•كثرت التعليقات في واشنطن والقدس المشككة بالاتفاق الروسي - الأميركي المتسرع بشأن جنوب سورية حتى قبل توقيعه، بل قال رئيس الحكومة نتنياهو بصراحة إن إسرائيل تعارض اتفاق وقف النار في جنوب سورية لأنه يديم الوجود الإيراني في هذه الدولة. من المبالغة الحديث عن قطيعة بين واشنطن والقدس، لكن بالتأكيد هناك عدم تفاهم حول هذا الموضوع.
•لقد نشطت إيران بالطبع قبل ذلك في سورية سواء من خلال ميليشيات شيعية أو بواسطة حزب الله، لكن الفرق هو أن الاتفاق يحدد الآن بصورة واضحة مناطق فاصلة في جنوب سورية، بالقرب من حدود إسرائيل والأردن بإشراف روسي كما يبدو، ومن دون أن يذكر شيئاً عن منع قوات إيرانية أو تلك الواقعة تحت سيطرتها من العمل في هذه المناطق أو من داخلها. ومع أنه لا توجد علاقة مباشرة بين الاتفاق وما سنذكره تالياً، فإن اقتراح قيام قوات أجنبية، والمقصود هنا روسية، بتأمين حدود إسرائيل مع سورية، يفرض التنبه للأخبار التي تحدثت عن دراسة الإدارة الأميركية إمكانية تبني خطة الجنرال ألان العائدة إلى فترة حكم أوباما، والتي تحدثت عن انسحاب الجيش الإسرائيلي من وادي الأردن وحلول قوات دولية محله.
•هناك بالطبع فوارق بين توجهات روسيا البعيدة المدى في سورية وتوجهات إيران هناك، لكن عملياً التعاون الحالي بينهما في هذه الساحة والاتفاق الجديد يعمقان الوجود الإيراني في أجزاء من الدولة. وقد عبر المستشار السابق لرئيس الحكومة في شؤون الأمن القومي اللواء في الاحتياط يعقوب عميدرور، عن رأيه في هذا الموضوع قائلاً: "إن بناء قواعد إيرانية في سورية هو بمثابة بناء قاعدة لانطلاق إيران وحزب الله ضد إسرائيل، ويتعين على إسرائيل أن تمنع ذلك بـأي ثمن. وإذا لم يؤخذ هذا في الحسبان من جانب من يقومون بوضع الترتيبات (أي الولايات المتحدة وروسيا)، فإن هذا يمكن أن يدفع الجيش الإسرائيلي إلى التدخل".
•إن هذه التطورات أيضاً هي اختبار للتحالف الجديد بين المعسكر السني البراغماتي بزعامة السعودية والولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، لأن هذا المعسكر مثله مثل إسرائيل والأردن، يعتبر التمدد والتمركز الإيرانيين تهديداً لأمنه. وقد كتب مايكل غروزن، كاتب خطابات جورج بوش الابن، في هذه الأيام في عموده في "واشنطن بوست" إن ترامب "خضع بصورة كاملة للمصالح الروسية في سورية. إن السياسة الأميركية الحالية تؤدي إلى نفوذ وتهديد روسي أكبر بكثير في أوروبا الشرقية وفي الشرق الأوسط، وهذا وضع سوف تستفيد منه إيران وكذلك النظام السوري وحزب الله".
•قد يكون ما يلي انتقاداً متطرفاً جداً، لكن من دون المبالغة في المقارنة، فإن سلوك الرئيس ترامب في موضوع الاتفاق بشأن سورية يذّكر بسلوك الرئيس أوباما بشأن الاتفاق النووي مع إيران: الاثنان ركزا انتباههما على الاتفاق بحد ذاته وتجاهلا انعكاساته السلبية على حلفاء أميركا في المنطقة. إن إيقاف المساعدة الأميركية للمتمردين السوريين هو على ما يبدو جزء من هذا التوجه. لكن من المهم الإشارة إلى أنه في الحالين فإن جزءاً ملحوظاً من أعضاء الكونغرس الأميركي يتحفظون من الاتفاق، ليس بسبب التهديد الأمني على إسرائيل، بل بسبب التهديد الأمني على الولايات المتحدة. وقد حاولت موسكو وواشنطن إزالة القلق الإسرائيلي من خلال تعهدات مختلفة، لكن حتى هذه اللحظة على الأقل، فإن هذه التعهدات لم تتحقق.
•لا يهدف هذا الكلام إلى التشكيك في مجمل السياسة الخارجية للإدارة الأميركية، لكن لا يمكن إلا أن يحيّرنا التعارض الظاهر بين المواقف السلبية الحازمة والواضحة في مسألة الاتفاق النووي مع إيران بما في ذلك فرض عقوبات جديدة عليها، والخطوات التي تخلي المجال عملياً أمام إيران في سورية. من المحتمل أنهم يعتقدون في واشنطن أن في الإمكان إدارة لعبة استراتيجية محكمة تأخذ في الحسبان النفوذ المتبادل، هذا مقابل ذاك، وبين عناصر مختلفة، روسيا، وإيران، وأوكرانيا وغيرها، لكن هذا التوجه يمكن ألا يبقى تحت سيطرة الطرف الذي يوجهه، ويمكن أن يؤدي في نهاية الأمر إلى نتائج عكسية.
•من المحتمل أن الأمر، على الرغم من الاتفاق، لم يحسم بعد في ما يتعلق بسورية عموماً وجنوبها خصوصاً في نظر الدبلوماسية الإسرائيلية، وأيضاً في نظر العالم السني البراغماتي، أو في نظر روسيا، وقبل كل شيء في نظر صديقة إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة. وفي الأسابيع المقبلة سيكون على الأميركيين مهمة أن يبذلوا كل جهودهم كي لا يتسبب اتفاق "وقف النار" تحديداً بإشعالها.