•يمكن القول إن الفلسطينيين الذين يخرجون لتنفيذ مهمات قتل يعلمون أنهم لن يعودوا سالمين، وهم يسعون إلى الموت كي يتحولوا إلى شهداء. وبهذا المعنى نحن نشهد عودة نمط الانتفاضة الثانية التي تميزت بإرهاب المخربين الانتحاريين. ولكن ثمة فارق بين الأمس واليوم، ففي الماضي وضع المخربون عبوات ناسفة على أجسادهم من أجل قتل أكبر عدد ممكن من الإسرائيليين. أما اليوم، لحسن الحظ، هم حتى الآن، مسلحون في أغلب الأحيان بحجر، أو بزجاجة حارقة، أو بسكين (هناك حالة واحدة استخدم فيها مسدس)، ومن هنا العدد القليل نسبياً للضحايا.
•في الانتفاضة الثانية التي استمرت أربع سنوات، قُتل نحو 1000 إسرائيلي ونحو 4300 فلسطيني. وبالاستناد إلى أرقام غير رسمية، منذ 1 تشرين الأول/أكتوبر الذي يعتبر تاريخ بدء موجة الإرهاب مع مقتل أبناء عائلة هنكين في الضفة الغربية، وحتى الآن قتل 7 إسرائيليين، وجرح نحو 100 من المدنيين والجنود ورجال الشرطة.
•أما في الجانب الفلسطيني فقد قُتل 23 شخصاً (11 في غزة، و7 في الضفة، والباقون داخل الخط الأخضر) إلى جانب 500 جريح.
•هناك بالطبع فوارق جوهرية بين الفترتين، فالانتفاضة الثانية كانت منظمة والمخربون الانتحاريون انتموا إلى تنظيمات وكانوا يرسلون في مهمات من قبل قياداتهم في "حماس" أو الجهاد الإسلامي، و"فتح" والجبهة الشعبية. وكانت لدى إسرائيل عناوين لضربهم هي تنظيم "فتح" والبنية التحتية لـ"حماس" والأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية.
•اليوم الوضع مختلف، فلا يوجد عنوان، برغم أننا بدأنا نسمع أصواتاً يائسة ومحبطة من الحكومة والائتلاف تتحدث عن إرهاب منظم وعن يد توجهه. وتستغرب هذه الأصوات كيف يمكن أن يحدث يوماً تلو الآخر وفي وقت واحد عدة هجمات إرهابية في عدة نقاط بعيدة عن بعضها بعضاً، في القدس ورعنانا، وكريات غات، ومغدال هعيمق، وغان شموئيل، وغيرها. وهم يستخلصون من ذلك وجود تقصير استخباراتي بمعنى أن الشاباك والاستخبارات العسكرية لم تقدر بصورة صحيحة حدوث ما يحدث.
•إن الحقيقة البسيطة هي أن موجة الإرهاب الحالية ليست موجة منظمة. فليس هناك قيادة مركزية تعطي التعليمات وتدفع بالخلايا أو بمهاجمين أفراد إلى القيام بهجمات إرهابية. هذه هي تقديرات الشاباك والجيش الإسرائيلي. أما بالنسبة لأجهزة السلطة الأمنية والاستخباراتية فقياداتها تواصل الطلب منها التنسيق مع الأجهزة في إسرائيل.
•إن موجة الإرهاب الحالية تتغذى بصورة أساسية من المناخ العام وليس من تعليمات أبو مازن، بعكس حقبة عرفات والانتفاضة الثانية. وفي الواقع، إن أعمال العنف الموجهة ضد الاحتلال الإسرائيلي، هي أيضاً، ولا اقل من ذلك، تعبر عن المعارضة والتمرد ضد رئيس السلطة الفلسطينية والزعامة القديمة التي لم تعد ذات أهمية. إن تدهور علاقة الجمهور الفلسطيني بقيادته يعود إلى حد كبير إلى علاقة هذه القيادة بإسرائيل، فطوال سنوات عديدة استخفت حكومات إسرائيل بأبو مازن. قبل نحو عشر سنوات وصفه أريئيل شارون "بالصوص المنتوف الريش". واليوم تحققت النبوءة الإسرائيلية. صار أبو مازن ضعيفاً وغير ذي أهمية وليس هناك فعلاً من نتحاور معه.
•يمكننا إطلاق تسمية "التحريض" على المناخ العام. ففي قنوات التواصل الاجتماعي ومحطات الراديو والتلفزيون الفلسطينية وخاصة التابعة لـ"حماس"، يضخمون ويهللون لأعمال الإرهاب ويعطونها قيمة كبيرة (ومن المفارقات أن التغطية الإسرائيلية في الإعلام وقنوات الاتصال تساهم في ذلك عبر نشر صور القتلى من المخربين).
•تدعو "حماس" مراراً وتكراراً الضفة الغربية إلى انتفاضة ثالثة، لكن ليس في غزة، فهي تعلم جيداً أنه سيكون من السهل على إسرائيل الرد هناك ضدها بقوة.
•بالاستناد إلى تقديرات الشاباك والاستخبارات العسكرية، فإن الذي يثير التحريض هو جبل الهيكل [الحرم القدس الشريف] واستخدام حجة أن إسرائيل تحاول تغيير الوضع القائم هناك. وهذه حجة كاذبة، لكن مطالب اليمين واهتمامه المهووس بـ"جبل الهيكل المقدس" بالنسبة للأديان الثلاثة، والذي يشاركه فيه اليمين الهاذي وأنصار حزب البيت اليهودي مثل الوزير أوري أريئيل وعضو الكنيست العلماني يونان ميغل، لا يساعد في تكذيب ذلك.
•يشير تحليل منفذي الهجمات إلى أنهم في أغلبيتهم دون العشرين من أعمارهم ومن القدس الشرقية، وهم يحملون هويات زرقاء ولس لهم سوابق أمنية، أي أنهم فلسطينيون من سكان إسرائيل ومن مواطنيها.
•هناك ميل انفصامي وسط المجتمع الإسرائيلي بشأن كل ما يتعلق بالاستخبارات. فهناك من جهة تقدير أعمى لأجهزة الاستخبارات، ومن جهة أخرى هناك اتهام لها منذ سنوات بكل الأحداث الأمنية غير المتوقعة أو غير المسيطر عليها.
•مع أن مهمة الاستخبارات التحذير، فإنه من الصعب منع مثل هذه الهجمات لأن الفلسطيني الذي يصعد إلى الحافلة ويطلق النار على الركاب، أو الذي يصعد إلى الحافلة ويحاول سرقة سلاح جندي، أو ذلك الذي يقود سيارته ويدهس أشخاصاً، أو الذي يطعن ماراً أو رجال شرطة أو جنوداً، لا تستطيع الاستخبارات منعه لأن الإرهاب هنا ثمرة مبادرة فردية وليس منظمات، ومن الصعب للشاباك والاستخبارات العسكرية جمع معلومات مسبقة عن ذلك، ولا يمكنها إدخال عملاء يقدمون لها تقارير عن الخطط والنيات، كذلك فإن التنصت على أحاديث الهاتف لا يقدم هذه المعلومات.
•هذا هو الواقع الذي يرتسم أمام أعيننا. يمكننا أن نطلق عليه أسماء مختلفة: انتفاضة السكاكين، انتفاضة الشباب، انتفاضة الفايسبوك، أو موجة ارهاب. جميعها مناسبة، لكن الاسم ليس مهماً. المهم أن هذه الموجة مستمرة منذ أسبوعين، وهي في الحقيقة موجودة منذ أكثر من سنة.
•إن القيادة العليا للجيش ورؤساء الشاباك نقلوا تقديراتهم إلى المستوى السياسي، إلى رئيس الحكومة ووزير الدفاع، والمجلس الوزاري الأمني المصغر، وفيها أنه في غياب عملية سياسية من الممكن أن يحدث انفجار. وفي الواقع لم تكن هناك حاجة إلى تقديرات المصادر الاستخباراتية، فالعديد من المعلقين وبينهم كاتب هذه المقالة حذروا من ذلك خلال السنة الماضية أكثر من مرة. وقبل أسبوعين، قبل مقتل الزوجين هنكين، كتبت في هذه الزاوية مقالاً بعنوان "سياسة قصيرة النظر وكثير من اليأس: موت الوضع القائم في المناطق". لكن رئيس الحكومة ووزير الدفاع والحكومة، المتمسكين بأيديولوجيتهم ونظرتهم، والذين هم أسرى سياسيين في يد اليمين والمستوطنين، رفضوا تغيير هذا التوجه ولو بمقدار قليل.