•الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يقم بمناورة علاقات عامة دولية ولم يكذب عندما أعلن أنه بدءاً من اليوم (الثلاثاء)، سيُخرج جزءاً من القوة العسكرية الروسية التي يحتفط فيها في سورية لأن هذه القوة حققت الأهداف التي وضعت لها. وذكر بوتين في بيانه في الكرملين هدفاً واحداً. قال: "الجيش السوري والقوى الوطنية في سورية (والمقصود الميليشيات الشيعية الموالية للأسد) نجحت في تحقيق منعطف أساسي في المعارك ضد الارهاب الدولي واستعادت زمام المبادرة من جميع النواحي تقريباً".
•هذا تحديداً ما جرى في سورية نتيجة التدخل الروسي في الأساس بواسطة القوة الجوية التي يبلغ تعدادها حالياً نحو 90 طائرة. لكن ليس هذا هو الانجاز الأساسي. إن الإنجاز الأساسي الذي حققه بوتين هو أن لروسيا الآن قاعدة بحرية مستقلة في مرفأ طرطوس، وقاعدة بحرية فرعية في مرفأ اللاذقية، ومطاراً عسكرياً في حميميم شمال اللاذقية، وقاعدة جوية فرعية في منطقة حمص. وهذا ما حلم به القياصرة في روسيا وأيضاً الاتحاد السوفياتي السابق قبل انهياره، وحققه بوتين من خلال استغلال الوضع الصعب للأسد في ربيع 2015.
•يومها كان الأسد يواجه الانهيار، ونظم الإيرانيون تدخل الروس. وقد سرّ بوتين الاستجابة لهذا الطلب لمعرفته بأنه إذا أرسل قوة جوية لمساعدة الأسد، فإنه سيحظى في المقابل بموقع عسكري ومدني سيتيح له السيطرة على كامل الحوض الشرقي للبحر المتوسط، ووضع حد للسيطرة الحصرية لحلف شمال الأطلسي والأميركيين على المنطقة.
•لقد أسرع بوتين إلى هناك لأسباب أخرى: طالما بقي الأسد في السلطة في سورية، فإنه سيضمن بقاء القواعد بيد روسيا. ويحتاج بوتين إلى استقرار الحكم في سورية، وفي هذه المرحلة الأسد يؤمّن ذلك، وليس الأسد وحده، بل الطائفة العلوية كلها التي استوطن الروس داخلها وأقاموا على أراضيها قواعدهم العسكرية. لقد أصبحت هذه الطائفة الآن محمية من جانب الروس وحصل بوتين على مراده، ويواصل السوريون شراء السلاح منه بتمويل إيراني.
•جميع هذه الإنجازات العسكرية والاقتصادية نجحت القوة الروسية الجوية في تحقيقها خلال خمسة أشهر ونصف الشهر. وبذلك حقق بوتين لنفسه أيضاً هدفاً سياسياً: فقد حدد مكانة روسيا كالقوة العظمى السائدة والقائدة في الشرق الأوسط، في حين اضطرت الولايات المتحدة إلى الانجرار وراء المبادرة الروسية وتنسيق عملياتها مع الكرملين.
•وتوفّر مكانة روسيا فوائد اقتصادية أخرى، وهذا مهم في الوقت الذي تنخفض فيه أرباحها من النفط، والذي هي فيه بحاجة ماسة لزبائن يشترون منتجات صناعاتها البتروكيميائية والعسكرية.
اعتبار بوتين الاقتصادي
•إن الإنجازات التي حصدها بوتين تتيح له إخراج جزء من قواته، ونظراً إلى وجود قواعد عسكرية ثابتة تسيطر عليها قوات روسية ويدافع عنها حزب الله والجيش السوري من الخارج، تستطيع روسيا في أي وقت اعادة طائراتها (القوات البرية الروسية التي تحتفط بها روسيا في سورية معدة لهدف واحد: الدفاع عن القواعد وجمع معلومات استخباراتية للطائرات الحربية الروسية التي تعمل في المنطقة).
•يبلغ عدد القوة البرية الموجودة في القواعد الجوية نحو 1500 شخص، ولديها عدد محدود من الدبابات والكثير من صواريخ الدفاع الجوي، لكنها ليست قوة هجومية. إنها قوة هدفها الدفاع والمحافظة على الإنجاز الضخم المتمثل في وجود القواعد العسكرية الضخمة الروسية في سورية. في مثل هذا الوضع، إذا ساء وضع الأسد ورجحت كفة المتمردين من جديد، يستطيع بوتين خلال ساعات معدودة - وليس في أيام - إعادة عشرات الطائرات. لا يشبه الوضع الانسحاب الروسي من أفغانستان الذي استمر أسابيع حتى انسحاب آخر مقاتل بري ومدرعة، ولا يشبه الانسحاب الأميركي من العراق.
•ويجب التذكير أنه من أجل قصف مواقع في سورية فليست هناك حاجة الى الإقلاع من الأرض السورية، فقد أثبت الروس أنهم يعرفون القيام بذلك من خلال قاذفات تقلع مباشرة من أراض في شرق روسيا، وتقوم بمهمتها وتعود خلال بضع ساعات (أو حتى بصواريخ تطلق من سفن حربية روسية موجودة في بحر قزوين).
•ولا يشكل هذا تغيراً دراماتيكياً في منظومة القوات التي ستبقى داخل سورية، ففي نهاية الأمر هذه الخطوة هدفها إظهار القوة وتوفير المال. في الواقع تواجه روسيا حالياً مشكلة صعبة في تمويل احتفاظها بقوة كبيرة على أرض سورية. ولا حاجة لروسيا اليوم إلى نحو 40 طائرة مقاتلة و25 طائرة قاذفة. ومن أجل القيام بما هو مطلوب يكفي نصف هذه القوة، فلذا حرام تضييع المال. من الأفضل إعادة القوات إلى روسيا ووضعها على أهبة الاستعداد تحسباً لاحتمال حدوث تغير نحو الأسوأ في وضع الأسد وقتاله ضد المتمردين. الأسد اليوم على "صهوة الجواد"، وتهدد قواته باحتلال مدينة تدمر المهمة واستعادتها من يد داعش. في وضع كهذا، فإن الاحتفاظ بقوة روسية كبيرة على أرض سورية يعد تبذيراً.
•ويجب أن نذكّر أيضاً بأمر آخر: عندما بدأ التدخل الروسي العسكري في سورية قال مسؤول رفيع في لجنة الخارجية والأمن في الدوما (البرلمان الروسي)، إنه من المفترض أن يستمر هذا التدخل ثلاثة أشهر وبعدها تعودالقوات الى روسيا. وهذا يعني وجود إرادة روسية مسبقة في التوصل إلى انجازات بواسطة القوة الجوية ثم إخراج الجزء الأكبر من القوات كي لا تتورط في قتال شبيه بالقتال في أفغانستان. لكن البرلماني الرفيع أخطأ، فقد استغرق الروس نحو ستة أشهر لتحقيق الأهداف وتعزيزها، والآن يستطيع الروس إخراج جزء أساسي من القوة وتوفير النفقات.
•وثمة عامل آخر هو استفتاءات للرأي العام أُجريت في الفترة الأخيرة في روسيا، وأظهرت أن دعم الجمهور الروسي للتدخل في الحرب في سورية انخفض من 72% في تشرين الأول/أكتوبر 2015 إلى 59% اليوم. وهذا التوجه مستمر. ولدى بوتين ما يكفي من المشكلات وهو في هذا الأمر يصغي إلى الرأي العام في بلاده ولا سيما على خلفية العبء الاقتصادي والشعبي الثقيل بسبب التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وهذا لا يعترف بوتين به.
العالم يضغط، الأسد يرفض الخروج إلى المنفى
•اليوم تكون قد مرت خمس سنوات بالضبط على اندلاع الحرب الأهلية في سورية. بشار الأسد لا يزال جالساً على كرسي الحكم والطائفة العلوية متركزة في الجيب الممتد على طول الساحل وفي منطقة دمشق. وهذا ما يريده الروس أن يستمر. ولكن الروس يريدون أيضاً تحقيق استقرار كي لا ينشأ تهديد على ما أنجزوه، ولذلك هم معنيون بحل سياسي ينهي الحرب ويخفف من الانتقادات الموجهة إلى الكرملين بسبب القصف العشوائي على المدنيين.
•وهناك حالياً دعوات في الساحة الدولية، وفي الأساس في أوروبا والولايات المتحدة، لمحاكمة الروس في المحكمة الدولية في لاهاي بتهمة ارتكابهم جرائم حرب. ولذلك، توجد مصلحة للروس في التوصل إلى حل سياسي من طريق المفاوضات.
•أمس بدأت جولة أخرى من المفاوضات بين المتمردين وبين نظام الأسد برعاية الأميركيين والروس والاتحاد الأوروبي. ومن يعرقل المفاوضات الآن هو بشار الأسد بعظمه ولحمه, ويبدو أن جميع المعنيين، بما في ذلك الإيرانيون والروس، مستعدون لقبول أن يتنحى الأسد عن الحكم بعد سنة ونصف السنة ويغادر مع عائلته إلى المنفى في إطار حل سياسي. والأميركيون أيضاً موافقون على ذلك، ولا يوجد لديهم خيار آخر. ولكن الأسد يرفض. وهو في هذه الأيام بالذات يطرح شروطاً مسبقة ويدلي بتصريحات تثير غضب المتمردين الذين بصعوبة وافقوا على القدوم إلى جنيف لإجراء مناقشات تمهيدية بشأن حل سياسي ممكن من شأنه أن يضع حداً للحرب في سورية.
•الروس ليسوا راضين عن تصرفات الأسد ومن المحتمل جداً أن إعلان بوتين هو إشارة تحذير قوية موجهة إلى الأسد وهو يقول فيها: إذا لم تكف عن إفشال المفاوضات بشأن حل سياسي، فنحن من الممكن أن نوقف دعمك عسكرياً.
•وأول من اتصل به بوتين ليبشره بالخطوة المفاجئة كان الأسد كي يجعله يفهم أن الكرملين أخرج له بطاقة حمراء وأن عليه أن يتصرف كما يجب وقد نشر مكتب الرئاسة السورية أمس بياناً رفض فيه التكهنات بأن هناك خلافات في الرأي بين الأسد وبوتين، وأكد أن ما جرى هو خطوة تمت بموافقة الطرفين ودرست خلال فترة زمنية معينة.
•روسيا، بالتنسيق مع الأميركيين كما يبدو، تريد إنهاء هذه الحرب كي تتفرغ للحرب الأكثر أهمية ضد داعش. وبوتين، مرة أخرى، هو المبادر. وقد تحدث هاتفياً مع الرئيس الأميركي باراك أوباما ودعا الإثنان إلى تسريع الاتصالات من أجل حل سياسي.
الزاوية الإسرائيلية – لا تغيير
•من ناحية إسرائيل، إخراج جزء من القوة الجوية الروسية من سورية لا يغيّر كثيراً. لا نعرف كم طائرة ستعود من هناك إلى روسيا ولكن من الواضح تماماً أن جزءاً كبيراً سيبقى ومعه سيبقى الحضور الروسي على الأرض السورية، بما في ذلك الصواريخ بعيدة المدى ضد الطائرات.
•وهكذا، من ناحية إسرائيل، سيظل قائماً وبدون تغيير التنسيق مع الروس وضرورة الأخذ بعين الاعتبار الوجود الروسي بالقرب من حدودنا.
•وفي هذه الأثناء أوضح مسؤولون رسميون في الولايات المتحدة أنهم لا يرون مؤشرات على الأرض تدل على أن الروس يستعدون لتنفيذ الانسحاب، وأن موسكو لم تخطر واشنطن سلفاً بقرارها المتعلق بسحب القوات. ومن بين السطور بالإمكان إدراك أن الإدارة الأميركية فوجئت إلى حد ما بهذه الخطوة.
•أما وفد المعارضة السورية لمباحثات السلام في جنيف، فقد بارك قرار بوتين، وقال إنه إذا حدث فعلاً انسحاب جدي – فيمكن أن يشكل ذلك ضغطاً على النظام السوري لدفعه إلى تبني مقاربة إيجابية حيال المفاوضات مع المجموعات المعارضة للأسد، وهذا من شأنه أن يزيد فرص التوصل إلى حل.