الفلسطينيون يدركون أنهم لم يعودوا قادرين على أن يفرضوا على العالم متى تدخل إسرائيل إلى دائرة المقبولين
تاريخ المقال
المصدر
- بعد مرور أكثر من 70 عاماً من المقاطعة في المجال الإقليمي، حصلت دولة إسرائيل ذات السيادة على الاعتراف بها في وضح النهار. ليس الأمر أنه لم تكن توجد علاقات قبل ذلك بين إسرائيل وبين الإمارات ودول أُخرى في المنطقة، لكنها الآن خرجت إلى العلن ولم تعد سرية- وهذا يعرفه الجميع. الاتفاقات مع الإمارات والبحرين هي مقدمة لاتفاقات أخرى مع دول أخرى في المنطقة، وهي في الأساس تشكل اختراقاً للوعي. المقاطعة تحطمت بكل معنى الكلمة. إذا وضعنا السياسة جانباً، ما جرى هو خطوة تاريخية ومهمة، حتى لو كانت لا تخلو من تعقيدات وأثمان كبيرة.
- مع أنني عشت سنوات طويلة في مصر، التي دفع زعماؤها قدماً، بشجاعة استثنائية، بالسلام بينها وبين إسرائيل، بعد حروب دموية وأثمان باهظة لا أستطيع أن أتجاهل حقيقة أنه بخلاف السلام المهم والاستراتيجي البارد مع مصر، فإن السلام الذي يجري الحديث عنه مع دول الخليج ينطوي على تطبيع، وحرارة، وعناق علني، من دون اعتذار.
- كلمة تطبيع باللغة العربية هي لا أقل من لعنة في دول مجاورة عقدنا معها حلف سلام قبل عشرات السنوات. لكنها تبدو مختلفة هذه المرة. العناوين الأولى في صحف الإمارات والنصوص بالعربية في التلفزيونات الرسمية في دبي في يوم توقيع الاتفاق هي إعلان واضح وقاطع- لا نخجل من علاقتنا بإسرائيل. بالنسبة إليهم العلاقة "حلال". الاتفاقات بيننا وبين الإمارات والبحرين هي خطوة تغيير للواقع. ما يجري هو اعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، والتوقف عن ربط التطبيع بحل شامل للقضية الفلسطينية وقيام دولتين لشعبين.
- لا يعني هذا أن دول الخليج ليست مهتمة بحل المشكلة الفلسطينية. الشارع هناك معنيٌّ بذلك، لذلك الزعامات نفسها غير قادرة على تجاهل المشكلة. لكن الأغلبية في الخليج ليست معنية بما فيه الكفاية بهذه القضية كي توقف روتين حياتها، وتقف ضد زعمائها، حكام البحرين والإمارات، وهي غير مستعدة بعد الآن لاشتراط التقدم الاقتصادي والتجاري والثقافي والتكنولوجي في المنطقة بإرضاء كرامة القيادة الفلسطينية الحالية في الضفة الغربية، وفي غزة.
- الاسم "اتفاق أبراهام" ينطوي على معانٍ مدهشة أُخذت من دون شك في الاعتبار لدى اختيار هذا الاسم. جدنا إبراهيم لم ينجح في حياته في الجمع بين ولديه، يتسحاق وإسماعيل، لكن الاثنين دفناه معاً بعد وفاته. الأخوّة تغلبت على العداء، ولو لوقت قصير، في مواجهة الحدث الكبير، وهو موت الأب. هذه الرمزية لم تكن خافية عن أنظار الرأي العام في الشارع العربي في إسرائيل. هم يدركون أنه انتهى العهد الذي كانت القيادة الفلسطينية الموجودة في غزة وفي رام الله تفرض على العالم كله، وعلى المنطقة خصوصاً، متى تدخل إسرائيل إلى حلقة المقبولين من الحي. وهذا لا يعجبهم.
- يجري أعضاء الكنيست من القائمة المشتركة مقابلات في كل القنوات التلفزيونية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي العربية ويصرّحون ضد الاتفاق. وهم بذلك يثيرون غضب أصحاب مواقع على وسائل التواصل وواضعي السياسات في الإمارات. جزء من المعارضين الذين ينتمون إلى حزب بلد يذهب بعيداً في معارضته، ويدّعي أن الاتفاق "يزرع الدمار في المجال الإقليمي، وفي العالم كله"- كما قال عضو الكنيست مطانيوس شحادة في مقابلة مع قناة كان 11.
- وكالعادة، الجمهور اليهودي في إسرائيل يميل إلى تكوين انطباعاته عن الشارع العربي، في الأساس، كما تعبّر عنه قيادته السياسية في الكنيست. وهذه القيادة تكثر من المقابلات، سواء في وسائل الإعلام الدولية والإقليمية وكذلك الإسرائيلية. وفي كثير من الأحيان هي لا تمثل الرأي العام بأمانة. مَن يصغي حقاً إلى المواطن العربي البسيط؟ قلائل جداً من الإسرائيليين اليهود.
- هذا الشارع منقسم، في أغلبيته، إلى مجموعتين غير متساويتين في الحجم. مجموعة كبيرة تضم المواطنين الذي يصارعون من أجل بقائهم في مواجهة الوضع الاقتصادي الهش أصلاً للمجتمع العربي في إسرائيل، وبقوة أشد في ذروة أزمة الكورونا. ومجموعة أصغر تشمل رجال أعمال أذكياء ومنظّمين جيداً يرون في التطورات مع الخليج نافذة فرصة رائعة ومثيرة وممتازة للدفع قدماً بالأعمال والصفقات الاقتصادية. هذه المجموعة الأخيرة لا نسمع صوتها قط. من الأفضل لها الدفع قدماً بالصفقات بصمت، ومن وراء الكواليس، كي لا تثير الغيرة وسط بقية الجمهور العربي.
- من دون علاقة بالمواقف السياسية، سواء أعجبت الجميع أم لم تعجبهم، المجتمع العربي في إسرائيل يشكل خمس السكان- وهو جزء لا يتجزأ من المجتمع الإسرائيلي. الآن، ومع التطورات التي تغير الوقائع التي تجري في المنطقة، هذا هو زمن هؤلاء السكان الذين لديهم ميزة اللغة والمعرفة العميقة بالثقافة الإقليمية.
- لا يمكن المبالغة في أهمية هذه الميزات في كل ما له علاقة بالدفع قدماً بالعلاقات التجارية والاقتصادية بين الشركاء من الطرفين. متخذو القرارات في مجاليْ السياسة والاقتصاد في إسرائيل والإمارات والبحرين سينظمون أمورهم في الاتفاقات الكبيرة والصفقات الاستراتيجية من دون مساعدة خاصة. لكن باقي الجمهور يستطيع بالتأكيد الاستفادة من ثمار السلام في كثير من النواحي التجارية، وفي الأعمال، وهنا تكمن الميزة الكبيرة للسكان العرب. وفي رأيي هؤلاء لن يضيعوا الفرصة كما تقترح عليهم قيادتهم السياسية.