قطاع غزة: من رؤية قصيرة الأمد إلى رؤية بعيدة الأمد
المصدر
معهد دراسات الأمن القومي

معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛  وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.

– مباط عال
  • نشب التصعيد الأخير بين إسرائيل و"حماس" في قطاع غزة (11-12 تشرين الثاني/نوفمبر)، في أثناء تقدم الجهود المتواصلة لبلورة اتفاق تهدئة بين الطرفين. ودل سلوك إسرائيل و"حماس" في هذا الحدث على رغبة متبادلة في السعي لتفاهمات (الطرفان يرفضان مصطلح "تسوية"، لأنه يُفسّر كاعتراف متبادل) تشمل وقفاً لإطلاق النار وتخفيفاً كبيراً للحصار المفروض على قطاع غزة. والانطباع هو أن إسرائيل وأيضاً "حماس"  لا تريدان دفع ثمن حرب، من المنتظر في نهايتها العودة إلى نقطة البداية.
  • في هذه الأثناء، تتبلور قواعد اللعبة وتتحقق بصورة دينامية. الاشتباك الذي وقع بين قوة من الجيش الإسرائيلي نشطت في خان يونس، استغله جيداً قائد "حماس" في القطاع، يحيى السنوار، كي يثبت لمنتقديه أنه لم يتخلّ عن المقاومة المسلحة، وفي الوقت عينه، كي يوضح لإسرائيل أن "حماس" لن تمارس ضبط النفس في مواجهة عمليات الجيش الإسرائيلي في أراضي القطاع تحت غطاء تفاهمات وقف إطلاق النار. قرار "حماس" إطلاق صليات مكثفة من الصواريخ على إسرائيل خلال اليومين اللذين تليا الاشتباك، كشف تقدير "حماس" أن هناك حاجة إلى توجيه ضربة قوية ومؤلمة لإسرائيل، لكن محدودة، تسمح بالعودة إلى تفاهمات التهدئة. وبدوره، كان الرد الإسرائيلي قاسياً، ومع ذلك مدروساً. والدليل على ذلك عدد القتلى المنخفض نسبياً في القطاع في أعقاب القصف (الذي جرى خلاله استخدام إجراء "الدق على السطح" للإنذار قبل قصف منطقة سكنية) [المقصود إجراء عسكري يستخدمه الجيش لتحذير السكان المدنيين قبل وقوع الغارة].
  • منذ عدة أشهر تحاول مصر، مع موفد الأمم المتحدة، نيكولاي ملادنوف، الدفع قدماً بتسوية في قطاع غزة من خلال التجسير بين ثلاثة أطراف: إسرائيل، و"حماس"، والسلطة الفلسطينية. اتفاق بين إسرائيل و"حماس" سيضر بمكانة السلطة الفلسطينية، الممثل الوحيد للفلسطينيين، وسيخلّد سـيطرة "حماس" على قطاع غزة؛ من ناحيـة ثانيـة، اتفـاق مصالحة داخلية - فلسطينية بين السلطة و"حماس" سيلحق ضرراً بقدرة إسرائيل على التمييز بين قطاع غزة والضفة الغربية. لذلك، وعلى الرغم من رفض إسرائيل و"حماس" الاعتراف المتبادل، تجري بين الطرفين مفاوضات - ولو غير مباشرة - من دون مشاركة السلطة. فمنذ بدء التظاهرات الجماهيرية بالقرب من السياج بين قطاع غزة وإسرائيل ("مسيرات العودة") في 30 آذار/مارس، حاولت "حماس" التوصل إلى تسوية هدفها "هدوء في مقابل رفع الحصار" المفروض على القطاع، والبدء بإعادة إعمار كبيرة للمنطقة. إسرائيل من جهتها وضعت معادلة واضحة "هدوء في مقابل هدوء"، واشترطت إحراز تقدم بشأن إعادة جثماني الجنديين والمفقودين الذين تحتجزهم "حماس"، ولم تكن مستعدة للسماح لـ"حماس" بتحقيق إنجازات تعزز وضعها في الساحة الداخلية وتعطي صلاحية للعنف الذي تمارسه على حدودها. وفي المقابل رفضت السلطة الفلسطينية المساعدة في الدفع قدماً بتسوية تمنح "حماس" شرعية وتقوي سيطرتها في القطاع، واشترطت أي تقدم نحو التسوية بحدوث مصالحة داخلية - فلسطينية، واستعادة صلاحياتها وإدارة القطاع تحت سيطرتها بما في ذلك المسائل الأمنية.
  • يتألف اتفاق التفاهمات الذي تسعى مصر للدفع به قدماً من ثلاث مراحل أساسية: الأولى: وقف إطلاق نار مستمر في مقابل التخفيف من الحصار؛ الثانية: إعادة إعمار غزة؛ والثالثة: استعادة السلطة الفلسطينية سيطرتها على القطاع بالتدريج. التصعيد الأخير نشب خلال بدء المرحلة الأولى: خفضت "حماس" من العنف على السياج؛ وإسرائيل وسعت منطقة الصيد، وسمحت بدخول الوقود بتمويل قطري، وسهلت مرور البضائع إلى القطاع؛ وأدخلت قطر بموافقة إسرائيل إلى القطاع 15 مليون دولار لدفع رواتب موظفي "حماس"، وأبقت مصر معبر رفح مفتوحاً أمام مرور البضائع والأشخاص.
  • وبدا أن تنفيذ صفقة تبادل جثماني الجندين والمفقودين  هو الشرط للتقدم من المرحلة الأولى - وقف إطلاق النار والتخفيف من الحصار - إلى المرحلة الثانية التي من المفترض أن تتضمن مشاريع للبنى التحتية لإعادة إعمار غزة، وخلق عشرات آلاف فرص العمل بتمويل من المجتمع الدولي، ومن المحتمل أيضاً إقامة معبر بحري بين غزة وقبرص.

الدلالات بالنسبة للساحة الفلسطينية

  • في السنة الأخيرة حسّنت "حماس" من وضعها الاستراتيجي في مواجهة إسرائيل، وفي مواجهة السلطة الفلسطينية والمجتمع الدولي. وذلك بفضل السياسة التي يقودها يحيى السنوار منذ انتخابه رئيساً للمكتب السياسي في القطاع. لقد قدّم السنوار خطة سياسية، وغيّر في الوقت الحالي، سمات الصراع - من التركيز على النظرة القومية – الدينية إلى التركيز على السياق المدني - الإنساني. وفي المقابلة التي أجرتها معه صحيفة "يديعوت أحرونوت" قال: "... ما أريده هو نهاية الحصار". يدل هذا الكلام على حرصه على تأمين رفاهية الجمهور في القطاع، للمحافظة على قوة "حماس" السياسية في القطاع بصورة خاصة وفي الساحة الفلسطينية بصورة عامة. في أعقاب هذا التغير في المقاربة تغيرت أيضاً طريقة التصرف. واستُبدل إطلاق الصواريخ بالمسيرات الشعبية بالقرب من السياج، وإطلاق البالونات والطائرات الورقية الحارقة في اتجاه أراضي إسرائيل. وبموازاة ذلك، من أجل الدفاع عن صورتها كقائدة للمقاومة الفلسطينية، تحرص "حماس" على التوضيح أن إنجازاتها ليست نتيجة حوار مع إسرائيل، بل نتيجة استعدادها لاستخدام القوة، بالاستناد، من بين أمور أُخرى، إلى التفاهمات التي جرى التوصل إليها مع مصر، وقطر والمجتمع الدولي، والناجمة عن ضغط التظاهرات على السياج.
  • تجد السلطة الفلسطينية نفسها في ورطة وتقف حالياً وحدها في معركة إسقاط سلطة "حماس" في القطاع. لقد أراد رئيس السلطة محمود عباس استغلال ضائقة "حماس" وعجزها عن تحسين وضع سكان غزة، للضغط على الحركة لتوقيع اتفاق مصالحة كشرط للتقدم في إعادة إعمار القطاع. وضمن إطار اتفاق المصالحة، طلبت السلطة أن تنقل "حماس" إليها السيطرة المدنية والأمنية على القطاع وتسليمها سلاحها. وتخوف عباس من مواجهة الوضع نفسه الذي تواجهه الحكومة اللبنانية مع حزب الله في لبنان: تولّي المسؤولية المدنية والإنسانية في مقابل التنازل عن احتكار القوة. على هذه الخلفية فرض عباس خلال الأشهر الأخيرة عقوبات متطرّفة على غزة، أدت إلى التوقف عن دفع الرواتب إلى عشرات الآلاف من سكان القطاع، وإلى نقص ساعات تزويد القطاع بالكهرباء.
  • وعلى الرغم من وجود مصلحة أساسية لمصر وإسرائيل في التعاون من أجل إسقاط سلطة "حماس" وإعادة السلطة الفلسطينية إلى القطاع، قررتا تفضيل التهدئة على المدى القصير لأنهما غير مستعدتين للتعرض للمخاطر الناجمة عن تصعيد والتدهور إلى معركة عنيفة نتيجة استمرار الضغط على "حماس".
  • ويبدو، بخلاف الماضي، أن مصر لم تعد ترى اليوم في المصالحة على الساحة الفلسطينية شرطاً ضرورياً لتحسين الوضع في قطاع غزة، وهي مستعدة للتوصل إلى تفاهمات مع "حماس" وأيضاً من دون تدخل السلطة. مع ذلك، تدرك مصر أنه خلال مرحلة تحقيق المشاريع المدنية في القطاع ستحتاج إلى السلطة الفلسطينية لتكون قناة لمرور المساعدات من المجتمع الدولي، ولذلك تعمل في المقابل على الدفع قدماً، وبالتدريج، بالتسوية الداخلية – الفلسطينية.
  • يدل استعداد إسرائيل للتوصل إلى تفاهمات مع "حماس" من خلال الالتفاف على السلطة الفلسطينية على أنها، عملياً، لا ترى في السلطة شريكاً في أي تسوية. ويدل هذا الاستعداد أيضاً على أن إسرائيل تسعى للهدوء في ساحة غزة بأي ثمن تقريباً، بحجة أن غزة ساحة ثانوية وأنه يجب تركيز القوات والجهود في الساحة الشمالية - سورية ولبنان - كساحة مركزية. وفي الخلفية هناك التقارير التي تتحدث عن قرب نشر الخطة السياسية الأميركية، التي سبق أن أعلن الفلسطينيون أنهم سيرفضونها، والشائعات بأن هذه الخطة ستركز بداية على إيجاد حل لمشكلة غزة. تخوض السلطة حرباً دفاعاً عن قوتها ومكانتها في عدد من الجبهات في آن معاً - في مواجهة إسرائيل، و"حماس"، ومصر والعالم الغربي، وفي مقابل المجتمع الدولي.

توصيات لسياسة إسرائيل

  • قطاع غزة هو منطقة تعاني جرّاء أزمة إنسانية ويحكمها تنظيم معاد لإسرائيل، ولا يوجد حل مناسب في متناول اليد لهذا الواقع. وفي غياب الحل، فإن السياسة المطلوبة هي منع التعاظم العسكري لـ "حماس" واستخدام الضغط لخلق ردع يمنعها من استخدام القوة، مع اعتبارها هي العنوان المسؤول عمّا يحدث في القطاع، والاعتراف كأمر واقع بسلطتها على المنطقة. لقد تمسكت إسرائيل بسياسة التمييز بين قطاع غزة والضفة الغربية والتي تهدف إلى تقليص التأثيرات السلبية في القطاع والضفة، انطلاقاً من التقدير أن ليس في إمكان السلطة الفلسطينية استعادة وجودها وسيطرتها على القطاع. تخدم هذه المقاربة الموقف الإسرائيلي الحالي القائل "بعدم وجود شريك" يمكن التوصل معه إلى اتفاق سياسي شامل، وفي الأساس تطبيقه.
  • تصرّح إسرائيل علناً أن لا مصلحة لها في نشوب حرب في غزة، وأنها تريد تهدئة طويلة الأمد. في الكلام الذي قاله بنيامين نتنياهو خلال زيارته باريس، قبل التصعيد الأخير، صرّح أنه "لا يخاف من الحرب لكنه يريد منعها لأنها ليست ضرورية"، وقدّر أن حرباً إضافية ستعيد إسرائيل إلى الوضع الذي كان عليه بعد عملية "الجرف الصامد". من جهة أُخرى، يقول مسؤولون كبار في المؤسسة السياسية وكثيرون من الجمهور الإسرائيلي إنه يجب شن عملية عسكرية واسعة ضد "حماس" وتعزيز الردع الإسرائيلي. عملياً، إسرائيل و"حماس" واقعتان في الفخ عينه - فهما من جهة لا تريدان جولة قتال ستكبدهما أثماناً وتعيدهما إلى نقطة البداية، لكنهما من جهة ثانية لا تريدان السماح للطرف الثاني بتحقيق إنجازات والظهور كأنه يُجري مفاوضات مع العدو.
  • يتعين على إسرائيل إعطاء الأولوية لمصالحها البعيدة الأمد، على حساب المصالح القصيرة الأمد في الساحة الفلسطينية. من الأفضل لإسرائيل أن تجري إعادة إعمار غزة من خلال السلطة، كي تقطف هي، وليس "حماس"، ثمار إعادة الإعمار في نظر الجمهور الفلسطيني. لذلك، يجب على إسرائيل أن تبلور خطة مشتركة مع السلطة الفلسطينية ومصر وأطراف مهمة في الساحة الدولية الذين يشترطون تقديم المساعدة لغزة عن طريق السلطة الفلسطينية. هذه الخطة المشتركة هي تخفيف الضائقة الإنسانية في القطاع وتطوير البنى التحتية، بشرط إعادة سيطرة السلطة على القطاع. وعملية مشتركة كهذه ستكون أداة ضغط مهمة على "حماس" وستقلص قدرتها على المناورة. ما يزال المجتمع الدولي يبدي استعداده لتقديم المساعدة في مشاريع في غزة هدفها تطوير البنى التحتية، وخلق وظائف عمل، وتحقيق الرفاه الاقتصادي لسكانه.

لإسرائيل مصلحة في إشراك المجتمع الدولي ودمجه، لأن تدخُّل قوة دولية تشرف على تنفيذ المهمات في القطاع سيشكل عنصراً كابحاً لـ"حماس"، وسيرفع من ثمن خسارتها لو اختارت العودة مجدداً إلى المقاومة العنيفة. ويتعين على إسرائيل مساعدة مصر في مساعي المصالحة الداخلية – الفلسطينية، وذلك بهدف تعزيز سيطرة السلطة في غزة كطرف مسؤول وجعلها عنواناً للدفع قدماً بالتسوية السياسية.

 

المزيد ضمن العدد 2976