بين حركتين قوميتين] (الجزء الثاني)
المصدر
هآرتس

من أهم وأقدم الصحف اليومية الإسرائيلية، تأسست في سنة 1918، ولا تزال تصدر حتى اليوم، ورقياً وإلكترونياً، كما تصدر باللغة الإنكليزية وتوزَّع مع صحيفة النيويورك تايمز. تُعتبر هآرتس من الصحف الليبرالية والقريبة من اليسار الإسرائيلي. وهي تحتل المرتبة الثالثة من حيث التوزيع في إسرائيل. تُصدِر الصحيفة ملحقاً اقتصادياً بعنوان "ذي ماركر".

•في ضوء الجمود في المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين نسمع من جديد في إسرائيل وفي الخارج أصواتاً تطالب الإدارة في واشنطن بأخذ الموضوع على عاتقها والضغط على الطرفين للعمل من أجل استئناف المفاوضات. ووفقاً لهذه النظرة، فإن مفتاح السلام موجود في يد الولايات المتحدة، وبصورة خاصة في يد الرئيس باراك أوباما، ويجب عليه أن يستخدمه. لكن ليس هناك خطأ أكبر من ذلك. 

•في جميع النزاعات القومية في الأعوام الأخيرة- قبرص، كوسوفو، البوسنة- وبرغم جميع الجهود، لم تنجح الولايات المتحدة في التوصل إلى تسوية سلمية مقبولة من الطرفين. ويتضح أنه برغم قوتها العظيمة فإنها ليست قوية بما فيه الكفاية للتوصل إلى اتفاق لا يرغب به الطرفان أو ليسا مستعدين له. 

•وينطبق هذا منذ عشرات السنين على النزاع الإسرائيلي- العربي. فالولايات المتحدة قادرة على ان تلعب دوراً إيجابياً فقط عند حدوث واحد من سيناريوين: عندما تقع حرب فعلية، أو بالعكس، عندما يُجري الطرفان مفاوضات ناجحة لكنهما يجدان صعوبة في التوصل إلى اتفاقات نهائية، حينئذ يستطيع التدخل الأميركي أن يتغلب على العراقيل الأخيرة. وفي غياب أحد هذين الشرطين، فإن جميع المحاولات الأميركية حتى الآن فشلت.

•دعونا نتفحص هذين السيناريوين. أولاً، كيف تنجح الولايات المتحدة في وقف الحروب أو في منع تدهورها:

•في 1956 أدى الموقف الأميركي الصارم إلى انسحاب إسرائيلي من سيناء وقطاع غزة، ومنع تدخلاً عسكرياً سوفياتياً، وساهم في تحقيق اتفاق تجريد سيناء من السلاح الذي ظل صامداً حتى سنة 1967.

•في سنة 1973 كبحت الولايات المتحدة في نهاية حرب الغفران [حرب تشرين/أكتوبر] تطويق الجيش المصري الثاني من قبل الجيش الإسرائيلي ومنع انتصار إسرائيلي ساحق أكثر من اللزوم، وساهمت في تحقيق اتفاقات الفصل بين مصر وسورية.

•في سنة 1982، وبعد اغتيال بشير الجميل على يد السوريين، منعت الولايات المتحدة دخول القوات الإسرائيلية إلى غرب بيروت، الأمر الذي كان سيوسع دائرة الحرب.

•في 1991، في حرب الخليج الأولى، منعت الولايات المتحدة هجوماً إسرائيلياً على منظومة الصواريخ العراقية كان سيزعزع التحالف الأميركي- العربي ضد صدام حسين.

•في كل حدث من الأحداث المذكورة أعلاه كان في مقدور الأميركيين التوصل إلى وقف القتال فوراً، وكانت تكفي رسالة أميركية قاطعة لإسرائيل كي توقف القتال، أو كي تمتنع عن خطوات عسكرية متطرفة. وكان الأميركيون يضمنون تنفيذ طلبهم خلال وقت قصير. ولم يكن المقصود عملية طويلة الأمد، ولا التوصل إلى اتفاق شامل، بل كان المقصود وقفاً فورياً للقتال يمكن التحقق من تنفيذه بسهولة. 

•الآن سأتفحص السيناريو الآخر - أي عندما يجري الطرفان مفاوضات ناجحة، لكن هذه المفاوضات تتعرقل في مراحلها الأخيرة:

•هذا ما جرى بعد زيارة أنور السادات إلى القدس في 1977. لم تكن الولايات المتحدة هي التي بادرت إلى اقتراح هذه الزيارة التاريخية بل العكس، فالرئيس الأميركي جيمي كارتر، ووزير خارجيته زبغنيو بريجينسكي فوجئا بمبادرة السادات، وتخوفاً من أن تؤدي الى زعزعة التوازن الهش الذي نشأ بعد حرب يوم الغفران وخطط التسوية الشاملة بمشاركة الاتحاد السوفياتي. وفي ما بعد أيدت الولايات المتحدة العملية، وخلال أكثر من سنة دارت مفاوضات ثنائية بين إسرائيل ومصر. وتوصل الطرفان إلى اتفاق على معظم الموضوعات، لكن بقيت بضع مشكلات كان من الصعب التغلب عليها. حينها- وفقط حينئذ- دعا الرئيس كارتر السادات وبيغن إلى كامب ديفيد، ومن خلال استخدام ذكي لأسلوب العصا والجزرة، نجح في دفع الطرفين إلى تسوية القضايا التي كانت ما تزال عالقة.

•مساهمة أميركية مشابهة برزت خلال المفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في سنة 1993. حينها أيضاً لم تجر المفاوضات بمبادرة أميركية. وفي فترة معينة غضبت الولايات المتحدة من إسرائيل لأنها لم تطلعها عليها. وقد اتفق على معظم الموضوعات في أوسلو بين حكومة يتسحاق رابين وقيادة منظمة التحرير برئاسة ياسر عرفات. لكن هنا أيضاً بقيت قضايا عالقة. حينئذ فقط دعا الرئيس بيل كلينتون رابين وشمعون بيرس وعرفات إلى واشنطن حيث جرت تسوية الخلافات وتوقيع الاتفاق في حديقة البيت الأبيض.

•في الحالتين لم تكن المفاوضات بمبادرة أميركية، بل جاءت من جانب الزعماء المحليين. وفي الحالتين، دفع زعماء الطرفين ثمناً سياسياً باهظاً لقاء المفاوضات بحد ذاتها، وبرغم ذلك احتاجوا إلى دفع أميركي نهائي من أجل التوصل إلى اتفاق.

•فقط في هاتين الحالتين- حرب أو مفاوضات جارية-  قامت الولايات المتحدة بدور إيجابي ومهم: وقف فوري للحرب أو ردم الهوّات الباقية في المفاوضات الثنائية التي تعرقلت قبل انتهائها. وعندما يتوفر هذان الشرطان، فإن جميع المحاولات الأميركية للمساعدة في التوصل إلى اتفاق فشلت، بدءاً من مبادرة روجرز [1970] (من يتذكرها؟)، مروراً بمؤتمر مدريد [1991]، ثم وصولاً إلى كامب ديفيد [2000]، وأنابوليس [2007]، ومحاولات أوباما وجون كيري الفاشلة. عندما لا تحدث حرب أو عندما لا يكون لدى الطرفين أو واحد منهما الإرادة أو القوة السياسية للتوصل إلى اتفاق، فإن المحاولات الأميركية تذهب أدراج الرياح.

•هذه الدروس لها علاقة بالاستنتاجات التي عرضتها في مقالتي "بين حركتين قوميتين" ("هآرتس" 27/9): إن الاعتقاد بأن الولايات المتحدة قادرة على التوصل إلى حل النزاع وهم، لذا فإن مسؤولية الحل ملقاة علينا. إن أحد العوائق التي تقف في وجه استيعاب هذه الحقيقة سببها أن جزءاً من الجمهور المعتدل في إسرائيل- المهيأ لأن يشكل بديلاً من حكومة اليمين الحالية - مشغول بلعبة المراوغة، وبماذا يمكن أن يفعل لو كان في الحكم. لكن في رئاسة الحكومة هناك بنيامين نتنياهو، ومع الأسف، فإن افتراض أن حكومته آيلة إلى السقوط وهم. وثمة وهم مشابه يتعلق بكلام المعارضة وزعمائها الذي مفاده بشأن أن كل ما يجب فعله هو العودة إلى طاولة المفاوضات، وحينها مع دعم أميركي يتحقق الاتفاق.

•لكن حتى لو استؤنفت المفاوضات هل هناك من يعتقد أن نتنياهو سيقترح على الفلسطينيين أكثر مما عرضه عليهم إيهود باراك وإيهود أولمرت ورفضوه؟ 

•يتعين على المعارضة أن تناضل ضد سياسة الحكومة في ما يتعلق بموضوع أكثر أهمية: المطالبة بالوقف المطلق ومن دون أي شرط للبناء في المستوطنات كي لا تثقل أكثر على المفاوضات إذا بدأت. إن الحقيقة القاسية هي عدم امتلاك المعسكر الصهيوني الشجاعة السياسية لقول شيء من هذا النوع خوفاً من أن يضره انتخابياً. على الأمد القصير، قد يكون هذا صحيحاً، لكن ليس من المنتظر اجراء انتخابات في وقت قريب. يتعين على المعارضة تقديم سياسة بديلة تمنع تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية.

•في الإمكان المبادرة– ربما بدعم من يهود الشتات- إلى طرح خطة سخية (إخلاء- تعويض) على المستوطنين في الضفة الغربية المستعدين للعودة إلى إسرائيل ضمن حدود الخط الأخضر. لقد نجح اليمين الإسرائيلي في تجنيد متبرعين يهود من أنحاء العالم من أجل توسيع المستوطنات وشراء مبان في المناطق وفي القدس الشرقية، فلماذا لا يستخدم اليسار هذه الطريقة ويجند المعتدلين بين يهود الشتات من أجل القيام بشيء ملموس- وليس من أجل اطلاق التصريحات- وللدفع بسياسة بديلة على قاعدة تطوعية؟ وحتى منظمة جي- ستريت ربما تستطيع المساهمة بشي إيجابي ولا تكتفي فقط على انتقاد سياسة إسرائيل.

•دعونا نتخيل ماذا سيجري لو أن يستحاق هيرتسوغ قال الكلام التالي: "كرئيس حكومة سأوقف البناء في المستوطنات، وكرئيس للحكومة سأخلي البؤر الاستيطانية غير القانونية مثلما تعهدت به الحكومات السابقة؛ وسوف أعمل بمساعدة يهود الشتات على تحقيق خطة إخلاء- تعويض سخية". إن مثل هذا الكلام حتى لو أثار معارضة اليمين، فإنه يستطيع أن يشكل أساساً لنشوء معسكر صهيوني واسع النطاق- وربما أيضاً سيساعد على انتقال أغلبية المؤيدين لحزب يوجد مستقبل إلى معسكر برئاسة هيرتسوغ. وهذه خطوة أساسية من أجل احتمالات الفوز في الانتخابات المقبلة.

•مثل كثيرين غيري، أنا أيضاً أرغب في رؤية مفاوضات وتسوية بيننا وبين الفلسطينيين غداً. لكن بعد 20 عاماً، ومع حكومة يمين من الصعب رؤية كيف يمكن أن تسقط، ممنوع أن نقع في وهم أن واشنطن ستكون المنقذ، وأننا إذا عدنا إلى طاولة المفاوضات فإن النتيجة ستكون مختلفة عما كانت عليه في السنوات الـ20 الأخيرة. يجب ألا ننسى أنه في الحكومات التي فشلت في المفاوضات مع الفلسطينيين في التوصل إلى اتفاق دائم، كان الذين أداروا المحادثات هم باراك وأولمرت وتسيبي ليفني (كي لا نتحدث عن يوسي بيلين الذي ذهب أبعد منهم). من السهل اتهام نتنياهو، لكن تلك كانت حكومات معتدلة، وبرغم جميع نياتها الحسنة فشلت عندما أجرت مفاوضات مع وهم أنه يمكن التوصل لاتفاق (أو كما كانت تقول ليفني كل شيء سيحل "عندما سندخل إلى الغرفة").

•لم يحدث هذا، لذا ينبغي التفكير بطريقة خارج المألوف واقتراح خطوات حقيقية قد لا تحقق سلاماً لكنها ستزعزع الوضع القائم. إن المعسكر الصهيوني على خطأ عندما يركز فقط على المطالبة باستئناف المفاوضات، فهذه المطالبة لا تشكل خطة سياسية. كثيرون في إسرائيل ينتظرون مثل هذه المبادرة لكنهم يرون في كلام المعارضة مجرد ضريبة كلامية فقط يمكن تكرراها لأنها غير ملزمة. إن مرور 20 عاماً بعد اتفاق أوسلو كافية كي نفكر بطريقة خارجة عما درجنا عليه.

•لا يوجد أي ضغط خارجي يمكن أن يؤدي إلى خلاص إسرائيل سوى الضغط الداخلي. وكما لم تنجح الولايات المتحدة في حل مشكلة أقل تعقيداً مثل مشكلة قبرص، فإنها غير قادرة على حل النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني. 

 

ومن أجل عدم تحول إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية ومنع التدهور إلى عنف لا نهاية له، فإنه يجب على المعارضة بزعامة هيرتسوغ أن تقود بحزم وصدق.

_________

   تجدر الإشارة إلى أن القوات الإسرائيلية دخلت إلى الشطر الغربي من بيروت في 15/9/1982 على عكس ما يقوله الكاتب . (المحررة)