرة "حماس" على القطاع في سنة 2007) يعزز هذا الانطباع.
- في الوقت عينه يمكن أن نرى في استعراض القوة العسكرية لـ"حماس" محاولة للتغطية على الضعف في مواجهة السكان المحليين في القطاع، وأيضاً في مواجهة فصائل مارقة. الواقع الإنساني الصعب في قطاع غزة يمكن أن يشعل احتجاجاً شعبياً إذا خرجت الأمور عن سيطرة "حماس"، وهو ما سيخلق ظروفاً مريحة لإسرائيل والسلطة الفلسطينية، بدعم من إسرائيل والاحتجاج، من أجل السيطرة مجدداً على القطاع وتفكيك البنية التحتية العسكرية لـ"حماس". خسارة الرصيد الأساسي للحركة، أي السيطرة على القطاع، سيعيدها سنوات إلى الوراء ويمس بشدة بمكانتها كقائدة للمقاومة، وبمساعيها للاندماج بالسلطة وبمنظمة التحرير الفلسطينية، وتحقيق كونها بديلاً من "فتح". هذه هي خلفية استمرار "حماس" في إظهار رغبتها في المصالحة واستعدادها للتنازلات.
- بالنسبة إلى إسرائيل، ليس للمناورة العسكرية التي جرت في قطاع غزة تداعيات عسكرية أو أمنية بعيدة المدى. وهي لا تشير إلى رغبة في التصعيد من "حماس". يدرك منظموها الاهتمام الذي يثيره أي إظهار للقوة في إسرائيل، ويعتبرون التغطية الإعلامية الواسعة والتحليلات التي رافقتها إنجازاً. من جهة أُخرى ربما نشأ، تحديداً، هامش فرصة جديدة لتسريع مساعي التسوية إزاء "حماس" والدفع بها قدماً. ضعف "حماس" والتخوف من خسارتها السيطرة بسبب تفاقم الظروف في غزة، وقوة الردع الإسرائيلية وقدرتها على تقديم مساعدة طبية وزيادة جهود المساعدة في إعادة البناء الإنسانية، كل ذلك بالإضافة إلى احتمال تجنيد مساعدات للقطاع من دول عربية بفعل اتفاقات التطبيع، يمكن أن يساعد في الدفع قدماً بتسوية طويلة الأجل. تحقيقها يشكل مصلحة حيوية، سواء فيما يتعلق بتحسين الواقع الأمني في الجنوب، أو فيما يتعلق بتحسين البنى التحتية الصحية والإنسانية في قطاع غزة، وأيضاً سيساهم في تآكل التهديد الإيراني بأنه لدى حدوث تصعيد في الجبهة الشمالية ستنضم "حماس" إلى الجهد الإيراني في مواجهة موازية مع إسرائيل.