معهد أبحاث إسرائيلي تابع لجامعة تل أبيب. متخصص في الشؤون الاستراتيجية، والنزاع الإسرائيلي -الفلسطيني، والصراعات في منطقة الشرق الأوسط، وكذلك لديه فرع خاص يهتم بالحرب السيبرانية. تأسس كردة فعل على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بقرار من جامعة تل أبيب؛ وبمرور الأعوام، تحول إلى مركز أبحاث مستقل استقطب مجموعة كبيرة من الباحثين من كبار المسؤولين الأمنيين، ومن الذين تولوا مناصب عالية في الدولة الإسرائيلية، بالإضافة إلى مجموعة من الأكاديميين الإسرائيليين، وهو ما جعله يتبوأ مكانة مرموقة بين المؤسسات البحثية. يُصدر المعهد عدداً من المنشورات، أهمها "مباط عال" و"عدكان استراتيجي"، بالإضافة إلى الكتب والندوات المتخصصة التي تُنشر باللغتين العبرية والإنكليزية.
•قرار المستشارة أنجيلا ميركل الذي اتخذته العام الماضي بشأن تأجيل المشاورات السنوية بين حكومة إسرائيل وألمانيا، وفُسر بأنه يعبر عن عدم الارتياح إزاء سلوك حكومة إسرائيل في موضوع النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني؛ وقرار تأجيل توقيع صفقة بيع ألمانيا غواصات لإسرائيل لأسباب لها علاقة، بحسب معلقين، بسلوك حكومة إسرائيل حيال النزاع؛ وتصويت ألمانيا في السنوات الأخيرة في الأمم المتحدة في الموضوعات التي لها علاقة بإسرائيل؛ وتصريحات موظفين ألمان في الحكومة حيال مستقبل العلاقات بين الدولتين؛ بالإضافة إلى مضمون خطاب وزير الخارجية الألماني، زيغمار غبرييل، في المؤتمر السنوي لمركز دراسات الأمن القومي، الذي عُقد في كانون الثاني/يناير 2018، كل هذا يشير إلى تغيير في موقف ألمانيا حيال إسرائيل. ما كفة هذا التغيير؟ هل يعبر عن توجُّه، وإذا كان الأمر كذلك، ماذا يمكن أن نفعل هنا من أجل المحافظة على الطابع الخاص للعلاقات؟
•إن المدماك المركزي وعملياً الوحيد الذي يمثل أساس العلاقات الخاصة بين إسرائيل وألمانيا هو ذكرى المحرقة النازية، والتزام ألمانيا بأن تأخذ على عاتقها الدفاع عن وجود إسرائيل وأمنها. وقد وجّه هذا المنطق سلوك متخذي القرارات في ألمانيا حيال إسرائيل في العقود التي مرت منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. وبرزت خصوصية العلاقات في التأييد (الذي لم يتزعزع) لحق إسرائيل على المستوى الثنائي والدولي أيضاً. واستند هذا كله إلى الاعتبار الألماني الأخلاقي، في حين أدت اعتبارات السياسة الواقعية (التي أدت دوراً في اعتبارات ألمانيا الغربية في السنوات التي سبقت إقامة العلاقات الدبلوماسية وعرقلت قيامها) دوراً هامشياً لفترة طويلة. على الرغم من هذا الطابع للعلاقات، فقد شهدت أزمات ناجمة عن توقعات إسرائيلية لم تلتزم بها ألمانيا (يُذكر في هذا السياق الأزمات المتعلقة بالمسائل التالية: مسألة التعويضات في بداية الخمسينيات؛ الخبراء الألمان في مصر في بداية الستينيات؛ الحياد الألماني خلال حرب يوم الغفران [حرب تشرين/أكتوبر 1973]؛أزمة هلموت شميدت – بيغن بسبب رغبة ألمانيا في تزويد السعودية بدبابات ليوبارد، والمساعدة الألمانية للعراق في بناء صناعته الكيميائية، التي سمحت له بتطوير قدرة عسكرية كيميائية).
•منذ بداية القرن الحادي والعشرين برزت بوادر أزمة من جهة ألمانيا حيال إسرائيل. وتعود أسبابها قبل أي شيء آخر إلى سلوك إسرائيل إزاء مسألة النزاع مع الفلسطينيين الذي يتعارض مع القانون الدولي في رأي ألمانيا، والذي يشكل أحد المبادىء الأساسية الذي تعمل ألمانيا في ضوئه على بلورة سياستها الخارجية. كما يمكن أن نضيف إلى ذلك عدم الثقة الذي برز في السنوات الأخيرة بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والمستشارة ميركل. ولا تقتصرهذه الأزمة على النخبة الألمانية فقط. فمنذ بضع سنوات، وتحديداً في السنوات الأخيرة، يمكن ملاحظة تآكل مستمر وبارز في نتائج استطلاعات الرأي المتعلقة بموقف الرأي العام الألماني حيال إسرائيل، ومن المتوقع أن يبدي الجيل المقبل تفهماً أكبر بكثير للجانب الفلسطيني وأن يوجّه انتقادات حادة إلى سلوك إسرائيل (على افتراض أن النزاع لن يُحل). على خلفية هذه التطورات يبدو أن التوتر بين العلاقات الخصوصية والطبيعية، خلق توجهاً يمكن وصفه بأنه تحول الخصوصية إلى طقس إلى جانب توسع العلاقات الطبيعية. وبكلمات أُخرى، إذا كانت طقسية ذكرى المحرقة في الماضي أضعفت وزن اعتبارات الواقعية السياسية بالنسبة إلى ألمانيا، فإنها لم تعد اليوم كافية لمواجهة هذه الاعتبارات.
•لقد كانت ذكرى المحرقة وما نتج منها من التزامات أخلاقية وتاريخية التزمت بها ألمانيا لضمان وجود إسرائيل وأمنها قائمة في أساس العلاقات، أمّا مسألة مساهمة ذلك في المصلحة الألمانية العامة في الشرق الأوسط، فلم تكن تدخل في أساس الاعتبار الألماني (هذا لا يعني أيضاً أن ألمانيا لم تستفد وما تزال تستفيد من التعاون مع إسرائيل). هذا الواقع الآخذ في التشكل لخّصه مسؤول ألماني بالقول إن العلاقات تتطور نحو اتجاه تكون فيه الواقعية السياسية هي أساس التعاون بين الدولتين. فإذا كان هذا حقاً هو التوجّه، لا نستطيع أن نرى في تأثير الموضوعات المطروحة اليوم على جدول أعمال الدولتين دليلاً على العلاقات الخاصة أو على تعاون استراتيجي، بل دليلاً على تعاون هو ثمرة مصالح مشتركة من النوع الموجود بين إسرائيل وبين مجموعة دول. إن أي تعاون استراتيجي يستند إلى رؤية مشتركة للتهديدات وسبل مواجهتها، وقيم مشتركة أيضاً. وتدل الفجوات المتزايدة بين ألمانيا وإسرائيل في السنوات الأخيرة على أن هذه القيم لم تعد تشكل أساساً للعلاقات بينهما.
•يمكن أن نجد أدلة على هذه الفجوات في اللقاءات الثنائية التي جرت في السنوات الأخيرة وجرت فيها مناقشة موضوعات ذات أهمية مشتركة، إذ نشبت خلافات في الرأي يبدو بعضها غير قابل للردم، وهناك أيضاً التصريحات الرسمية للسياسيين الألمان الذين لم يعودوا يشعرون بكوابح "تاريخية"، مثلما كان الأمر في السنوات السابقة، تمنعهم من انتقاد مواقف إسرائيل. ومن الأمثلة على ذلك: الخلاف الجوهري في الآراء بشأن كيفية مواجهة التهديد النووي الإيراني على خلفية الاتفاق النووي الذي تشارك فيه ألمانيا، وخصوصاً التقدير أن التهديد الإيراني بصورة عامة يختلف عن التقدير الإسرائيلي؛ خلافات في الرأي بشأن صورة الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط ونتائجه بما في ذلك الأزمة السعودية – الإيرانية وسبل مواجهتها (هناك تحفظات لألمانيا حيال استفادة إسرائيل من الخلاف وتقربها من المعسكر السني في صراعه ضد المعسكر الشيعي)؛ خلافات في الرأي في شأن الموضوع الفلسطيني تلقي بظلالها على مستقبل العلاقات بين الدولتين. وقد أوضح خطاب وزير الخارجية الألماني في المؤتمر السنوي لمعهد دراسات الأمن القومي موقف ألمانيا (وموقف الاتحاد الأوروبي) في هذا السياق عندما قال: "... ما هي بدقة استراتيجيا إسرائيل حيال النزاع..." هذا هو السؤال المركزي الذي طرحه غبرييل في كلامه على خلفية عدم وجود ردود على مسائل مثل "طابع الحياة المشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين في المستقبل، وهي مسألة تطرح تحدياً على إسرائيل من الزاوية الأمنية والأخلاقية". وتطرق لاحقاً إلى الذين في المجتمع الإسرائيلي لا يعتقدون أن هذا يشكل تحدياً ملحاً وأنه من الممكن إدارة الوضع القائم والمحافظة عليه فقال: "كيف تريدون أن يبدو مستقبل إسرائيل، هل أنتم مستعدون لدفع ثمن الضم المستمر وواقع دولة واحدة مع عدم مساواة في الحقوق بين مواطنيها، أو دولة واحدة ديمقراطية بين النهر والبحر".
•هل يلمح هذا الكلام إلى أن سلوك إسرائيل حيال القضية الفلسطينية، أي مدى التقدم نحو حل الدولتين، سيصبح حجر الأساس لمدى استعداد الجانب الألماني للدفع قدماً بالعلاقات الثنائية؟ وأيضاً هل الالتزام بأمن إسرئيل الذي التزمت وتلتزم به ألمانيا بإخلاص منذ سنوات عديدة لم يعد التزاماً لا يتزعزع، وهو مرتبط بسلوك إسرائيل. والدليل على ذلك قرار الحكومة الألمانية بتأجيل توقيع اتفاق شراء إسرائيل غواصات رداً على السلوك الإسرائيلي في قضية المستوطنات.
•تظهر الفجوة بين الدولتين أيضاً في مسألة "القيم المشتركة". ثمة مبدأ أساسي يوجه السلوك الألماني في مجال العلاقات الدولية هو احترام القانون الدولي، الذي توجد في أساسه التسوية الثنائية. إن عدم قانونية المستوطنات في الضفة الغربية، بحسب القانون الدولي في نظر ألمانيا، وكذلك السلوك الإسرائيلي في موضوع حقوق الإنسان، هما محور نزاع لا يبدو أن هناك حلاً له في الأفق.
•في الخلاصة، لولا ذكرى المحرقة لما كانت العلاقات بين إسرائيل وألمانيا قد تطورت نحو علاقات خاصة. فقد شكلت ذكرى المحرقة المدماك المركزي الذي استندت إليه العلاقات. ومع ذلك، فإن مكانة هذه الذكرى في شبكة الاعتبارات الألمانية بالنسبة إلى السياسة حيال إسرائيل قد تراجعت. ويمكن أن نعدد بين الأسباب ابتعاد ذكرى المحرقة والتغير الذي طرأ مع مرور الأجيال. إن العثور على قواسم جديدة تستند إلى مصالح مشتركة سيصبح عاملاً موجهاً من الناحية الألمانية. بالإضافة إلى المصالح المشتركة تظهر فجوات سواء فيما يتعلق بتقدير التهديدات ووسائل مواجهتها، وإلى الفجوات على مستوى القيم. كل ذلك يطرح علامة سؤال حيال فرص قيام شراكة استراتيجية بين الدولتين. وكلما اصبحت العلاقات طبيعية أكثر، سيتراجع البعد الطقسي/الرمزي، أي حاجة ألمانيا إلى التشديد على البعد التاريخي في العلاقات. نحن أمام مسار لا عودة عنه، ومما لاشك فيه أن حل النزاع الإسرائيلي - الفلسطيني سيكون عاملاً سيقلص من الاحتكاكات، وسيسمح بتوثيق العلاقات الطبيعية بين الدولتين.